عندما كتب صامويل هنتنغتون في مطلع التسعينات من القرن الماضي نظريته الحاسمة عن صراع الحضارات و صدام الثقافات والأديان،&ساد العالم ذلك الشعور بالرعب والترقب بان تتخندق الشعوب ذات الأديان والعقائد المختلفة وتستعد لصراع طويل تختلط فيه احداث الماضي بتطورات الحاضر وترتيبات المستقبل.&

صراع يستمد شرعيته من تعاليم الأديان القديمة وجمود الاتباع المتشددين لهذه الأديان. وقد ساعدت الليبراليات الغربية بزعامة الولايات المتحدة التي كانت تعيش لحظة القوة المهيمنة على نشر وترسيخ هذه النظرية وكأنها ارادت بأسرع وقت ممكن ان تخلق فلسفة جديدة تسير جنب الى جنب مع مشاريعها في فرض القوة والنفوذ في العالم.&

ومع ان هذا الكلام يبدو قديما ومكررا وربما مهجورا منذ فترة طويلة في ادبيات نقدت نظرية هنتنغتون الا اننا اليوم بحاجة فعلية الى اعادة محاكمة هذه النظرية التي ذهبت بالفكر الإنساني الى مكان خاطئ تماماً. فالصراع الحضاري الذي سوف يتجاوز الدول الذي بشر به هنتنغتون لم يعد صحيحاً،&اليوم الدول عادت للتصارع بينيا حتى وان كانت متجاورة في&نفس الاقليم ولها نفس الدين ونفس الثقافة والتراث .بل ان أصحاب الأديان المختلفة صاروا حلفاء في كثير من&الموقف حتى وان كانت ظاهريا تبدو&الحكومات مقطوعة الاواصر الا ان لعلاقات التجارية المفتوحة وحركة المال والاعمال العابرة للقارات وحتى مسارات الثقافة والفن والسينما والمسرح وشبكات الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي كلها جميعاً تطورت وتفاعلت بصورة لم يتخيلها عقل هنتنغتون و مهدت لحوارات مفتوحة وحرة بين الثقافات والاديان والاشكال البشرية المختلفة وصار كل شخص له اتباع من مختلف بقاع الارض وربما تكون افكاره التي يدونها في سطور معدودة محترمة ومقدرة لدى اخرين من غير جنسيته ودينه.

اليوم&لا&نرى حضارات تتصارع&،&وانما ارادات لمجموعات شعبية او شعبوية تتصارع داخل الحضارة الواحدة والدين او الطائفة &الواحدة والعرق الواحد نزولاً الى الحزب السياسي والتيار الفكري الواحد .&

والصراع داخل المجموعة الواحدة&لا يمكن اختزاله بوصف انه "&لايفسد للود قضية"&بل انه هدام ومتفجر ويأبى ان ينتهي الا بإنهاء الخصم وتمزيقه وطمس معالمه.

وبالتالي الشعبويون سواء&كانوا&من المسيحيين ام المسلمين بيضاً ام سوداً يساريين ام يمينيين فقراء ام اغنياء يدعمون بعضهم البعض بطريقة غير&مباشرة . وكذلك المتنورين المعتدلين&والليبراليين&يدعمون بعضهم البعض مهما كانت خلفياتهم الفكرية او الدينية او الحضارية .

انه صراع الخيارات داخل الحضارة والفكر والدين الواحد وهو صراع جلي يمكن ان نستشفه بكل سهولة&في الصراعات السياسية سواء في الديمقراطيات العريقة او الأخرى الناشئة وبين سطور الصحف والمجلات التي تقدم للاراء المختلفة،&وكذلك في التغريدات والتعليقات والوسوم العالمية والمحلية.

الان لو مررنا السطور السابقة على كل الاحداث العالمية والاقليمية سوف نفهم&بسهولة&انها مجرد نتائج متوقعة لصراع الخيارات،&فخيار الرئيس الامريكي ان تكون "امريكا اولاً" يجعله ينفصل عن الحلفاء الاوربيين الذي يصفهم بانهم "ماكرين" و"بخلاء"&،&في حين انه يصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين &بـ"القائد الفذ"&!.&

خيار البريطانيين في الانفصال يجعلهم يطلبون الطلاق من زواج كاثوليكي طويل الامد مع الاوربيين ويبحثون عن علاقات عابرة ومثمرة مع الباسفيك او الصين او امريكا اللاتينية.&

وحتى خيارات الاوربيون تغيرت بعد ان اعتقدوا انهم استأصلوا النازية ودفنوا&وحوشها الكاسرة،&اليوم ينبشون قبور هذه الوحوش لتخلصهم من&ضميرهم الذي لم يعد يحتمل امواج اللاجئين والفارين التي عرت اناقتهم ونظريات حقوق الانسان واحترام الحريات وتبشرهم ان النازية والشعبوية لم تمت في ارواحهم يوماً.

اما امة العرب التي كانت اول ميدان اختبرت فيه نظريات هنتنغتون،فهي المكان الوحيد الذي تتجمع فيه كل الحضارات والاديان وتتصارع دون توقف وهوادة منذ اقدم العصور فلا يمكن ان تخطئها النظرية.&

انها الجسد الذي الهم هنتنغتون وامثاله&ليخلقوا فكرة صراع الحضارات والاديان.&

ولكن الذي اخطئه هنتنغتون ان الصراع في الشرق الاوسط لم يكن واعياً ومدروساً ومخططا له&كما هو الحال في الغرب او الشرق،&انه في اغلبه صراع مفروض او موروث تسير فيه الاحداث بتواتر متشابه ولكن ليس متوقع محطم&وليس نهائيا.

خيارات الشرق الاوسط تتناحر بينها وكأنها تخوض اخر معاركها&فهي في الماضي القريب كانت بين خيارين اما ان تكون مع الغرب الذي يحميها ويضمن لها مصالحها مقابل النفط والمال او ان تكون راديكالية هوجاء تحارب وحدها وتتحمل وحدها النتائج والارتدادات.

اليوم منطقتنا وربما ولاول مرة منذ قرون طويلة تواجه صراع الخيارات المتباينة التي فجرت انتماءات دينية وعرقية وفكرية لم تكن في الحسبان. دول اختارت ان تنسلخ من عروبتها وتنبش&قبور التتريك والصفوية والتغريب،&ودول اختارت ان تنسلخ من محيطها الثقافي والجغرافي وتحاول ان تعوض تقزمها الديمغرافي و الجغرافي بان تلعب ادوار كبيرة،&ودول يدور فيها نقاش كبير بانها جغرافياً تنتمي الى قارة اخرى واعراق اخرى وبالتالي ليس عليها ان تخوض صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.

أخطاء صموئيل هنتنغتون عندما اعتقد ان الصراع الدولي القادم هو نتيجة التصدعات داخل الثقافة الواحدة سوف تتطور لتكون بؤر للصراع مستبعداً ان يكون هنالك تصدعات داخل الدين الواحد او العرق الواحد.

فلو كان هنتنغتون قد عاش ايامنا هذه لكان شاهد بأم عينه كيف تتصدع الاديان الواحدة والايديولوجيات الواحدة والطوائف والاعراق الواحدة وكيف صارت تخوض حوارات عميقة وتهاجم ذاتها بعنف.&

والاهم هو كيف اصبحت الخيارات المتباينة تحطم الاحلاف الاستراتيجية والتكتلات الاقتصادية المتينة والتجمعات الاقليمية العريقة بل وتهدد نسيج المجتمعات والشعوب وترسم عالم من صراع الخيارات المتناقضة والمتباينة.