وضع متردي وآهل للسقوط يشهده الاعلام الكردي عموما هذه الايام، التخبط واختلاف الرؤى والتوجهات، تجاوزالمباديء والاعرافالصحافية، غياب المهنية وفقدان التأثير و ضياع الهوية، هي ابرزسماته،ناهيك عن التسييس الذي اصبحيلازم حتى المؤسسات الاعلامية التي طالما كانت تفخر باستقلاليتها وتعتبرها فارقا يميزها عن غيرها.

قد تكون القنوات والوسائل الاعلامية التي عرفت نفسها بالمستقلة أوالاهلية هي المعنية بهذه الحالة المتهالكة اكثر من غيرها من القنوات الحزبية التي حسمت مسبقا امر هويتها ونهجها المتبع منذ انطلاقها، فهذه الاخيرة لم تخف سعيها لهدف سياسي نابع من رؤية وبرنامج الحزب والكيان السياسي الممول لها كما لم تتوان في تسخير جل عملها الصحافي خدمة لذلك النهج دون استحياء باعتبار انها تتبنى نوعا اعلاميا معينا يفرض عليها ذلك، والامثلة في هذا المضمار كثيرة في بلدان العالم وفي الحقب التاريخية المختلفة وحتى الان.

اما النوع الاول فهو الذي يواجه اكثر الانتقادات واشدها حدة، اذ يعبر اكاديميون واعلاميون مخضرمون بل وحتى بعض الصحفيين الشباب، يعبرون باستمرار عن استيائهم لما آلت اليه هذه القنوات خلال الاعوام الاخيرة تحديدا من فقدان للمصداقية وتراجع الثقة بمحتواها، كما يستهجنون سعيها وراء زيادة عدد المتابعين على حساب المضمون بل وحتى عبر الاخلال بالتقاليد الاجتماعية والتربوية والمفاهيم العلمية المتبعة.

ومع ان الصحافة الكردية فتية ( اول صحيفة كردية صدرت في 22 نيسان 1898)، الا انها شهدت انفتاحا ملفتا ونقلة نوعية منذ عام 1991 بعد انتفاضة شعب كردستان ضد النظام الدكتاتوري السابق، ومنذ ذلك الحين تدرجت على التطور والنمو مستفيدة من توفر هامش الحرية التي كانت معدومة في مناطق العراق الاخرى على مدى 12 عاما وحتى سقوط نظام صدام حسين في 2003، فبدأت الصحافة المكتوبة تزدهر وتعددت الصحف والمجلات والدوريات وفي شتى المجالات والاختصاصات حتى التي كانت محظورة في السابق.

ولم يقتصر النمو على الصحافة المكتوبة فحسب، بل شمل المسموعة والمرئية والالكترونية ايضا، كما افتتحت كليات الاعلام والصحافة والمعاهد المتخصصة التي تخرج سنويا المئات من الطلبة اللذين يدخلون بدورهم المجال الاعلامي من اوسع ابوابه. كما انشئت نقابة للصحفيين تضم آلاف الاعضاء من الصحفيين ومن جميع التوجهات والآيديولوجيات الفكرية والسياسية، فيما توسعت دائرة نشاطات المنظمات المدافعة عن الصحافة والصحافيين وحرية التعبير وهي ترصد باستمرار جميع الانتهاكات التي ترتكب في هذا المجال.

 

اما تشريعيا فقد صادق برلمان كردستان عام 2007على قانون تنظيم العمل الصحافي الذي يكفل حق الاعلاميين ويحظر اعتقال اي صحافي تحت اية ذريعة كانت، وان كانت السلطات تتعامل بخلاف القانون في بعض القضايا بدواعي واهية لاتمت الى الواقع بصلةفيما اعربت المنظمات الدولية مرارا وتكرارا عن قلقها من وضع حرية التعبير والصحافة في تقاريرها المختلفة محذرة من التاثيرات السلبية والعواقب المترتبة على تلك الانتهاكات. 

الانفتاح والنمو الاعلامي لم يسعف الصحافة الكردية ففضلا عن الانتهاكات الفاضحة بحق الصحافيين من اغتيالات واعتقالات وكتم للافواه وتقييد لحرية التعبير وتعرض القنوات المختلفة للحرق والاغلاق والتخريب وخلال الاعوام الاخيرة تحديدا، كان الصحافيون والقائمون على القنوات الاعلامية الكبرى انفسهم سببا آخر في تردي الوضع، فمعظمهم وباعتراف المختصين يجهلون او يتجاهلونرسالة الصحافة الحقيقة ولا يلتزمون بما تمليه عليهم هذه المهنة المقدسة من مهام جسام ومسؤوليات والتزامات كبيرة. فتراهم يقعون او يوقعون في اخطاء وهفوات لا يقترفها الا الهاوي المبتديء، وبالمجمل تنعكس تلك التصرفات على آداء الصحافة في هذه المنطقة كما ونوعاما يؤدي بدوره الى انحراف الصحافة عن الطريق القويموتراجع المضمون الصحافي.

ومن المفارقات ان اغلب القائمين على هذه القنوات هم ممن يدعون انهم منظرو الاعلام والصحافة الكردية وكثيرا ما يتشدقون خلال مقابلات صحافية او متلفزة بالحديث عن الدور التوعوي للاعلام ومهام الصحافي ومسؤلياته الوطنية والمجتمعية، بينما لا تجد منهممن يلتزم قيد انملة بما يتفوه به حتى من باب درء التهم والشبهات. 

وسائل اعلام كردية كبرى تتدعي الاستقلالية والحياد بدأت في الاونة الاخيرة تستسلم كليا لاهواء مالكيها ومموليها دون ان تبقي للعمل الصحافي معنى، فهي لاتنشر خبرا دون ان يصب بشكل من الاشكال في مصلحة من يقفون خلفها، وان نشرت شيئا خارج ارادتها، فستحاول جاهدة ان تجعله نقطة قوة ووسيلة لدعم توجه المالك والممول، او تحوله الى اداة لضرب المنافسين (سياسيا او اقتصاديا او اجتماعيا) ووسيلة لأظهار مساوئهم والتقليل من شأنهم.

كما يشكل التحريض السلبي احد الانماط المتبعة في عمل هذه القنوات وغالبا ما تأخذ قالبا شعبويا يؤدي دورا سياسيا ابعد ما يكون عن الصحافة، وكل ذلك من اجل تغليب التصورات التي تؤمن بها هي او من يقفون وراءها والترويج لافكار ومعتقدات ليس من شأنها ولاتصب في خانة نشاطاتها. والامثلة على ذلك كثيرة في احداث لعبت فيها وسائل الاعلام دور المحرك والمحرض باتجاه معين ولاسيما خلال الاعوام القليلة الماضية.

هذه القنوات كل همها هو نشر ما تحبذها وتفضلها هي وليس ما تتطلبها المهنة أوماهو ضروري لايصال حقيقة الوقائع الى المتلقي، لقد اعماها حب التمركز في المقدمة خلال الاستطلاعات غير آبهة بما تحتاجها مهمتها الحقيقية من رصانة واتزان وواقعية، فتجدها رغم وجود كل الادوات الحديثة في متناولها، تفتقر الى الدقة والمصداقية، اذ من الطبيعي ان ترى او تقرأ خبرا عن وقوع هزة ارضية مثلا بروايات مختلفة وبدرجات قوة متباينة واضرار متفاوتةالحجم في قنوات تمول بمبالغ طائلة توازي ميزانيات القنوات العالمية الكبرى.

لعبة اخرى خطيرة تلعبها هذه القنوات بمحاولتها اظهار مدن وبلدات ومناطق معينة لا يستسيغها مالكوها وكأنها جحيم لا يطاق، محاولة التركيز على كل ماهو سلبي فيها مهما كانصغير الحجم بل وحتى تافها في بعض الحالات، وهي لا تتردد في اتباع التضخيم وحتى التحريف في سبيل الوصول الى مبتغاها، فيما تغض الطرف عن امور اسوء واقبح تحدث امام مرآى ومسمع الجميع متفادية ذكرها لا لسبب سوى انها واقعة في منطقة محددة.

اما سياسيا فيغلب على هذا النوع من القنوات طريقة مبتذلة في تناول القضايا الحساسة من خلال محاولتها ارضاء جهة سياسية على حساب جهة اخرى، فضلا عن الاسلوب المستفز الذي تتبعه في تغطيتها الاحداث الاقليمية ولاسيما المتعلقة بشكل من الاشكال باقليم كردستان، فتراها تحابي وفي منتهى السذاجة دولة اقليمية مجاورة وتؤيد سياساتها من خلال نشرها كل ما يخدم مصالحها وبرامجها، في حين تعادي وبالدرجة نفسها من السذاجة دولةاخرى اقليمية مجاورة لا لسبب سوى ان سياساتها لا تتفق مع ما يريده المالك او الممول، دون ان تأبه بما سيخلفها هذا الاسلوب من تاثيرات سلبية على الاقليم في المدى البعيد.

وفي السياق ذاته ابعد انشغال هذه القنوات بالمنافسة فيما بينها اهتمامها عن امور اساسية في العمل الصحافي كالتحرير واللغة، فقد غلبت على محرريها الركاكة واللحن والاخطاء المهنية الفاضحة، دون ان يبالي المسؤولون فيها بأصلاح الخلل والاتفاق فيما بينهمعلى اتباع لغة تحريرية شبه موحدة تفاديا للوقوع في حالات تربك المتلقي بسبب الاختلاف الكبير في التعابير والمصطلحات والسبك اللغوي فيما بينها.

وفي ظل هذا الواقع السيء ليس من المؤمل ان ينجز الاعلام ما يقع على عاتقه كسلطة رابعة في هذه المرحلة على الاقل، فهو بعيد تماما عن دوره الرقابي والتوعوي المعهود سيما وان احد اسباب هذا التقاعس والتقصير يكمن في من يديرون القنوات الاعلامية انفسهم سواء أكان ذلك غير مقصود او ناتجا عن سبق اصرار وترصد، وعليه فان الاعلام الكردي في هذه المرحلة احوج مايكون لتدخلالمختصين من اصحاب الشأن وتحشيد كل الطاقات للضغط من اجل تغيير الوضع وتخليص الصحافة من شوائبها واعادة الروح اليها، والى ذلك الحين تبقى الآمال معقودة على القلة القليلة من القنواتغير المسيسة التي لم تنزلق الى الهاوية لتحدث فرقا وتحفظ ماء الوجه معيدة للمهنة بعضا مما خسرته.

*صحفي من اقليم كردستان