يقال في أمثالنا وأقوال حكمائنا ومأثور أسلافنا " لو كان الفقر رجلا لقتلتُه " اعتقادا يكاد يكون راسخاً لدى الملأ الاكبر بان الفقر مصدر رئيس من مصادر الكوارث والجرائم المجتمعية ومبعث كلّ شرّ يصيبنا اذا داهمَ المرءَ العوزُ الشديد او مايسمى شيوعا " الفقر المدقع " ونتيجة حتمية لما يسبب للانسان من انحراف عن سواء السبيل وميل للموبقات وانتشار الحيف والظلم ، وربما يفقد الإنسان سمو أخلاقه وينحرف بها الى جادة الخطأ وتتدنى قيمته الأخلاقية وطبائعه الإنسانية الراقية بسبب العوز والحاجة .

لكننا ننسى ان الجهل وتدنِّي العقل وانحطاط الفكر قد يكون أكثر سوءا من الفقر نتيجة ما نراه اليوم من بلايا سود ومشاكل جمّة سبّبها الجهل لنا ، وقد لا أغالي لو جزمت بان الجهل أصل الشرور ولا يضاهبه شرٌّ آخر مهما كان مقيتاً وهو من يخلّف لنا العمى العقلي وفقدان البصيرة ، وكم من عقول نيّرة ومبدعة لاتدخل اليها الجهالة جهدت لتبني أوطانا راقية منتجة مع ان تلك الاوطان تفتقد الكثير من خيرات الارض ؛ سطحها وباطنها ولاتملك من نعيم الدنيا سوى عقول أبنائها المتنوّرة المخلصة والشريفة .

في مجتمعاتنا الغارقة بكل مناقع الجهالة المعرّشة في العقول ترى العجب العجاب من مظاهر السلوك غير السويّ ، فاذا اجتمع الجهل مع الفهم السيئ للدين بما يمثله من طائفية ضيقة ونرجسية المعتقد وكراهية تصل الى حدّ العنف وشيوع المرويّات والانقياد الأعمىللأفكار السلفية دون تمحيص سيكون الناتج إرهابا .

ولو اجتمع الجهل مع الحرية المنفلتة وارتخاء القانون وغياب العقاب والثواب سيكون الناتج فوضى عارمة .

واذا اجتمع مع سلطة منتفعة ضيقة الافق ولا تصغي للمعارضة الشريفة سيكون الناتج استبداداً .

اما اذا اجتمع خرتيت الجهل مع الثراء المفرط سيكون الناتج فسادا طاغيا لاحدود له ، وتلك لعمري الكارثة الكبرى .

وأخيراً لو اجتمع الجهل والفقر معا وهما الشرّان المستطيران واقترنا قِرانا كاثوليكيا فلا يلد من صلبهما إلاّ إجراما متمثّلا في اتساع أنواع القتل والسرقات بكل أشكالها وغرائبيتها ويكون الوطن ضحية كمّاشات الإرهاب والفساد والفوضى والاستبداد مجتمعِين لتمزيق نسيج المواطنة الذي يكسونا ويجملنا كلنا . 

لا يلام الفقر وحده فهو نتيجةٌ وليس سبباً ، وكم من فقير عاقل مهذّب التربية عفّ نفسه عن الولوج في مسالك الشرور وبقي نزيها عمّا يلوّث نفسه واكتفى بالقليل مما يسدّ رمقه وكسا نفسه بجلبابه الوحيد سترا رغم مزقهِ ورثاثته وهلهلتهِ ولم تبهره رقرقة الأوراق الأميركية الخضر ولا دندنة الأصفر الرنّان ولا الأضواء اللامعة وظلّ منطويا على نفسه تردعه تربيته وهيبة عقله وأخلاقه السامية وضميره النقيّ عن الخوض في مناقع الآثام والموبقات والسفالة .

وأمام هذه البلايا والرزايا كان حقّا علينا ان نحذف الفقر من مأثورنالنقول بعبارة واضحة مبينة الملامح : 

" لو كان الجهل رجلا لقتلْته " .

اقتلوا الجهل قبل الفقر تنْجُ أمتنا ؛ فالفقر المحاط بنطاق الأخلاقالرفيعة والتربية المهذبة وقناعة الاكتفاء رغم شعوره بالحيف وسوء التوزيع والظلامة أسمى بكثير من جهلٍ مكتنز المال والجاه والحظوة مما يولّد الخراب الأكيد والطغيان غير السديد واختلال الموازين وانحلال القوانين 

صوّبوا سهامكم لقتل الجهل أولا وثانيا وثالثا ثم حاربوا الفقر بسيفٍ مسلول وعقل مبتكرٍ نزيه ومسؤول .فإن غنى الشعوب والمجتمعات وثراءها المادي والمعنويّ تكمن في القضاء على الجهل قبل الفقر .

[email protected]