رغم انني بحكم طبيعة عملي ككاتب وصحفي أتابع أخبار وأحداث العالم وأطلع على أحوال الشعوب والمجتمعات والتقدم الحاصل في معظم بلدان العالم ، الا أنني لا أخفي إنبهاري بما رأيته في العديد من الدول الأوروبية التي تسنى لي بعد عمر طويل من الحرمان وإجراءات منع السفر كعراقي زيارتها . فقد أصبح حالي كحال الصعيدي النازل لأول مرة الى العاصمة ، أو كحال الراعي في الأرياف الذي تبهره الأضواء الصاخبة في زيارته الأولى للمدينة . وحصل ذلك معي فعلا أثناء زيارتي الأخيرة لمدينة النور " باريس " خلال السنة الماضية ، وخاصة ما عاينته هناك من إهتمام الحكومة براحة مواطنيها. 

ورغم أن السفر والسياحة هما بالأساس لأجل الراحة والإستجمام والترويح عن النفس خلال أيام معدودات، ولكن أي عراقي يسافر هذه الأيام الى أي بلد أوروبي متقدم ينتابه الحزن والإكتئاب حين يقارن الحياة هناك مع حياته في الوطن . وهذا ما حصل معي وحول جولتي السياحية الى هم ونكد وحزن على ما آل اليه وطني .

 ولكي لا أطيل على القاريء سأركز مشاهداتي في باريس على ما توفرها الحكومة هناك من خدمات يومية لتسهيل تنقل المواطنين وبالأخص ما يعرف بقطارات الميترو وهنا موضع إنبهاري . ففي هذه المدينة لاحظت وجود حركة دائبة للقطارات تغطي كامل أطراف المدينة التي يبلغ عدد سكانها ثمانية عشر مليون إنسان حسبما ذكر لي . فعلى مدار الساعة هناك حركة مستمرة ودقيقة كالساعات السويسرية لهذه القطارات التي شيدت محطاتها بسبع طوابق تحت الأرض . سألت نفسي ترى لماذا لاتستطيع حكوماتنا العراقية المتعاقبة وهي تمتلك تريليونات الدولارات من تشييد منظومة نقل بهذا الشكل؟. فأي مواطن عراقي يريد التنقل اليوم بين الكرخ والرصافة سيحتاج الى ساعات طويلة لكي يعبر شارعا أو شارعين ، فزحمة المواصلات الخانقة تهدر الكثير من أوقات اليوم بالنسبة للمواطن العراقي، فالشوارع إما مزدحمة مختنقة ، أو هي مغلقة أو محاطة بالكتل الكونكريتية .

أقرأ على وجوه أبنائي وبناتي مشاعر الإكتئاب والحزن والحرمان من متع الحياة ، وهذا حال جميع شباب بلدي . محرومون من كل شيء ، ففرص حياة حرة كريمة أمامهم معدومة ، ومستقبلهم مظلم حالك السواد.لا فرص توظيف الخريجين ، ولا حصة للمواطن من ثروات بلده ، لايستطيع الشاب الزواج وتأمين مسكن لائق للعائلة التي سينشئها ، وساسة البلد يتسابقون في الفساد وسرقة أموال البلد.

كم كانت ملامح وجه زينب السامرائي النائبة النرويجية من أصل عراقي جميلة ومعبرة وهي ترد على سؤال أنور الحمداني حول عدد حماياتها وهي نائبة في البرلمان النرويجي فتجيب ضاحكة " ماكو حمايات "!. وفي بلدي هناك جيوش من حمايات المسؤولين من رئيس الجمهورية الى مغني الكعدات الليلية الذين يقتنون أسلحة ألمانية أرسلت لأفراد البيشمركة لمقاتلة داعش !. النائب في البرلمان يحق له قانونا أن يمتلك ثلاثون فردا للحماية وكأنه ينزل يوميا لمقاتلة الإرهاب الداعشي في صحاري العراق ، في حين أن منزله داخل المنطقة الخضراء التي لايجرؤ عصفور أن يطير فوقها !.

أسئلة كثيرة تراودني، وهي :

- بأي دولة بالعالم يخرج موظفوها الى الشوارع للتظاهر من أجل المطالبة بدفع رواتبهم الشهرية ؟.

 - بأي دولة بالعالم تدفع حكومة الاقليم راتبا واحدا فقط للمتقاعدين خلال سنة كاملة ؟.

- بأي دولة بالعالم يخرج أبناء الحي للشوارع للمطالبة بإعطائهم الكهرباء وتوفير مياه الشرب ؟.

- بأي دولة بالعالم تستقطع حكومة الاقليم نصف رواتب موظفيها لدفع الغرامات للشركات النفطية ؟.

- بأي دولة نفطية بالعالم يئن الناس جوعا وينتحر فيها الشباب بسبب قصر ذات اليد ؟.

- لماذا لايوجد في دولتنا النفطية قطارات سريعة تقطع طريق أربيل وبغداد بساعة أو ساعتين ؟.

- لماذا تستحوذ الأحزاب السياسية على العقود والمقاولات دون غيرها من الشركات الأهلية ؟.

- لماذا تعطي الدولة 17 مليار دولار لشركة " كار " التابعة لحزب متنفذ بإقليم كردستان كأرباح لخمس سنوات ، ولا تبني بهذا المال مدينة ديزني لاند للأطفال ؟.

- لماذا تسكت الحكومة عن سرقة مليارات الدولارات من قبل حفنة من السياسيين الفاسدين، ولا تسترجع هذه الأموال لبناء منظومة قطارات ميترو الأنفاق ؟.

- لماذا تعطي الدولة مليارات الدولارات للشركات النفطية سنويا ولا تستطيع أن تؤهل الكادر العراقي ليقوم بما تقوم به تلك الشركات وتسترجع بذلك مئات المليارات لخزينة الدولة ؟.

- لماذا لاتستطيع دولتنا النفطية أن تنشيء في كل محافظة محطة لتوليد الطاقة الكهربائية بدل الإعتماد على المولدات الأهلية ، ولماذا لاتستطيع أن تنشيء مصافي خاصة بكل محافظة لكي توفر الوقود لمواطنيها ؟.

- لماذا لا تستطيع الدولة أن تحول أهوار الجنوب الساحرة وجبال كردستان الجميلة الى منتجعات سياحية تدر على الدولة مليارات الدولارات سنويا ؟.

لقد عانى العراقيون منذ ثمانين سنة من عمر دولتهم المستقلة من كوارث الحروب والدمار ، وقدموا ملايين القتلى والجرحى والمعوقين قربانا لأحلام الدكتاتوريات المتسلطة ، أما آن الأوان لكي يرتاح هذا الشعب ويتنفس ويعيش مثل سائر شعوب الأرض ؟.

الى متى تشغلنا الدولة بالصراعات السياسية والعشائرية والقبلية والمذهبية وتترك مواطنيها يعانون من شظف العيش في بلد يعيش على بحر من النفط والغاز ؟.

هذه أسئلة أطرحها أمام كل سياسي أو مسؤول عنده ولو ذرة من الكرامة الوطنية أو الشعور بالمسؤولية تجاه الشعب الذي يجرونه كالأغنام ورائهم ويتلاعبون بمصائره ..