إن المظاهرات التي شهدتها مدينة السليمانية في إقليم كردستان وبعض من قصباتها، هي نتيجة طبيعية ومتوقعة لتفاقم الأوضاع الإقتصادية والأزمة المالية الصعبة التي يعيشها الإقليم، وهناك تفسرين مختلفين لوقوع الإضطرابات الأخيرة، أحدهما يتهم بغداد بأنها الجهة المسؤولة أساساً عما يحدث اليوم في الشارع الكردي، لأنها هي التي قطعت الميزانية عن الإقليم ودفعت به الى أن يُجري أستفتاءاً سريعاً لتقرير المصير دون أن يدرس حيثيات الموقف الدولي الرافض للإستفتاء و يقرأ رفض بغداد لهذا الإجراء أيضاً ولعواقبه الإقتصادية والسياسية الوخيمة، ما أدى في النهاية الى هذه الأزمة الراهنة وإنفجارها جماهيرياً.

وثمة من يقول أن الإزمة المالية نابعة أصلاً عن ظاهرة الفساد والمحسوبية المتفشية في الإقليم وسوء الإدارة وغياب العدالة في توزيع الثروة والسلطة،فضلاً عن إنعدام الإصلاحات الحقيقية، والطرف المسؤول عن كل ذلكليس إلا حكومة كردستان لاغيرها، ومن يمثل هذا الإتجاه هو الأحزاب التي قررت الإنسحاب أخيراً من الحكومة إستجابةً لضغوطات قواعدها والشعور بإنعدام الجدوى من البقاء أكثر في الحكومة، لاسيما أن حركة التغيير، وهي التيار الأبرز في المعارضة الكردية، قد اُقصيت من السلطة واُقيلت وزرائها من المهام قبل عامين بعد أن دخلت الحركة مع حزب البرزاني في صراع سياسي محتدم، قوض، في النهاية، الإتفاقية المبرمة بينهما، التي تشكلت، بموجبها، الحكومة الحالية. 

اليوم يطالب المتظاهرون بإنهاء الأوضاع الإقتصادية السيئة والحالة المعيشية المتردية وإجراء الإصلاحات وصرف الرواتب في وقتها المحدد، وكل هذا، مطالبات واقعية ومشروعة، ولا خلاف على أي منها، إلا أن الإشكالية هي أن ثمة من يحمل اليوم بين صفوف المتظاهرين شعارات راديكالية غيرت لنا المشهد كله!، أبرزها المطالبة برحيل النخبة الحاكمة في الإقليم وإسقاطها بمنطق القوة ولغة السلاح والقتال، وهذا ما ترفضها الأحزاب الحاكمة، لاسيما بعد رصد عناصر داخل المتظاهرين قامت بإطلاق النيران على المقرات الحزبية، أو شجعت إحراق المرافق العامة والخدمية، الأمر الذي أعطى الذريعة لأن تَرُد عليه القوات الأمنية رداً عنيفاً وصل الى حد شنها حملات واسعة للإعتقالات بحق أشخاص معينة من بين المحتجين ظهر أن بعض منهم- حسب المعلومات المسربة من الأجهزة الأمنية- ينتمي الى المعارضة والآخرين من الصحفيين ونشطاء المجتمع المدني.

ما نود قوله هنا أن ثمة مشكلة حقيقية اليوم تواجه مواصلة هذه الإحتجاجات الجماهيرية المشروعة، وهي أن البعض من داخل صفوفالمحتجين، مازالوا مصرين على التشبث بالعنف وإتخاذه كوسيلة (ناجعة)للتعبير عن الإحتجاجات ومواجهة قوات الشرطة والأمن. وهذا التطور، الذي لم تشهده المظاهرات السابقة إطلاقاً، سرعان ما سلب من الجميع ممارسة حق التظاهر والإقبال على مواصلته لحد وصول الأمر معه الى أن تُطرح اليوم اساليب أخرى بديلة في تنظيم الإحتجاجية القادمة، وذلك تجنباً للوقوع في فخ العنف والممارسات غير المدنية، وقد كانت للمصادمات العنيفة، التي وقعت في الإضطرابات الأخيرة، خصوصاً في مناطق "رانية" و"بيرمكرون"، آثاراً سلبية واضحة على الجميع جعلت معظم الشرائح والقوى الإجتماعيةوالمدنية الراقية في المراكز الحضرية، تخشى المزيد من حالات العنف بسبب المظاهرات وبالتالي فقدان الرسالة الإحتجاجية أيضاً لمضامينها الموضوعية والحقيقية. 

كما أن حالات إحراق بعض المرافق الخدمية والمؤسسات العامة للحكومة في بعض القصبات الكردستانية، هي الأخرى أضرت بسلمية التظاهرات،وسوغت تدخلاً عنيفاً للقوات الأمنية لتفريق المتظاهرين، أعقبته حملاتمكثقفة للإعتقالات بحق الذين تتهمهم الجهات الأمنية بأنهم قاموا بتحريضالمتظاهرين على استخدام العنف وإخراج سير المظاهرات عن طابعها المدنيالمنضبط، وقد طالت إجراءآت الأجهزة الأمنية للأسف حتى بعض الشخصيات السياسية وصولاً الى إعتقالات عشوائية أخرى غير قانونية للأسف، من هناك أو هناك.. وهذا ما دفع أخيراً بكل الأحزاب تقريباً أن يطالبوا بتظاهرات سلمية ومدنية خالية من العنف والكراهية والإضرار بالمرافق العامة كما ورد في البيانات الرسمية للأحزاب المعارضة والسلطة على حد سواء.

أن وجه من وجوه المشكلة اليوم يكمن في أن حركة التغييير كانت ولاتزال حركة سياسية محلية، بل انها غير فاعلة مطلقاً إلا في حدود مدينة السليمانيةوالمناطق المجاورة لها، أما الأحزاب الأخرى المعارِضة فهي حاضرة ونشطةوحسب في المناطق الخاضعة لنفوذ حزب الطالباني، وحتى الجرائد والصحف الأهلية والحرة والفضائيات الناقدة والمعارِضة، متمركزة كلها في محافظاتي السليمانية وحلبجة، بينما يعلم القاصي والداني أن مراكز القرار في الإقليم تقع في أربيل العاصمة وليس في أي مكان آخر! وثمة من ينتقد اليوم هذه الحالة ويشك في وجود إرادة حقيقية للمعارضة ولدى منظمات المجتمع المدني لخوض الصراع الحقيقي، والمقصود هنا تنظيم المظاهراتوالإحتجاجات السلمية الهادفة في قلب المشهد، أي اربيل العاصمة ومحافظة دهوك، ولهذه الإنتقادات والشكوك دوماً ما يبررها، خصوصاً إذا ما عَلِمنا أن هذا هو، بالضبط، عين الحقيقة!، أي نقطة ضعف الأساسية لدى المعارضة والحركات الإجتماعية الناشئة في الإقليم، بل هذا هو السبب الرئيس أيضاً وراء عُقم جدوى ونتائج كل المظاهرات المدنية التي نظمت حتى اليوم في المناطق الأخرى الخارجة عن العاصمة. 

• كاتب و أستاذ جامعي – إقليم كردستان