لا محالة أن غض البصر عن خسارات الناس أينما كانوا، والعفرينين بوجهٍ خاص، سواء من الناحية البشرية أو الاقتصادية ليس من العدل والإنصاف بشيء، باعتبار أنه ليس بالأمر الهين أن يخسر أحدهم عزيزاً بغير هدفٍ أو سبب، أو يُنتزع منه عنوةً عربةً أو تركتوراً أو بيتاً في سوريا، بينما يكون صاحبها قد جاهد لِلملمة ثمنها سنوات طوال ليرة فوق ليرة حتى يحصل عليها بعد جهدٍ جهيد، ولكن رغم مرارة فقدان الأرواح والممتلكات، إلاّ أننا نتصور بأن الاستلاب الفكري والعقائدي والأيديولوجي على المدى الطويل يبقى أخطر من السلب والنهب المادي الذي يتعرض له الإنسان في مفرقٍ تاريخيٍّ ما، أو في غزوة من الغزوات؛ وعفرين التي تحررت سابقاً وطبعاً تلقائياً من سلطة العشيرة، كما تحررت ذاتياً من سيطرة العقل الثيوقراطي، وابتلت لاحقاً بسطوة العقيدة الأوجلانية التي تسللت إليها من زاوية استغلال التعطش القومي لدى أبنائها؛ ستتعافى تدريجياً من آثار ما خلّفه كل من الفكر الأوجلاني من جهة، وكذلك مما تركه في جسدها من جروحٍ غائرة بعض الخارجين عن القيم الإنسانية ممن شاركوا مع الجيش التركي في الحرب على السلطة السابقة في المنطقة؛ وسنذكر أدناه بعض المنافع اللاحقة لسكان عفرين وبلداتها وقراها رغم قتامة الحاضر.

أولاً فبعد الخداع الكبير الذي تعرّض له ابن عفرين من قبل المتاجرين والمروجين للعقيدة الأوجلانية، سيتخلص أولاد المنطقة من سطوة عقيدةٍ ترسخت في أذهان الناس وغدا من الصعب اقتلاعها من رؤوسهم عبر الحوار والجدال ومقاربة الحجج بالحجج، طالما كان الطرف الآخر مدعوماًبقوة العسكر وليس الفكر، وذلك بعد أن تم تورم العلة التي ظنها المخدوعون بأنها قوة حقيقية وليس سراب أيديولوجي، ولم يخطر على بالهم بأن الكتلة التي يُنفخ فيها بروح الأيديولوجيا وتُعلى كالبالون من شدة ضخها وتعبأتها، أنها ستكون أشبه بحالة رجل يعوِّل على الحقن في تكبير عضلاته البدنية، تلك التي تتضخم بسرعة ملحوظة ومثيرة لكل من يعتني بالإفتتان المظهري، ولكنها كفيلة بجلب السقم لصاحبها كما جلبت له التبختر والتباهي والمباهاة حيناً من الزمان، وهنا يطيب لي أن أستشهد بفقرة من مبادئ الحكم في الصين القديمة حيث جاء في فصل بناء الشخصية: أنه وبشكل عام فالذي يتطور بسرعة ينهار بنفس السرعة، بينما التطور البطيء والثابت من المؤكد أن يسفر عن نتائج إيجابية، فالنباتات التي تزهر كاملاً في الصباح الباكر قد تذبل وتتساقط في المساء، ولكن أشجار الصنوبر التي تنمو ببطء لا تذبل حتى مع برد الشتاء القارس.

ثانياً سيراجع نفسه ذلك الجائر الغبي الذي كان تصرفه استبداديا مع إخوانه بناءً على أوامر تأتيه من جهات هو أصلاً لا يعرفها ولا يعرف شيئاً عنها، إن كانت صالحة أم طالحة، أي ذلك الأوجلاني الذي لم يرضى لا بشراكة أخيه، ولا بالإستماع إلى مشورته، ولا بتقبل انتقاداته، فذلك المتجبر المتخلف الذي بنى سطوته وجبروته من سلطة أيديولوجية محلية غير معترف بها ولو من أردأ مسؤول غربي أو شرقي، ربما الصيرورة التاريخية أرادت له أن يأتي من يضع الأصفاد في أطرافه حتى يفهم لاحقاً بأن أخاه لا غير هو مصدر قوته وسلطانه وليست تلك الأيديولوجيا القميئة التي كانت وراء انهيار كل آماله وأوهامه التي بناها سنين طويلة من أهراماتٍ من كرات، وذلك لعدم إلتصاقها بضمائر الناس، ولعدم ملامستها لأوجاعهم، ولعدم تمثلها لضمائرهم، ولعدم واقعيتها الحياتية،كما أن عدم ملاءمتها لكُنه المجتمع كان السبب المباشر وراء تحطيمهاخلال أقل من شهرين.

ثالثاً ضمان عدم سيطرة الفكر الديني على المنطقة حتى إشعارٍ آخر، وذلك بفضل ممارسات الجهات العسكرية الأخيرة، تلك الجهات التي أتتواستولت على مقاليد الحكم في المنطقة بمعية الجيش التركي، وذلك بسبب سوء معاملتهم لأهل المنطقة بوجهٍ عام ومن دون أيّة مرعاةٍ لثقافة أهلها، حيث لم يستطيعوا نيل رضا ولو أصغر شريحةٍ من السكان ولو في أضيق الحدود، إذ أن ممارسات نسبة لا بأس بها من المقاتلين المحقونين والممتلئين سلفاً بالبغض وثقافة النيل والانتقام من الآخر المختلف عن تركيبتهم الاجتماعية والثقافية، جعلت حتى العفريني الشبه متدين، أو الذي يمتلك شيء من الثقافة الدينية أن يتأفف وينفر منها، إذ واستنكاراً لانتهاكات بعض الفصائل كتب الشاعر حيدر هوري قائلاً "مساجد قرى عفرين التي سرقتم ساعاتها وأجهزتها وسجادها هي لعبادة (الله أكبر) الذي كنتم تهللون باسمه" وذلك في إشارةٍ إلى تعرض حتى مساجد المنطقة للسلب والنهب، لذا نتصور بأنه قد يكون لتلك السلوكيات تأثيرات لاحقة في ابتعاد سكان المنطقة عن الدين ربما أكثر من السابق، وذلك ليس كرهاً بالدين باعتبار أن أكثر من 90% من سكان المنطقة هم من المسلمين الوسطيين، إنما بناءً على سلوكيات من يرون بأنهم جاؤوا إلى المنطقة كطلائع تبشر بالدين الاسلامي الذي يفهمونه ويرونه صحيحاً، بما أنه في تصور الكثير منهم أن عفرين خارجة عن سكة دينهم الحنيف.

رابعاً تخليص العفريني من عقدة تفضيل الآخر على الذات حيث أن أغلب من كانوا يعارضون سطوة (ب ي د) كانوا يعارضونهم من باب استنكار واستكثار سطوة إخوانهم عليهم، ولم يكن الاستنكار مصدره رفض أي فكر استبدادي أو سلطة تفرض أيديولوجيا ما، لذا فإن موقف الغريب الذي بيّن بعد قدومه بأنه ليس أقل جوراً وسطوةً وقسوة في التعامل معه من أخيه سيدفعه لإشغال آلية المقارنة، وذلك الموقف سيجبره لاحقاً إلى محاكمة العقل المقارن، كما أن كل من كان ممتعضاً من حكم وتسلط السابق ليس كرهاً باستبداد أصحاب تلك الأيديولوجيا، إنما فقط تعبيراً عن رفضه لتسلط أخيه عليه، فلا شك بأنه بعد هذه الهزة الارتجاجية سيعيد النظر في أفكاره المبتلة بعلة تصغير القريب وعقدة الدونية تجاه الغريب.

وعلى مبدأ أن الإنسان لا يعرف قدر وخير وقيمة القريب، إن لم ير جور وعسف الغريب، فثمة فئات من جميع الملل والنحل تمنعهم أناهم السقيمة من رؤية كل محاسن الأقرباء والمحيطين بهم، حيث أن مناظيرهم الدونية لا تبصر غير السيئ والعادي فيمن يحيطونهم، ولا يقبل العليل منهم أية ملاحظة من أقرب الناس إليه، بينما يكون حال الدونيّ منهم عند حضور سلطان الآخر، كحال الذي يخضع لأي آخر جاءه غازيا، حيث يسمح له بأن يضع النير على رقبته، ويعزق به ليس الأرض السهلة وحدها، إنما وحتى الأرض الوعرة والموات يحرثها من دون أي تذمر، عموماً فهذه النماذج كانت موجودة في الكويت قبل أن يتجرع الكويتيون الذل من الجيش العراقي، وكانت موجودة في لبنان قبل أن يُسمّم جيش أسد البعث كل حياتهم ويُشبعهم المهانة لسنوات وهم صاغرين، وكانت موجودة كذلك لدى بعض سكان كردستان العراق قبل أن يروا أنفسهم خنوعين مذلولين أمام جندرما الجيران عام 1991 وكذلك أمام ممارسات الحشد الشعبي الطائفي في 2017، وتلك الفئة الدونية لا شك موجودة في عفرين أيضآ، ولربما جاء الوقتُ لأن يكتشف الواحد منهم صغره في عيون أناسٍ متسلطين ربما كان بعضهم من بقايا المجتمع ممن سمحت لهم الظروف بأن يصبحوا من ذوي سطوة لفترة من الزمن؛ إذ أن الفرد المنتمي لتلك الفئات التي تربت على النقيصة القيمية بحاجة إلى إعادة تحسس هزالته وبحاجة لإعادة اكتشاف محاسن إخوته، جيرانه، أقربائه وأبناء بلده، وربما لم يكن له أن يتعرف على ذاته والمحيطين به إلاّبواسطة إذلاله من قبل الآخر الذي جاءه بكامل العنجهية، وبالمناسبة فالفئة الدونية التي أتحدث عنها موجودة بين كل قطاعات المجتمع ولا أعني حزباً بعينه أو فئة معينة.

وفي الختام وإضافةً إلى تضامننا مع أي شخصٍ متضرر من جهة الأرواح أو الأموال في عموم سوريا، وفي منطقتي على وجه الخصوص، يحلو لي أن أهدي سكان عفرين على اختلاف مشاربهم الفكرية،ومناهلهم السياسية، ومراجعهم الثقافية، شيئاً من الطاقة التفاؤلية من كتاب التحولات (أي تشينغ) وهو من تأليف سارة ديينغ، حيث جاء في ذلك السّفر القيّم: "لقد صدمت بعمق لما حدث، وقد تشعر بالقلق بشأن المستقبل، فما يبدو ظاهرياَ بأنه حظٌ عاثر، هو حقيقةً نعمة بمظهرٍ كاذب، ستكون في النهاية في موقعٍ أفضل".