نشأنا وتربينا على كره الاستعمار، ملأ الحكام عقولنا وتلافيف أدمغتنا بإعلامهم المزيف ، بأن خيباتنا الكبرى مع الجهل والتخلف والمرض سببه هو " الاستعمار " ؟. رغم أننا كنا قبل احتلال الاستعمار لبلداننا أصحاب حضارة ولدينا امبراطورية لاتغيب عنها الشمس ولا القمر . حتى أن الامبراطور هارون الرشيد خاطب السحاب ذات مرة في لحظة زهو وغرور قائلا " أمطري حيثما شئت ، فخراجك راجع الي " . ومع ذلك لم يستطع حكامنا طوال ألف سنة من حكمهم للإمبراطورية الاسلامية أن يعالجوا مشكلة الفقر . ورغم أن حضارة الاسلام كانت تصدر نتاجات علماء الأمة وفلاسفتها الى بلدان أوروبا التي كانت تعيش في عصور الظلام ، لكنها لم تستطع أن تعالج مشكلة التخلف في مجتمعاتنا . ورغم أن علم الطب بدأ من إبن سيناء والرازي وإبن النفيس ، لكن حكام امبراطوريتنا فشلوا في معالجة أمراض مجتمعهم . فأي خيبة أكبر من هذه الخيبات الكبرى ؟.

إنهارت الإمبراطورية الإسلامية بعد هجوم المغول، ورزحت بلداننا تحت نير الإحتلال العثماني تارة ، ثم الإحتلال الصفوي تارة أخرى ، ثم جاء العبيد والمماليك ليحكمونا . والغريب أن الإستعمار الأجنبي هو من حرر شعوبنا من الإحتلال العثماني . وحين دخل الاستعمار الى المنطقة بدأ بتأسيس الدول والأوطان لشعوبها ، ففي عهده إستقلت معظم دولنا وتأسست فيها البرلمانات . وفي عهده أنشأت المدارس والمعاهد والمستشفيات . وكانت الدول الاستعمارية تأتي بأفضل كوادرها وموظفيها ليعملوا مع حكوماتنا المحلية في إدارة شؤون الدولة . والأنكى من كل ذلك ، أن الاستعمار هو من أسس لنا الجامعة العربية .

قبل ثمانين سنة غادر المستعمرون الى بلدانهم وتركوا بلادنا بيد الحكام الوطنيين ، فماذا قدم الحكام الجدد لشعوبهم المتحررة من الاستعمار؟. التخلف ظل على حاله ، والفقر زاد ، وإستفحلت الأمراض التي باتت تنهش أجساد البائسين في القرى والأرياف.وخرب الحكام الجدد كل ما بناه الاستعمار من مظاهر التمدن والرقي ، وقضوا على كل أشكال الديمقراطية والتعايش بين الشعوب . وأرجعونا لقرون الى الوراء .

بدأ الحكم الوطني بعد مرحلة الاستعمار ، وكانت أيامه أحلك الأيام ، فالأحزاب الوطنية تتصارع وتتقاتل ، والجيش بدلا من أن يكون هو الحامي والدرع للوطن، أصبح آلة بيد الأحزاب لإنقلاب بعضها على بعض !. أهمل الحكام إستكمال بناء المستشفيات ، وإتجهوا لتشييد المزيد من السجون والمعتقلات . أهملوا بناء المدارس ، وبنوا آلاف المقرات الحزبية في المدن والنواحي وداخل الأحياء السكنية !. ثم قاموا بتنفيذ خطة خبيثة لتجهيل المجتمع عبر تسليم أمور الدولة بيد أولاد الشوارع ، وإهملوا الكفاءات التي هربت من الحكم الوطني الى دول الاستعمار ، فغاب الجواهري ومظفر النواب ، وفر فؤاد سالم وناهدة الرماح ، واغتربت عقول الأمة من الإختصاصات العلمية المتعددة ببلدان اللجوء .

طوال حقبة طويلة من حكم البعث الفاشي كانت الدولة تردد على مسامعنا أنها تناضل ضد الإمبريالية الأميركية ، ولكنه نسى بأنه جاء أساسا الى الحكم على قطار أميركي كما إعترف بذلك أمين سر قيادته علي صالح السعدي . والقطار الذي إستقله البعثيون في ستينات القرن الماضي ، عاد مرة أخرى حاملا معه حكاما جدد من أصحاب العمائم ومقلديهم ممن كانوا يعتاشون على مساعدات البلديات الأوروبية !. فأصبحت السلطة الوطنية بيد شرذمة من أراذل الناس منغمسون في جرائم السرقة ونهب المال العام ، تاركين شعوبهم غارقين بالجهل السياسي . وعملوا بإصرار وتعمد لإرجاع المجتمع الى الوراء ، وبذلك أصبحنا نرى على شاشات التلفاز يوميا عشرات الملتحين وأصحاب العمائم وهم يقودون الأمة الى المزيد من الجهل وتغييب العقول بفتاواهم حول رضاع الكبير أوالتداوي ببول البعير والزواج وبالأطفال ؟!. ومازال الجدل قائما منذ أربعة عشر قرنا حول من كان أحق بالخلافة عمر أو علي ، ومازال اللطم وضرب الأجساد بالسلاسل حزنا على مقتل الحسين رائجا ، ومازال الحكام يستغلون الدين لتمرير مخططاتهم الخبيثة لتجهيل الشعوب ! .

كان الإستعمار يسرق جزءا من ثرواتنا ، لكنه كان يبني لنا الكثير من الشوارع والمدارس والمستشفيات ، والحكم الوطني يسرق اليوم الجزء الأكبر من المال العام ، ولايقدم لنا شيئا .. فما زال طلاب المدارس يعجزون عن الوصول الى مدارسهم بسبب فيضانات الشتاء وطفح المجاري ، والموظفون يضربون عن العمل بسبب توقف الحكومة عن دفع رواتبهم الشهرية ! .

كان الإستعمار يستقبل سنويا مئات الطلاب العراقيين للدراسة في أكاديمياتها العسكرية وكلياتها الحربية ، والحكم الوطني يعين صاحب العمامة وأقربائه قادة وضباط بالحشد الشعبي .

الاستعمار كان أرحم بكثير مما نلاقيه منذ ثمانين سنة على أيدي حكامنا الوطنيين ، فمعظم الإنقلابات التي سميت زورا بالثورات التي شهدتها منطقتنا بعد الإستعمار كانت كلها مجرد صراع على السلطة وليس كما إدعى منفذوها بأنها لصالح المجتمع وتحقيق تقدمه ، في حين أن الدول الإستعمارية لم تشهد إنقلابا أو ثورة، لكنها نجحت بتحقيق تقدم ورقي مجتمعاتها بالديمقراطية وبإحترام حقوق وكرامة الإنسان .

لقد آن الأوان لكي تنزع شعوبنا رداء التخلف والجهل عن نفسها ، وأن تعيد حساباتها مع أنظمة الحكم اللاوطنية التي مازالت تجثم على صدورنا ، وعليها أن تصرف جهودها نحو التثقيف الذاتي لكي تعرف من تختار ليمثله في مراكز السلطة ، فلا يجوز أن تنتخب الأمة حزبا أو تنظيما سياسيا من دون قراءة برنامجه الإنتخابي ، ولايجوز أن تتحكم العلاقات العشائرية أو فتاوى المرجعية على إختياراته الحرة . حان الوقت لوضع حد للمرجعيات الدينية والمتاجرين بالدين من التلاعب بمصائر الشعوب ، وآن الأوان لكي تهب الشعوب من منيتها وتستيقظ الأمم من رقدة العدم ، وتتجه نحو القوى المدنية والشخصيات الديمقراطية والوطنية الحقيقية التي بإمكانها وحدها أن تعيد الوجه الحضاري لأمتنا وتعيد لشعوبها شيئا من كرامتها المهدورة .