تأمل مسيحيو المشرق أن يروا البدو العرب وهم يعودوا الى من حيث أتوا، الى الصحراء، بعد أن تُدفع لهم الأموال والمؤن ، كما كانوا يفعلون دائماً عند غاراتهم على أهل الحضر قبل ظهور الاسلام . لم يكن في وسع المسيحيين المتحضرين، خاصة الآشوريين(السريان)، أن يقيم البدو الغزاة "إمبراطورية اسلامية" تحل مكان"المحتل (الروماني – الفارسي). تتحدث بعض المصادر عن أن قادة الغزوات العربيةالاسلامية رفضوا قبض مبالغ مالية كبيرة عرضتها عليهم الكنائس، لقاء طردهمالمحتلين، والعودة الى من حيث أتوا وترك المسيحيين يديرون شؤونهم ويحكمون مناطقهم. العرب بعد أن اعتنقوا الاسلام، لم تعد أهداف غزواتهم تقتصر على الغنائم والمنافع المادية، كما كان الحال قبل الاسلام، وإنما تطلعوا الى نشر دينهم الجديد "الاسلام" بين الشعوب الأخرى وإقامة "دولة اسلامية" تضم جميع المناطق والبلدان التي يستحلونها. جاء في كتاب (ماردين)، للمؤرخ والباحث الفرنسي( إيف ترنون)، " عام 833 قام الغزاة العرب المسلمين يقودهم الأمير الحمداني - مبعوث الخليفة في بغداد- بغزو المناطق التاريخية للسريان المسيحيينفي موزوبوتاميا العليا( ماردين- نصيبين- راس العين) بذبح المسيحيين وأجبروا الناجين على اعتناق الاسلام ، حتى سقطت المنطقة 868 م تحت سلطة الحمدانيين القادمون من الجزيرة ووصلت غزواتهم حلب 944" . هذه الوقائع والأحداث التاريخية تُدحض كل ما قيل عن أن الآشوريين(السريان) استقبلوا الغزاة العرب المسلمين بالترحاب وسلموا لهم مفاتيح المدن السريانية المسيحية في سوريا وبلادالرافدين من دون قتال. الاسلام لم يكتف بحرمان مسيحيي المشرق (اصحاب الارض) من فرصة إقامة دولهم وكياناتهم الوطنية الخاصة بهم في مناطقهم التاريخية، وإنما ومن خلال الشروط التي فرضها عليهم - العيش كرعايا وأهل ذمة منتقصي الحقوق في كنف الدولة الاسلامية- نجح بمحاصرة "المسيحية" في موطنها ، حتى تلاشت من كثير من مناطق المشرق وغدت التجمعات المسيحية المتبقية فيه اشبه بـ"جزر" معزولة ،مهددة بالغرق في "بحر اسلامي" يقضم أجزاءً منها مع كل هيجان جديد له.

سقوط وتفكك (دولة الخلافة الاسلامية العثمانية)، الأكثر ظلماً واضطهاداً للمسيحيين، على أيدي الجيوش الأوربية إبان الحرب العالمية الأولى، أتاح الفرصة لشعوب المنطقة التحرر من الاحتلال العثماني وإنشاء دولها وكياناتها الوطنيةالخاصة. بيد أن حكومات الدول العربية الاسلامية الناشئة خيبت آمل مسيحيها، باعتمادها الطائفية والعنصرية العرقية نهجاً لها في الحكم والادارة. مازالت قاعدة " اللامساواة الدينية" - تفضيل المسلم على غير المسلم - التي جاء بها الاسلام، معمولاً بها بشكل أو آخر في هذه الدول. حكوماتها وأنظمتها السياسية، تمارس الاضطهاد (ديني- عرقي) الموصوف في دساتيرها وقوانينها. أبقت على "العقيدة الاسلامية" والاحكام المتفرعة عنها كمصدر اساسي للتشريع. اعتمدت "نظام الملل" العثماني- التمتع ببعض الحقوق الدينية – كقاعدة واساس الحل لقضية الاقليات المسيحية. السياسات الطائفية لحكومات الدولة العربية الاسلامية، حالت ومازالت تحول دون قيام "دولة مواطنة" يتساوى فيها الجميع (مسلمون ومسيحيون واتباع الديانات الأخرى) في الحقوق والواجبات. المستور أو المخفي من الواقع المرير، الذي يعيشه مسيحيو المشرق والمخاطر التي يواجهونها ،انكشف مع ظهور "تنظيم الدولة الاسلامية- داعش" الارهابي. فقد شاهد العالم ، كيف تعرض المسيحيون في كل من العراق وسوريا ومصر وليبيا ، الى عمليات إبادة وحملات تطهير عرقي وديني في المناطق التي اجتاحتها عصابات تنظيم الدولة الاسلامية.

للأسف ، تبدو كل الخيارات المستقبلية أمام المسيحيين المتبقين في المشرق صعبة وقاسية ومحبطة للآمال . جولات الحوار (الاسلامي – المسيحي) لم تثمر ولن تثمر عن اي نتيجة ايجابية على صعيد تبديد هواجس المسيحيين المشرقيين من المستقبل المجهول الذي ينتظرهم في أوطانهم الأم. خيار العيش المشترك في ظل "دولة مواطنة مدنية"، الذي عمل عليه المتنورون المسيحيون والمسلمون، اصطدم ومازال برفض الاسلام السياسي والاسلام التقليدي . يبقى السبيل الوحيد لبقاء المسيحية في المشرق الى جانب الاسلام، هو إقامات كيانات ودويلات خاصة بالمكونات المسيحية المشرقية (قبطية - آشورية/ سريانية/ كلدانية- مارونية ) بحماية دولية. لأكثر من سبب وسبب، لا فرصة لاستقلال الشعوب المسيحية المشرقية في كيانات سياسية خاصة به .

باحث سوري مهتم بقضايا الاقليات

[email protected]