في روايته (قنديل أم هاشم) يتحدث يحيى حقي عن طبيب عيون مصري يعود من بعثة دراسية في ألمانيا، ليحارب الخرافة المعشّشة في العقول، حيث يكتشف أن سبب زيادة أمراض العيون في الحي هو استخدامهم قطرات من زيت قنديل مليء بالتراب والهباب ومعلق في مقام المسجد، وكيف أن لحظات القهر والانكسار تجعل الناس يبحثون عن كذبة يصدقونها.

بعد قرن من الزمان على هذه الرواية تعرض لنا القنوات الفضائية ما هو أمرّ وأدهى.. إنها هذه الدكتورة التي تخوض في الغيب، وتفسر الأحلام، وتسّوق الأوهام والأقدار والأعمار الطويلة لمن تشاء.. وكل هذا يحدث على قناة (محترمة) طبعاً.. أما على قناة (محترمة) أخرى، فنجد فناناً من فناني الخراب واليباب، وقد تحول إلى (مذيع) بقدرة قادر، بينما على قناة ثالثة تتلألأ الزينات والأضواء، فيتملكنا الأسى على بعض مشاهير النجوم عندما يكونون لأنفسهم أشد الخصوم.. فتمشي البدلات والفساتين الفارغة من أجل السؤال الفارغ:

- من هو مصمم البدلة والفستان؟

- وماذا عن المجوهرات؟

- ومن صمم لك الحذاء وتسريحة الرأٍس؟

ويجيب الفنان الذي هو (ضمير الأمة) على مثل هذه الأسئلة، متباهياً متفاخراً بماركة بدلته، غير مترفعٍ عن التفوه بمثل هذه الاساءات التي تمسه وتهين الغالبية العظمى من أهلنا الفقراء.. ولأن التعفف بالغنى مطلوب أكثر من التعفف بالفقر، فإنه يصعب علينا أن نحترم فناناً بقامة وقيمة كبيرتين، وهو يصب في الآذان رغوة لزجة من الإجابات على

مثل هذه الاسئلة التافهة التي تقتل صورة الانسان داخل الفنان سواء عن غفلة منه، أو عن سبق اصرار ورصد وافتخار..

ولست هنا لأحكم على مثل هؤلاء بأنهم شياطين، ولا أنهم زيفوا الواقع الذي نعيشه، ولكنه حزن شعرت به على الفنانة التي حضرت المهرجان بفستانها الذي يشبه قميص النوم، والأخرى التي بصق الماس على موبايلها أو أظفارها أو فستانها، والثالثة التي عطست وقالت الحمد لله رب العالمين على توفيقه لها بأعمالها الهابطة والخادشة للحياء؟؟!!! ومع الأسف لا توجد على الكيبورد، الذي أكتب عليه الآن، سوى علامات الأستفهام والاستغراب، وهي ليست كافية أبداً للتعبير عن العجب الذي يتملكنا من هذه الكائنات التي أصبح وجودها المسيء للذوق العام مفروضاً على كل الشاشات ذات الخيال السطحي والفكر التافه.. وأحياناً نشاهد من المتناقضات ما هو أمرّ وأدهى.. عندما تحتل الشاشة كائنات أخرى مثل الشيخ الوحيد الصادق في عالم الروحانيات.. مع الشيخة المغربية لعلاج كل أنواع السحر والمس والأمراض المستعصية والمشاكل الأسرية وجلب الحبيب في ثلاث ساعات.

ها هم قد جاؤوا لنا بداعش في ثلاث ساعات.. وكل الأفكار المتطرفة التي ابتلينا بها هي وليدة التناقض الرهيب الذي نعيشه بين إعلام مستفز منقول عن برامج أمريكية، وبين مُشاهد يائس يتفرج على تلك البرامج، فينقلب على أهل بيته بالتشدد أكثر وأكثر... أمريكا برامجها وأفلامها تمثلها خير تمثيل، ولها مصادرها ومرجعياتها الموضوعية.. فلا تنقلوها إلينا بالحرف الواحد، واصنعوا لنا فكراً جديداً يلائم عقولنا التي أصبحت محشورة داخل مغارات أموال الفواصل الاعلانية، يدخل عليها كل من هب ودب من الصغير وباقي الصغار المهتزين في زمن الإعلام الذي تتحكم به إعلانات الحفاظات والملابس الدخلية ومساحيق الغسيل وأدوات الماكياج والمعطرات والأكسسوارات، حتى يكاد يصل بنا التمني إلى أن تكون هناك محكمة عالمية لمحاكمة الفنانين على تحولهم إلى أثرياء خراب، وصناع الدراما على تحولهم إلى صناع مخدرات يخلفون ورءاهم هذا الكم الهائل من التفاهة والشراهة والاستهتار بمشاعر الناس، إلا من رحم رب العالمين من آخر الرجال المحترمين.