لا خلاف على أن التطرف يمثل مقدمة ومدخل بديهي للعنف والارهاب، وليس هناك أيضاً خلاف على أن العالم قد عانى في القرون والسنوات الماضية أشكال مختلفة من التطرف، الفكري والديني، وآخرها التطرف الذي يعانيه العالم في المرحلة الراهنة بسبب تعصب تنظيمات وجماعات ارهابية محسوبة على الدين الاسلامي.

هذه الجماعات والتنظيمات المعادية للحضارة والقيم الانسانية، اختطفت لسنوات مضت الحديث باسم الاسلام، وصدّرت للعالم صورة نمطية مشوهة عن هذا الدين الحنيف من خلال ممارساتها الاجرامية وفيديوهات القتل والذبح، حتى استهداف الأبرياء في مدن غربية عدة بقتلهم سواء بعمليات إجرامية عنيفة أو باستهدافهم بجرائم ارهابية مستحدثة كما تفعل الذئاب المنفردة باستخدامها للشاحنات والسيارات في قتل الأبرياء في الشوارع وغير ذلك.

في رحلة استئصال داء التطرف من الجسد الإسلامي، لا ينبغي مطلقاً السماح بنمو تطرف مضاد، حيث نتابع جميعاً توجهات ملحوظة ومتعمدة لاختراق القيم والتقاليد المجتمعية وتجاوز التعاليم الدينية سواء عبر الدراما والافلام أو عبر برامج تلفزيونية مختلفة بدعوى توسيع مساحة الحريات ونشر قيم التعددية الفكرية، وهذا حق يراد به باطل في معظم الأحيان!

خلال شهر رمضان المبارك هناك فرصة كبيرة لتخليص صورة الاسلام من مختطفيها ومروجي الفتن والارهاب والفكر المتطرف، بحكم ما لهذا الشهر الفضيل من خصوصية لدى المسلمين، وما يفيض به من قيم ومبادىء تحض على العفو والاعتدال والتسامح والصفاء الروحي، ولكن ما يحدث وما نراه على شاشات العديد من الفضائيات العربية يصب في غير مصلحة أي جهد يستهدف القضاء على التطرف، لأن بعض البرامج والمسلسلات التلفزيونية تتعمد اختراق الكثير من القيم والمبادىء التي تأسست عليها مجتمعاتنا العربية والاسلامية.

الإشكالية أن الحديث عن هذه القيم والمبادىء يواجه بالضرورة بحديث مقابل عن رفض الرقابة على الفكر وغير ذلك من سيوف التطرف المضاد التي تشهر في وجه كل من يحاول الحفاظ على المجتمعات في مسارات الاعتدال من دون هذا التطرف أو ذاك!

هناك منظومات من القيم والتقاليد المجتمعية المستقرة في كل مجتمع على حدة، وهي منظومات متعارف عليها ومستقرة عبر السنين، وليس معنى أن الفكر المتطرف قد افتئت على هذه المنظومات أن يسمح لتطرف معاكس بتجاوزها واختراقها، فمعالجة التطرف لن تكون مطلقاً بمنح الضوء الأخضر لتطرف مضاد، بل بالعودة إلى جوهر الدين الاسلامي الحنيف، ونشر الاعتدال والتسامح والوسطية.

قناعتي الذاتية أن السماح بتطرف مضاد يصب في مصلحة المتطرفين أينما كانوا، فالتطرف المدمر للقيم والأخلاق يمثل هدية مجانية لمروجي التطرف الديني لاستنفار طاقات المسلمين واستقطاب تعاطف شريحة منهم بدعوة الحفاظ على الدين وحماية المبادىء الدينية من "الانحلال" المدمر للمجتمعات.

يغذي التطرف المضاد أيضاً الشائعات والأفكار القائلة باستهداف العالم الاسلامي بموجات غزو ثقافي غربية للقضاء على الدين والهوية والثقافة ونشر الفساد، ومن ثم تصبح معركة الدول والمجتمعات المسلمة معركتين بدلاً من معركة واحدة، وتستنزف طاقات هذه المجتمعات في مواجهة تطرفين متضادين!

هناك وجهة نظر تقول أن موجات مشابهة من التطرف المضاد شهدتها الفنون والثقافة العربية خلال مرحلة مابعد هزيمة عام 1967 قد لعبت دوراً كبيراً في تغذية وحش التطرف الديني الذي اقتات لسنوات طويلة على دعاوى ومزاعم تتعلق بالتصدي لما يعتبره المتطرفين انحلال ومساس بالأخلاق والأعراف.

لا أقر وجهة النظر هذه ولا أميل إليها، ولكنني على يقين بأن كل تطرف يقابله تطرف مضاد، وهكذا يمكن أن تغرق مجتمعات عربية وإسلامية عدة في دوامة التطرف والتخبط لسنوت وعقود طويلة ما لم يتم وضع قيم المجتمعات ومبادئها كمعيار راسخ وثابت يتم الاحتكام إليه عند النظر إلى الفنون والثقافة والطروحات بمختلف أنماطها وأشكالها، وهذا لا يعد قيداً على الفكر والحريات بل هو حفاظ على ثوابت المجتمعات وصون لها من دعاة التطرف في هذا الاتجاه أو ذاك.