انتهت الحرب العالمية الأولى في 11 نوفمبر 1918 باستسلام المانيا بما عرف ب " الهدنة " في عربة قطار، ستدخل التاريخ، في محطة قطار صغيرة في مدينة روتند. لكن بعد ذلك بشهور وفي مؤتمر باريس وقعت معاهدة فرساي التي بشروطها سحقت المانيا اكثر مما سحقتها اربع سنوات من حرب ضروس، كانت حتى ذلك الوقت، افظع حرب في التاريخ.
بعد شهرين من الهدنة عقد مؤتمر باريس في قصر فرساي، بضعة كيلومترات عن العاصمة الفرنسية، بحضور ممثلي 27 دولة اكثرهم تأثيرا جورج كليمنصو رئيس الوزراء الفرنسي ونظيره البريطاني لويد جورج والرئيس الأمريكي ويلسن الذي حمل مبادئه ال 14 للمؤتمر من اجل خلق عالم جديد يسوده السلام وبعض الطمأنينة للبشرية. في اربعة ايام دبجت مسودة اتفاقيات غيرت العالم واعادت تقسيم بلدان بين المنتصرين واقتطاع اجزاء من هنا وهناك في امبراطوريات تهاوت كقصور من الورق ومنحها لهذه الدولة او تلك. تعامل الأنكليز والفرنسيين مع جثة العالم الجريح، الخارج توا من الحرب تعاملهم مع جثة ثور ذبيح؟ غادر الرئيس الأمريكي ولسن المؤتمر قبل نهايته بعد مشادات مع الفرنسي كلينصو الذي ردد " ان الله انزل على موسى عشر وصايا والسيد ولسن جاءنا بأربعة عشر؟ ".لم يكن هناك من قرار ايجابي للمؤتمر سوى الأعلان عن تشكيل عصبة الأمم، فكرة امريكية لتنظيم العلاقات بين الدول سرعان ما تهاوت بعد عقدين، كنتيجة من نتائج فرساي.
في العام نفسه، في شهر حزيران، اجبرت المانيا المهزومة على توقيع ما عرف بمعاهدة فرساي بشروطها القاسية والمجحفة والتي تفصلها اكثر من 100 صفحة، بخمسة فصول تقنية، تكرس ذل المانيا.اجبرت المانيا على دفع تعويضات فلكية للمنتصرين دمرت اقتصادها كليا،وتقليص جيشها الى 10 بالمئة من الجيش الذي خاضت به الحرب، حلت قوتها الجوية ومنعت من تصنيع الطائرات، جمدت قوتها البحرية، اقتطعت من ارضيها اجزاءا جنوبا وشمالا و غربا وسلمت ومنحت الى دول محاذية. جيكوسلوفاكيا وبولندا وفرنسا. مئات الشروط التي جعلت المانيا تترنح وسط اوربا " ولاتعرف اين تعطي وجهها " كما يقول التعبير العراقي. تعاملت فرنسا مع المانيا المهزومة بعقليتها اليعقوبية من منطق الثأر والرغبة على تركيع الخصم، الأمر الذي ستدفع ثمنه بعد 20 عاما في هزيمة ماحقة امام القوات الألمانية لحظة الغزو النازي لفرنسا واحتلالها. سيجبر ادولف هتلر فرنسا وممثلها المارشال بيتان، بطل الحرب العالمية الأولى، على توقيع معاهدة الأستسلام في نفس المحطة ونفس عربة القطار التي وقع فيها الجنرال الألماني استسلام المانيا في 11 نوفمبر قبل أثنين عشرين عاما. حين هبط هتلر من عربة القطار تاركا جنرالات فرنسا المهزومين يشربون كؤوس شمبانيا الذل وحدهم، قهقه امام مساعديه وصرح: واحدة بواحدة واضاف: تركتهم يدبرون امر المراسيم وحدهم لا يستحقون ان اشرب نخبا معهم.كأنه يردد ماقاله يزيد بن معاوية: كربلاء ببدر؟
كانت معاهدة فرساي ضربة قاصمة لألمانيا واقتصادها وكبريائها الجرماني لكنها في لحظة توقيعها حملت بوريثها الشرعي: الحرب العالمية الثانية. بعد ثلاثة اعوام من توقيع المعاهدة دخلت القوات الفرنسية واحتلت مقاطعة الرور الغنية بالفحم وصناعة الصلب في قلب اقليم الراين في الغرب الألماني المحاذي لفرنسا.تعدى الأحتلال الفرنسي حدوده في تلك الأعوام بحصار يومي و تنكيل بسكان المقاطعة المحتلة وصل مداه الأقصى في شتاء عام 1923 حينما منعت فرنسا توزيع الفحم على الألمان. كان شتاء قاسيا ذلك العام مات فيه المئات من سكان الرور بردا او مقتولين برصاص الجيش الفرنسي بعد احتجاجاتهم التي زادها عنفا برد ذلك الشتاء القارص.
ظلت هذه الحقبة بقسوتها وشعور الذل الألماني راسخة في ذاكرة جيل كامل من الشعب الألماني، وساهمت اضافة للبنود الأخرى من معاهدة فرساي في نحت روح " جرمانية نازية " ذاق العالم كله مرارتها وجسدتها الحرب العالمية الثانية وبشاعتها والخمسين مليون ضحية والمدن التي اصبحت ركاما من ستاليغراد حتى دريسدن، واخيرا هيروشيما وقنبلتها الذرية.يتسائل اكثر من مؤرخ، هل كان ذلك بسبب عجرفة كليمنصو ام شهية التاج البريطاني الذي مثله لويد جورج؟ بقي ايضا غضب الرئيس الأمريكي ولسن الذي ترك مؤتمر باريس محتجا كأنه يكرر غضب اخيل في الياذة هوميروس.
اليوم في العراق يتكرر شئ او بعض من هذا، في صورة مصغرة" الحكايات ليست في طولها بل في معانيها " لكنها ربما ان لم تعالج فستعطي ثمارا مشابهة لثمار اوربا الماضي.هناك حصار، معترف به من الطرفين على اقليم كردستان. حصار ظالم، ككل حصار على شعب، خصوصا ان العراق كشعب وبلاد له تجربة عميقة، مرة ودامية وحزينة في الحصار الذي مازال العراق يدفع ثمنه بسبب حماقة حاكمه السابق. واقعيا اليوم، انتصرت الحكومة المركزية في عملية تطبيق دستورها بالقوة العسكرية بعد فشل الحلول المدنية على كركوك ومناطق مختلف عليها. لن نجادل حق الدولة في فرض دستورها على كل مكان في البلد، بصرة ام اربيل، ناصرية ام دهوك.من حق الدولة التواجد في كل مكان من البلاد وفقا للدستور المكتوب والموافق عليه من الأغلبية والأقليات. الدستور هو الفاصل في مفهوم الشراكة وفي الفصل في النزاعات السياسية. لكن ليس دستوريا او وطنيا او انسانيا فرض حصار على جزء من الشعب الكردي، الذي مازال جزءا من الشعب العراقي.الدولة العراقية مطالبة بحماية مواطنيها سواء تعلق الأمر بداعش او باستفتاء الأنفصال الذي لا يتحمل الشعب الكردي في العراق مسؤليته وتبعاته، رغم مشاركته فيه بشكل واسع لأسباب مفهومة، نحن في حل عن تفاصيلها الآن. سنفرد مقالة خاصة لعملية " تحنيط الشعب الكردي " التي مارستها اجهزة اعلام الحزب الديمقراطي الكردساني على الشعب والقوى السياسية الأخرى في الساحة الكردية فيما يتعلق بأستفتاء الأنفصال.. لقد دفع الشعب العراقي ثمنا باهضا بسبب عنجهية صدام واليوم يدفع الشعب الكردي ثمنا، سيكون باهضا، بسبب عنجهية مسعود. وهو في الحالتين براء. التجويع والأذلال لا يتعلق بالسياسة قدر ما يتعلق بالأبتزاز والأنتقام. وتلك ليست مهمة الدولة. عليها ان تكون اعلى من هذا بقانونها الأساسي القديم، قدمها.على الدولة فرض وجودها بوسائلها المتاحة في دستورها بما فيها القوة، سواء تعلق الأمر بالمنافذ الحدودية او السدود او النظام الضريبي او النفطي او حرس الحدود... الخ. من حقها توقيف او استعمال القوة مع من يتجاوز عليها او يتحداها ولكن ضمن القانون المكتوب وليس العرفي. لكن تجويع واذلال جزء من شعبها ينفي وجودها المعنوي اولا ثم بعد حين وجودها المادي وقد جرب العراق ذلك قبل عقد ونصف. 
الشعب الكردي في كردستان العراق، اليوم، وليس شمال العراق الذي يعود بنا بعيدا الى الوراء، يعاني من كماشة حكومته الأقليمية التي فقدت رشدها، وتشهد احداث الأمس واليوم على ذلك، وفي نفس الوقت من كماشة الحصار المادي الذي تفرضه الحكومة المركزية عبر تفاصيل الرواتب خصوصا. للمضي نحو حلول توافقية لابد للدولة العراقية المركزية من تغيير سياستها عبر فك الحصار عن الشعب الكردي في كردستان وتضييقه على حكومة الأقليم التي فقدت بوصلتها وعوضتها برصاص حي جعل من شوارع كردستان حمراء بعد ان كانت جبالها حمراء لقرابة قرن.