يتردد وصف " الخيانة " في وسائل الإعلام التابعة لحزب مسعود بارزاني بشكل يومي ، بل في كل ساعة ودقيقة تجاه ما حدث يوم 16 أكتوبر من العام الماضي ، خاصة بعد أن أطلق البارزاني هذا الوصف على ماحدث في كركوك والمناطق المتنازعة ، ومنذ ذلك الحين تردد قيادات وأعضاء هذا الحزب كالببغاء وصم بعض أطراف الاتحاد الوطني بالخيانة . فماذا حدث ، ولماذا حدث ، ومن هم المسؤولون عما حدث ؟.

حين أراد مسعود البارزاني أن ينصب نفسه دكتاتورا على إقليم كردستان عبر العزف على الوتر القومي بالإستقلال وإنشاء دولة كردية ، وإتخذ قرارا أحاديا بإجراء إستفتاء الإنفصال عن العراق ، تدخلت قوى عديدة محلية ودولية لإثنائه عن هذه الفكرة ، وإنبرى عشرات الكتاب والمثقفين لإبداء النصح لبارزاني من خطورة هذا القرار وتداعياته على الشعب الكردي ، ولكن للأسف لم يستمع بارزاني الى كل هذه المناشدات بما فيها دعوة الولايات المتحدة عبر رسالة وزير خارجيتها لتأجيل الإستفتاء ، عاند وكابر وواصل طريقه المحفوف بالمخاطر في محاولة منه لتنصيب نفسه قائدا ورمزا قوميا للشعب الكردي .

بالمقابل كانت الحكومة الاتحادية التي خرجت منتصرة في حربها ضد داعش وتمكنت من تحرير الموصل ، تستعد بدورها لاستعادة السيطرة على المناطق المتنازعة وإنهاء نفوذ حزب بارزاني في تلك المناطق ، خاصة بعد ظهور نوايا رئيسه بالإستحواذ الكامل على ثروات النفط في تلك المناطق ثم سلخها عن العراق نهائيا ، فإتخذت بالشروع في هجمتها المبيتة للسيطرة على تلك المناطق .

قبل إجراء الإستفتاء بيومين ، تداول عدد من أعضاء قيادة الإتحاد الوطني مع القيادات العسكرية للحزب والتي تنتشر قواته في مناطق كركوك التي هي ضمن النفوذ التاريخي للإتحاد الوطني ، وطرحوا سؤالا محددا على تلك القيادات العسكرية وهو" إذا وقع القتال بين قوات الحشد والبيشمركة ماذا بإستطاعتنا أن نفعل ، وهل أن البيشمركة قادرون على حسم المعركة لصالحنا "؟. جاء الجواب الذي صدم الجميع " لانستطيع الصمود سوى لنصف ساعة أمام قدرة وإمكانيات الحشد والجيش العراقي " !. وعزت تلك القيادات أسباب الهزيمة المتوقعة بتشرذم وتفرق القوات الكردية من جهة ، وتفوق الجانب العراقي من الناحية اللوجستية ، خصوصا من ناحية الذخيرة والتجهيزات ، أضف الى كل ذلك مخاوف أهل كركوك والمناطق المتنازعة من تداعيات الإستفتاء وعدم تأجيله في تلك المناطق . وبناء عليه تقرر إبلاغ البارزاني وحزبه بكل هذه المخاوف ، لكنه أصر وكابر وعاند دون أن يبالي بصرخات العالم وتحذيرات قوات البيشمركة وأجرى الإستفتاء.

ونظرا لأن القوات المواجهة للحشد والجيش العراقي في كركوك والمناطق المتنازعة في الخطوط الأمامية هي تابعة للإتحاد الوطني ، وقوات حزب بارزاني تتجمع في الخطوط الخلفية ، إستشعر قادة الاتحاد بالخطر المحدق بهم ، ولذلك سعوا خلال عقد إجتماع دوكان تحت رعاية رئيس الجمهورية ومسعود البارزاني لإبلاغ المجتمعين هناك بتلك بالمخاوف ، خاصة وأنه كانت هناك مهلة 48 ساعة لسحب القوات الكردية من المناطق المتنازعة دون قتال والعودة الى الخطوط التي حددها الدستور العراقي الذي وقعه الجانب الكردي أيضا . ولكن بحسب قيادات شاركت في الإجتماع أبلغهم البارزاني بأن القوات العراقية غير قادرة على مواجهة البيشمركة ! ومرة أخرى مضى في عناده ومكابرته وإستهتر بقدرة الحشد والجيش العراقي اللذان حققا نجاحا باهرا بتحرير الموصل من داعش . وهذا دليل على قصر نظر بارزاني وعدم خبرته بالجوانب العسكرية .

هناك تسريبات كشفتها أخيرا بعض أطراف قيادية بالاتحاد الوطني تشير الى حديث جرى بين أحد قادة الخطوط الخلفية لقوات البارزاني مع قياداته العليا ، يقول بأنهم سيستغلون المعارك التي ستقع في كركوك واطرافها من أجل تصفية قوات الاتحاد الوطني في تلك المناطق عبر دفعها لمواجهة قوات الحشد والجيش العراقي . ورغم أن هذا الموضوع لايمكن التأكد منه، لكن هناك عدة نقاط يفترض أن ننتبه لها لإستجلاء الموقف والتي سوف تؤيد كما سنرى وجود هذه النية المبيتة من قبل حزب بارزاني .

1- إن خطوط التماس المباشرة بين القوات الاتحادية والبيشمركة تقع ضمن نطاق تواجد قوات بيشمركة الاتحاد الوطني فقط ، في حين أن قوات حزب البارزاني تبعد بعشرات الكيلومترات عن ساحة المواجهة ، وبذلك فإن القوة التي ستتصدى للقوات الاتحادية ستكون حصرا هي قوات تابعة للاتحاد الوطني فحسب .

2- تعتبر كركوك والمناطق المتنازعة حولها ضمن نفوذ الاتحاد الوطني تاريخيا ، وفي حال تمت السيطرة على هذا المناطق من قبل القوات الاتحادية ، فإن حزب بارزاني سوف لن يخسر شيئا من قواته التي ستقف موقف المتفرج لحين إستجلاء المعارك ، فإذا صمدت قوات الاتحاد الوطني أمام هجمات الحشد والجيش وحققت النصر، عندها يستطيع حزب بارزاني أن يجني ثمار ذلك النصر عبر الإمساك بالورقة العسكرية للضغط وفرض شروطه على الجانب العراقي، وإذا فشلت قوات الاتحاد في المواجهة فإن بيشمركة الاتحاد الوطني هم وحدههم من سيدفعون الضريبة بدمائهم .

3- لقد أعلن حزب البارزاني بوضوح قبيل إجراء الإستفتاء ، أن الهدف الأساسي من الإستفتاء هو لأجل الإمساك بورقة سياسية مؤثرة لتعزيز موقف إقليم كردستان ويقصد به " حزب بارزاني" في أية مفاوضات قادمة بين الإقليم والحكومة الاتحادية ، وبعد فشل الإستفتاء بتحقيق أغراضه ، حاول بارزاني أن يستخدم هذه المرة الورقة العسكرية لتحسين وضعه التفاوضي لمرحلة ما بعد عملية الاستفتاء ، بمعنى أن يدفع بالاتحاد الوطني الى شن حرب بالنيابة عنه ، ثم بعد أن يقتل خلال تلك المعارك آلاف البيشمركة وتتدخل دول العالم لوقف الحرب وتدعو للجلوس الى مائدة المفاوضات، عندها سيدخل البارزاني بالمفاوضات دون أن يقدم أية تضحيات من قواته . وقد تبين لاحقا كيف أن حزب بارزاني يسعى وبحماس كبير لدخول المفاوضات مع حكومة العبادي رغم خسارته المواجهة ، ولكن الحكومة الاتحادية هي التي لا تستجيب لهذه الدعوات المتكررة والمهينة .

4- كان الهدف الأساسي لحزب البارزاني في مواجهة القوات الاتحادية هو تكبيد الاتحاد الوطني خسائر فادحة في المعارك ، لكي يتمكن لاحقا من بسط سيطرته المطلقة على كركوك والمناطق المتنازعة ، خصوصا وأن بعض القيادات العسكرية والسياسية بالاتحاد الوطني إنضم وبشكل مخجل لمساعي حزب بارزاني لإضعاف دور الاتحاد الوطني في المشهد السياسي . لقد إستغل بارزاني الصراعات داخل الاتحاد الوطني لكسب عدد من قيادات هذا الحزب من أجل تحقيق مطامعه بالسيطرة الكاملة على الإقليم وفرض دكتاتوريته على الجميع من خلال إضعاف دور الاتحاد الوطني ، لكنه فشل في تحقيق ذلك بسبب الموقف البطولي لعدد من القيادات الشابة بالاتحاد الوطني الذين رفضوا الإنصياع لهذا المخطط الخبيث ، وحافظوا على أرواح البيشمركة المتواجدين بخطوط التماس عبر الاتفاق مع الجانب العراقي لإعادة الإنتشار بالمناطق المتنازعة دون قتال أو سفك أنهار من الدماء .

وعليه فإن ما يوصف بالخيانة في 16 أكتوبر إنما هو بالأساس موقف عقلاني من بعض قيادات الإتحاد الوطني ورفضهم الإنجرار الى مخططات بارزاني وحزبه ، ولذلك نرى اليوم بأن بارزاني وحزبه يتحدثون عن حصول الخيانة المزعومة بتسليم كركوك للحشد والجيش العراقي. ولكنهم لايتحدثون عن الذل الذي لحق بهم وهم يسلمون بقية المناطق المتنازعة في مناطق نفوذهم بسهل أربيل ونينوى والمناطق الحدودية المحاذية لسوريا وتركيا الى القوات الاتحادية دون طلقة رصاص ، بل أنهم يستعدون حاليا لتسليم المنافذ الحدودية والحقول النفطية طواعية الى الحكومة الاتحادية ، فإذا كان الاتحاد الوطني مسؤولا حسبما يزعمون بضياع 51 بالمائة من أراضي كردستان التاريخية ، فإنهم اليوم يسلمون كامل التراب الكردستاني الى الحكومة الاتحادية دون أي قتال أو مواجهة . لو كان بارزاني وحزبه صادقون في موقفهم لكان يفترض على الأقل أن يدافعوا عن المناطق الخاضعة لنفوذهم ولايسلموها طواعية ودون قتال الى القوات العراقية ..

هذه الحقاق يجب أن يعرفها الجميع ليستكشف المعدن الحقيقي لهذا الحزب وزعيمه الدكتاتوري الذي أرجع الكرد الى عشرات السنين الى الوراء بسبب إستفتائه الفاشل وقضى بذلك تماما على الحلم الكردي بالإستقلال وبناء دولته المستقلة .