يميل العقل البشري إلى التنميط والتسطيح والفهرسة، لأن قولبة المعلومة داخل صناديق التعميم يسيرة ومريحة, رغم ما في هذا من مخالفة للفرضيات المنطقية والحقائق، مقابل هذا يأتي دور المثقف في تحدي السائد والمألوف ذلك الدور الذي لخصه الفيلسوف الإيطالي غرامشي (مواجهة كل أنواع التنميط والجمود، والمثقف لابد أن يواجه التيار، لأنه لسان المسكوت عنه والمبادئ الكونية المشتركة التي تمثل نبض الجماهير)ويبدو أن أطروحات اليساري الماركسي غرامشي، لاتتوائم مع أطروحات رفيقه في التيار شومسكي والذي استطاع التيارالسائد شل قدراته الأكاديمية القائمة على الشك والتحليل والتمحيص.

أنا أعرف بإن الحديث عن تشومسكي بمثابة تابو واقتراف خطيئة مغلظة في أوساط اليسار العالمي الذي بدوره نصب أصنامه الخاصة به، ولكن هذا لايمنع التوقف عند بعض أفكاره التي عبر عنها أثناء أحدى اللقاءات الطلابية في مقطع متداول، حيث كان يغرف من معلوماته العتيقة أو لنقل فرضيات الستينات من القرن الماضي ويقيم عليها مسلماته من حيث تصنيف المملكة كواجهة للإسلام المتطرف في العالم العربي، مقابل مشروع علماني قومي كان ينتشر في العالم العربي ومركزه مصر.

طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي الذي سلط الأضواء بشدة على المنطقة في الخمسينات والستينات، جعل العالم يبلور صورة نمطية حول الأطراف الفاعلة على الأرض في الشرق الأوسط، حيث تم تأطيرهم داخل لقطة تاريخية مؤزلة، ليس فقط عبر الميديا العالمية أو إعلام البروباغندا بل وصل إلى الحلقات الأكاديمية ودوائر صناعة القرار.

 

ولو وسعنا بقعة الضوء متجاوزين تلك اللقطة الأزلية التي صنعتها حروب العرب مع إسرائيل، سنجد بأن هذا التأطير ليس فقط غير حقيقي بل مجحف لاسيما لمن يمتلك مرجعية تنتصر لقيم الحداثة والإنسانية.

فمنذ بداية القرن الماضي انكشف العالم العربي وبالأخص الجزيرة العربية، عن حالة فراغ سياسي يصحبها ركود حضاري خلفته 5 قرون من الاحتلال العثماني, احتلال قائم على التغلب ومفرغ من الفعل التنموي أو الحضاري، مما خلف كيانات متشتتة تكابد وحيدة جور شياطين صندوق باندورا الجهل/المرض/الفقر.

وسط رماد المشهد تبرعم مشروع (الدولة الحديثة)الذي تصدى له الملك الشاب عبد العزيز آنذاك فغير مستقبل المنطقة تماما، ومشروع الدولة الحديثة لدى الملك عبد العزيز لم ينل حقه في الأوساط العالمية كمشروع تحديث ( وسأضع هنا تحت كلمة تحديث عشرة خطوط) لعلها تلفت انتباه من يصر على قولبة مشروع الدولة السعودية داخل أُطر الإسلام المتطرف.

 فمن خلال هذا المشروع، وفي مرحلة مفصلية من تاريخ جزيرة العرب، تم الانتقال المتدرج من صيغة الحكم القبلي العشائري (عبر اتفاق تعاقدي بينه الملك عبد العزيز وبين حواضر ومجتمعات شبه زراعية) إلى مطالع عصر تبرعمت خلاله فكرة المجتمع والدولة معا, وتخلقت أمشاج المؤسسات الرسمية، وترسخ مشروع تمدين الصحراء وتم استحضار مفهوم المواطنة بوضوح، وانطلقت حركة عارمة للتعليم والبعثات, مع الاستعانة بالخبرات الحديثة في العالم العربي وبلاد الشام والعراق،استجلاب المنتج الحضاري التقني كجزء من المشروع الحضاري الأشمل (التنقيب عن البترول)، وأثناء هذا كله حينما كانت تتربص به وتعارضه قوى التخلف والمكون الظلامي المتطرف داخل جزيرة العرب، كان يتدخل بشكل حاسم لينتصر لقيم المستقبل ومشروع الدولة الحديثة.

المفارقة هنا تزامن مشروع توحيد المملكة مع مشروع أتاتورك في تركيا و لمّ شتاتها من بين مخالب جيوش العالم والمرتزقة، قبل أن يضعها على خط التحديث, إلا إن أتاتورك هو الذي استأثر بالصيت والضوء هنا, ولربما للمرجعية العلمانية المشتركة بينه وبين أوروبا.

ومنذ التأسيس تبنت المملكة أهدافا مستقبلية تخطو نحوها بحذر يتوائم مع دورها كدولة تشرف على الأماكن المقدسة لمليارات المسلمين، مبقية على تلك الشعرة المرهفة بينها و بين مجتمع حذر ويعتنق قيما محافظة جدا و ومكون ثقافي مستريب ومتحفز من العالم الخارجي، وأيضا لا يحتمل الكثير من المغامرات الثقافية والقفزات الهائلة، لاسيما إن المنطقة دائما كانت على فوهة بركان و تحديات أمن قومي وجودي.

لاننكر أن المملكة مرت بانتكاسات ومنعطفات وتضحيات سياسية في مراحل معينة من التاريخ، ولكن إرادة المستقبل والتطوير ومقعد مميز داخل المجتمع العالمي كعضو في G20 إلى جوار أقوى اقتصادات العالم.... بات هو المآل.

 المملكة الآن هي صمام الآمان الذي يحفظ للمنطقة ما بقي من استقرارها وأمنها من ناحية، ومن ناحية أخرى هي من يرفع ألوية المستقبل والتغيير الآن بشكل يتجاوز محيطها الإقليمي بمراحل.

لذا عندما يربط تشومسكي بين المملكة والإسلام المتطرف بشكل ديموغاجي لا علمي فهي تصبح مشكلة تشومسكي نفسه مع تحديث معلوماته، أو كما قال الفرزدق:

وليس قولك: من هذا بضائره...العُرب تعرف من أنكرت والعجم