إذا قلنا إن الهدف الأبرز لدى الأديان السماوية هو تنظيم العلاقة بين الناس بعضهم بعضا من جهة، وكذلك تنظيم تلك العلاقة بين العبد وخالقه من جهة أخرى، فهذا يعني بأن أي قرار أرضي للحزب الديني ربما كان له أبعاد لاهوتية، وأن أيّة إشكالية كبرى تتعلق بمصائر البشر تحصل على الصعيد الميداني قد تحال إلى سلطة الماوراء، وذلك ليس دائماً من مبدأ الإلتزام بما ورد في سياق الشرائع السماوية، إنما لتخفيف العبء عن كواهل قادة التنظيم الديني، أو لتخليص الخاقانات الحاكمة باسم مَن في السماء مِن تبعات أوامرهم المجحفة بحق من يدب على الأرض، أو لتملصهم من عواقب الأخطاء الكبيرة الناجمة عن قراراتهم، وذلك من خلال الإيحاء للأتباع بأن ثمة جوانب إلهية تدخل في مسار عملهم، ومن الصعب عليهم الخروج عن القواعد الثابتة الواردة في التشريع الإلهي.
بينما الحزب السياسي الدنيوي ـ غير الديني ـ لا شأن له البتة بثواب أو عقاب الآخرة، إنما كل غرضه محصور بالأهداف التي سيحققها الحزب السياسي المؤلف من مجموعة من المواطنين ممن يتقاسمون نفس الأفكار، ويجتمعون بهدف تحقيق المصلحة العامة &لأعضاء الحزب وللجماهير التي آمنت به أو انضمت إلى صفوفه، وذلك من أجل تحسين ظروف حياتهم في الدنيا بعيداً عن كل ما يتعلق بإغراءات الآخرة أو مخاوفها، ما يعني بأنه من اليسر جداً إجراء التغيير في أي بند أو قرار أو مادة من دستوره أو آلية من آليات عمل ذلك الحزب الدنيوي، طالما كان الهدف من الخروج عن النص القانوني أو النظام الداخلي للحزب هو مصلحة المجتمع ككل، باعتبار أن المصلحة العامة للإنسان فوق أي اعتبار قانوني أو سياسي.
إلاَّ أن ما يحز في نفس بعض المراقبين للأحداث الجارية، ممن يعيشون نوائب المنطقة راهناً، هو ليس مشاهد القتل والتهجير والدمار فحسب، وليس فقط ظنهم بأن الدول التي تقامر بمصائر الخرائط &تتعامل مع ملفات وقضايا شعوب تلك الرقع الجغرافية وكأن مَن يشغلونها هم مجرد جوامد أو كائنات أخرى غير بشرية؛ إنما عندما يرى بأن المصائب التي تحل بشعوب المنطقة، هي سائرة في نفس المسار الذي سارت عليه أمم وشعوب أوروبا، وطبعاً من دون قدرة الناظر التأثيرَ على مسار الأحداث أو التخفيف من وطأة ويلات ما يجري، هذا بالنسبة إلى ما يجري في عموم المنطقة مقارنةً مع ما جرى سابقاً في الدول الأوربية منذ أقل أو أكثر من قرن، والمؤلم أكثر هو معاينة المرء للكثير من الأدوار القميئة لبعض أطراف الصراع التناحري داخلَ بلدٍ بعينه، فيما يكون حاله أشبه بحال مكبلٍ لا حول له ولا قوة.
عموماً حتى إذا ما آمنا بأن الغوغائيين لا يستفيدون من تجارب الشعوب الأخرى قط، ولا يطيب لهم إلاّ المرور بنفس المضائق والظروف التي عاشها شعب آخر في قارة أخرى، ولكن &أين هو دور النخب والحركات السياسية التي عليها توجيه دفة القيادة؟ بحيث تعمل قدر المستطاع لئلا تمر حركة التاريخ الدامي في دياره من نفس المزالق التي مرت بها عجلات الزمن في الدول المتقدمة؟ وأليس مخجلاً أن تسير النخبة خلف الرعية وتنساق مع شعاراتها وهتافاتها وتتبنى كل أمراضها على أساس أنها تمثل الواقع؟ وهل كل ما كان حقيقي وواقعي هو محط صدق وتقدير؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا نعادي الطاغية والسارق والمبتذ والجاني والمستغل والفاسد، طالما أنهم أبناء الواقع نفسه مثلهم مثل الضحية والمسروق والمجني عليه؟ أما آن لتلك النخبة أن تعمل على فرز أشياء وتمثلات وشخوص الواقع، وتميل بالتالي الى جهة الصلاح الحقيقي القائم على العدل والمساواة والحق والإنصاف في ذلك المجتمع؟ & &&
ومن كل بد أن التساؤلات أعلاه لم تكن وليدة القراءات التاريخية، ولا قُدّحت شرارتها بعد مراجعة تجارب شعوب بعيدة عنا أو أخرى تجاورنا في الشرق الأوسط، إنما فرض التساؤل نفسه عقب الموقف الغريب والجريء لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) في محافظة إدلب، حيث ذكرت شبكة أورينت* نقلاً عن مراسلها بإدلب في 14/2/2019 أن حكومة الإنقاذ التابعة لـ"هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة) أزالت شعارات دينية كتبتها الأخيرة على اللافتات الطرقية في مناطق سيطرتها شمالي سورية، ومن العبارات التي تم إزالتها شعارات مثل: "الصلاة يا شباب الإسلام"، و"الجهاد باب من أبواب الجنة"، و"الحجاب يا فتاة الإسلام"، حيث جاءت حركة النصرة ومناورتها تزامناً مع عقد قمة ثلاثية في "سوتشي" الروسية بين زعماء كل من روسيا وتركيا وإيران، لبحث قضية الاتفاق الموقع بين روسيا وتركيا حول إدلب، والمشهور باسم اتفاق "سوتشي"، وحيث تحاول الهيئة التخلص من شعاراتها الدينية في سعيٍّ منها للخروج مِن قائمة المنظمات الإرهابية لدى الدول الغربية وحتى بعض دول المنطقة، وهو ما ظهر بأن الهيئة قادرة على التبرؤ من أشياء رئيسية متعلقة بسلوكها ونهجها الديني بناءً على المعطيات والظروف السياسية والعسكرية الراهنة، علماً أن الجبهة قد لا تفلح في التملص من عقاب الدول، ولكن غرضنا من التنويه هو تبيان الديناميكية العالية لدى ذلك التنظيم.
وبالمقابل فإن حزب الاتحاد الديمقراطي PYD هو حزب يساري لا شأن له بالآخرة قط، إنما كل غاياته وأهدافه دنيوية، وعلى أساس أنه وجد لأجل مصلحة الأحياء من البشر وتحقيق الاستقرار والأمان لهم، ولكنه وللأسف ففي اللحظات المصرية لم يرتقي إلى مستوى ذلك التنظيم الديني في كيفية تجنيب المخاطر المحدقة به، ولم يتجرأ على تغيير خطابه من أجل تجنيب المنطقة التي يسيطر عليها من الخراب المحتوم، ولم يقدر كما هو حال التنظيم الديني التبرؤ من شكلياته لقاء إنقاذ الجوهر ألا وهو الشعب! والدليل على ذلك هو أنه قبيل غزوة عفرين من قبل تركيا، وحيث كانت طبول الحرب تُقرع على تخوم عفرين، إلا أن ذلك الحزب الدنيوي الذي كان مسيطراً على المنطقة لم يحسن المناورة كما فعل التنظيم الديني في إدلب، ولا استطاع ذلك الحزب اليساري التخلص من صور القائد والشعارات والأعلام التي كانت ومنذ عقود بمثابة الخرقة الحمراء التي يُلوّح بها حتى يتقدم الجيش التركي لنطح حاملهاّ، وبالتالي تدمير المناطق الكردية متى ما سنحت الفرصة من وراء عنتريات أصحاب الخِرق والتلويحات!!
وبغض النظر عن &تصور ورأيي بعض مراقبي المشهد في قولهم: بأن الجهة التي تدعم جبهة النصرة على الأرجح هي من طالبتها بتغيير شعاراتها وإنزال اللافتات الدينية من على الشاخصات في الشوارع والساحات العامة في محافظة إدلب، وذلك لينقذها من الاحتماليات الكبيرة للحرب عليها بتهمة الإرهاب، وإردافهم ببحاتٍ جارحة قائلين: بأنها عملياً هي نفس الجهة التي طالبت عبر أذرعها الاستخباراتية حزب الاتحاد الديمقراطي بالإكثار من صور عبدالله أوجلان وأعلام حزبه وشعاراته العسكرية، وذلك لتثبيت تهمة الإرهاب عليه وتأكيدها مرة تلو الأخرى، وذلك حتى يكون هناك مبرر دائم للهجوم على المناطق الكردية بتلك الحجة.
والمفارقة الكبيرة أنه عادة ما يكون من الصعب على الحركات أو التنظيمات ذات الخلفية الدينية، التخلي عن شعارات وهتافات تشير إلى منهجها وخلفيتها العقائدية، بينما يكون من السهل جداً على الأحزاب والتنظيمات الدنيوية تغيير اكسسواراتها وخطابها، طالما كان التغيير لصالح المجتمع الذي وجدت الأحزاب فيه من أجل تحقيق غاياته وأهدافه، ولكن أليس من العجائب أن تعمل هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) على تغيير ثوبها وشعاراتها وشاخصاتها بكل يسر وخلال ساعات من أجل إنقاذ ذاتها ومَن معها، بينما حزب الاتحاد الديمقراطي PYD وحزب العمال الكردستاني PKK وروافده غير قادرين على التخلص عن بضعة خرق، أو ألوان، أو صور، أو اكسسوارات دعاياتية سياسية صرفة!!!
على كل حال فبما أن ذلك الحزب الدنيوي يرى بأن صور القائد الطوطم، وكلماته، وخِرق الحزب وشعاراته أهم من مصير شعبٍ برمته؛ فهذا ما يُعزّز مصداقية وأهمية رأي بروفيسور التاريخ المعاصر بجامعة لاسابينزا في روما، إميليو جينتيل*، في قوله بأن "أي نشاط إنساني من العلم إلى السياسة وحتى التاريخ أو من التسلية والترفيه يمكن أن يُستثمر في مجال القداسة الدنيوية، وأن يصبح موضوعًا للعبادة والتقديس عند طائفة علمانية معينة" وهو ما يشير إلى أن البلايا التي يتسبب بها الحزب الدنيوي هو نتيجة تحوّله من فرط التمجيد والتعظيم والتقديس إلى دين سياسي، وعندما تصبح السياسة مؤطرة بهالة من القداسة، فلا ينبغي حينها البحث عن المسؤولين عن مثالب الساسة، أو محاسبة القائد عن الويلات التي يجلبها على الملة، طالما غدا مقدّساً مثله مثل آلهة الديانات السماوية.
وإذا ما آمنا بأن كل ما يحصل للأمة هو مقدر بالنسبة للتنظيمات ذات الخلفيات الدينية، وبالتالي لا يستدعي الأمر الخروج عن السكة المرسومة لها لإيمان أصحابها بالقضاء والقدر، فهل يا ترى صار مطلوباً من الرعية التعامل مع قادة الأحزاب السياسية الدنيوية الذين وصلوا مرحلة التقديس والتأليه بنفس الآلية؟ وبالتالي اعتبار قراراتهم كقضاء وقدر، ومن ثم التأكيد على أن الحزب السياسي الذي يحوّل أدبياته ومفوّهات قادته إلى نصوص ورموز مقدسة، يغدو مثله مثل أي مَجمَع ديني ممعن في التطرف وجامد الخطاب في تعاطيه مع قضايا المجتمع رأياً وسلوكاً وممارسة؛ حيث يغدو وقتها الحزب السياسي ديناً سياسياً لمن يؤمنون به، ومن كل بد أن الحزب السياسي عندما يصبح ديناً، فالزعيم الأرضي وقتها لا يكون أقل قدسية من إله الأديان، وبالتالي فكل القتل والخراب والدمار الذي ينتج عن القرارات الكارثية لقادة الحزب وزعيمه لا تُنتقد، ولا ينبغي محاسبتهم أو حتى معاتبتهم عليها، طالما أنهم انتقلوا من مستوى إدارة الشؤون الدنيوية للأوادم إلى مصاف الشؤون الإلهية بالنسبة لأتباع الحزب وكوادره والرابضين على عتباته المقدّسة. &
ـــــــــــــــــــــــــــ
*تحرير الشام تزيل شعارات دينية عن اللافتات الطرقية شمالي سوريا.
https://goo.gl/WZppYz
*الدين السياسي: بديل عن الدين، أم أنه دين جديد؟ البروفيسور إميليو جينتيل، ترجمة إبراهيم جركس.