هل هناك حقاً كأس&مقدسة&Le Graal&في الفيزياء الحديثة يبحث عنها العلماء كما يبحث المسيحيون عنها في الميثولوجيا الدينية ؟ يبدو أن هذه الفكرة هي المحفز الأساسي والأول، والفكرة المرشدة والموجهة، لمجموعة العلماء الشباب الجدد في سعيهم لتجاوز معوقات الفيزياء الكلاسيكية وهي فيزياء النسبية وميكانك الكموم المتنافرتين والتي يصعب، إن لم نقل يستحيل، جمعهما وتوحيدهما، وهو الحل الذي راود منذ قرن وربع القرن مخيلة العلماء في كل العقود وعلى رأسهم أينشتين نفسه. فكل ما قدمه وجربه العلماء الشباب من نظريات ومفاهيم ثورية تجديدية جريئة يهدف بالأساس إلى العثور على الوسيلة الأنجع للتوحيد في نظرية واحدة هي نظرية كل شيء تجمع النسبية والكوانتوم أو ميكانيك الكموم ، والتي ستحيط بالكون المرئي برمته من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر، من الكوارك إلى النجوم والمجرات والسدم والحشود المجرية.&

لم يكن هذا الحلم وليد الأمس فلقد هيمن على فكر وحياة ونشاط وعمل وأبحاث آينشتين طيلة أربع عقود ولغاية وفاته ولم ينجح، لا هو ولا غيره، في تحقيق ذلك الحلم. والمشكلة&&تبقى ماثلة أمام الجميع وقابلة للفهم لكن الحل اللازم لها يفلت من بين أيدي العلماء، فكلما وجدوا حلولاً ومقترحات ونظريات تنتج عنها لانهائيات كثيرة وتناقضات ومفارقات وتحديات وتساؤلات جديدة تعيق إنجاز النظرية الشاملة والموحدة. فمن جهة هناك نظرية النسبية العامة التي تعرف وتصف الجاذبية أو الثقالة باعتبارها خاصية من خصائص الزمكان&L’&&حسب التعبيرespace-temps&الاينشتيني، والذي ينحني ويتحدب تحت تأثير الكتل، والذي يصف تماماً وبدقة الكون المرئي على نطاق اللامتناهي في الكبر وفي مستويات الطاقة العليا الفائقة . ومن جهة أخرى هناك الميكانيك الكمومي أو الكوانتي الذي يصف بدقة تامة ويتوقع ما يوجد في،&&و ما يكون عليه، عالم اللامتناهي في الصغر من مستوى مادون الذري ، أي عالم الذرات والإلكترونات والفوتونات والجسيمات الأولية الأخرى . بيد أن العالمين اللذين تصفهما هاتين النظريتين لايتوافقان على الإطلاق وليس بينهما مشتركات . أحدهما يتمركز في فضاء أومكان مسطح وساكن أو ثابت، والآخر في حيز مكاني محدب وديناميكي متحرك . أحدهما يسلم أمره للصدفة والاحتمالات ويمنحهما دوراً جوهرياً أساسياً مؤثراً، والآخر لا يعطي أي مكانة أو يعير أية أهمية أو قيمة للاحتمالات والصدفة، فهي غير موجودة في قاموسه. أحدهما يرى الزمن وكأنه معلم بسيط من معالم التطور ، بينما يراه الآخر كأنه عنصر مركزي ثابت لا يتغير باتجاه واحد يسميه "سهم الزمن" المتجه من الماضي نحو المستقبل. ولكن ماهو موقع الثقالة او الجاذبية الكونية؟ وهي التي تحتل الشخصية الأساسية الرئيسية في النسبية العامة؟ لامكانة ولا دور لها و لا أي وصف في الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، باختصار فإن دعامتي الفيزياء الحديثة غير متوافقتين وغير متساوقتين على الإطلاق بالرغم من أن من المفترض أنهما يصفان نفس العالم&.

يمكن أن نتقبل هذا اللاتساوق بينهما ونعتبره واقع حال لا محيد عنه والثمن هو التخلي عن البرنامج التوحيدي الكبير للفيزياء النظرية، الذي شغل بال العلماء طيلة قرن ونيف. فمنذ غاليله، في القرن السادس عشر، كانت كل نظرية جديدة تزيح وتحل محل النظرية القديمة وتكون أوسع وأكثر عمومية وشمولية، ولقد نجح العلماء في توحيد جزيئات نظرية كالتوحيد بين الكهرباء والمغناطيس في صيغة عرفت بالكهرومغناطيسية ثم أدخلت في الميكانيك الكمومي بدون معوقات أو صعوبات كبيرة. وكانت الجاذبية النيوتنية قد احتوتها وتجاوزتها النسبية العامة. وفي كل مرة يصاغ إطار نظري جديدة له قوانينه ومعادلاته الرياضياتية، يكون أوسع وأشمل وأكثر استجابة لاحتياجات العلماء التنظيرية وكانت النتائج خصبة وواعدة ولقد عبر عن ذلك آينشتين نفسه حين قال: يجب مواصلة هذا البرنامج فهو في غاية الأناقة والجمال . وذلك في رسالة بعضها لزميله هيرمان ويلHermann Weyl&سنة 1923.

ولكن لاتزال هناك ظواهر كونية مشتركة لايمكننا اليوم وصفها وفهمها بدون الثقالة الكمومية أو الكوانتية&gravitation quantique، وكأمثلة على تلك الظواهر اللغزية : استحالة أن نعرف ما يحدث داخل الثقب السود ، و لا فهم ولادة الكون المرئي و لا شرح ووصف تكوين الجسيمات الأولية . ومنذ أكثر من قرن كانت هناك عدة محاولات لإجراء المصالحة والجمع بين الشقيقتين اللدودتين ، وإن الإبحار في محيط النظريات التي ادعت ذلك يغرقنا في لج عميق كما أغرقت أسماء علماء عباقرة فطاحل وشخصيات فذة. بدأ السعي الجدي منذ العام 1918 مع عالم الرياضيات والفيزيائي اللامع هيرمان ويل&Hermann Weyl.وتابعها آينشتين و ثيودور كالوزا&Theodor Kaluza، و وآرثر إيدنغتون&Arthur Eddington، و روجر بنروزRoger Penrose، و أندريه زاخاروف&Andrei Sakharov، و ستيفن هاوكينغ&Stephen Hawking، و كارلو روفيلليCarlo Rovelli، و ليونارد سوسكايند&Leonard Suuskind، و آلان كونسAlain Connes، ولقد اعتقد العديد من هؤلاء وغيرهم أنهم كانوا على وشك تحقيق الهدف. مثلما هو الحال عندما تفتقت ذهنية العلماء في ثمانينات القرن الماضي عن نظرية جاءت غاية في التعقيد والغرابة والجمال والأناقة في نفس الوقت، وكانت نظرية فاتنة ومغرية وهي نظرية الأوتار&théorie des cordes&، ومن ثم الأوتار الفائقة&théorie des super cordes، مع قرينتها التوسعية التي أعطتنا النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات&modèle standrd de physique des particules، ونظرية التناظر الفائق&théorie de supersymétrie، وتخيلوا عالماً أو كوناً مكوناً من عشرة أبعاد مكانية وبعد زمني بحيث تكون الجسيمات الأولية الأصغر في الكون عبارة عن أوتار في غاية الصغر بطول 10-32&من المتر تتذبذب كأوتار آلة الكمان الموسيقية، مولدة عدد لامتناهي من الجسيمات الأولية المتنوعة. ومع ذلك بعد الحلم فشلت هذه النظرية الثورية في تحقيق الهدف المنشود ألا وهو توحيد داعمتي الفيزياء المعاصرة.&

اليوم وفي نهاية العام 2019، تغير كل شيء . الوسط الفيزيائي في حركة دؤوبة ونشاط محموم، والتجارب الجديد قادت إلى صياغة العديد من النظريات الفيزيائية الجديدة التي يمكن أن تعد بديلة للنسبية العامة كما يقول كارلو روفيللي الأستاذ في جامعة مرسيليا في فرنسا وهو أحد كبار الفيزيائيين النظريين. لقد بلغ مسرع ومصادم الجسيمات الكبير&LHC&التابع لوكالة الفضاء الأوروبية سيرنCERN&الواقع على الحدود الفرنسية السويسرية قرب جنيف ، طاقته القصوى سنة 2015 ولم يعثر على أي شيء يشير إلى الجسيم الفائق التناظرparticule supersymétrique، و لا الثابت الكوني الذي يحدد سرعة التمدد والتوسع الكوني الذي تم قياسه وظهر أنه موجب في حين أعتقد أغلبية الأخصائيين في نظرية الأوتار الفائقة أنه سالب.&

وكذلك جاء اكتشاف الموجات الثقالية أو موجات الجاذبيةondes gravitationnelles، ولقد توصل العلماء إلى أن الموجات الثقالية والموجات الكهرومغناطيسية الناجمتين عن تصادم نجمتين نيوتريتين تنتقلان بنفس السرعة، والحال إن جزء كبير من النظريات البديلة للنسبية العامة تنبأت أن سرعة هذين النوعين من الموجات مختلفة . بقيت نظرية بديلة على قائمة التنافس وهي نظرية الجاذبية الكمومية أو الكوانتية الحلقية&la gravitation quantique à boucles، وهي الثانية بعد نظرية الأوتار الفائقة ضمن نظريات كل شيء المرشحة كبدائل . فبدلاً من النظر إلى الجاذبية باعتبارها تأثير ناتج عن تشوه الزمكان&la déformation de l espace-temps، فإن نظرية الجاذبية الكمومية الحلقية تعتبرها بمثابة تجلي أو تمظهر لحقل ثقالي أو مظهر من مظاهر حقل الجاذبية&manifestation&&du champs gravitationnel.&&لم يتمكن أي من العلماء المناوئين تعريض هذه النظرية إلى وضع صعب أو دحضها من خلال نتائج التجارب المختبرية التي أجريت عليها، والحال إن المشاكل النظرية أعتبرت جوهرية وأساسية في سنوات الثمانينات ، وقد تم حل الكثير منها، ويجري البحث اليوم عن توقعات وتنبؤات كمومية أو كوانتية لمقارنتها مع التجارب ، والجدير بالذكر أن هذه النظرية هي من أطروحات العالمين الإيطالي كارلو روفيللي و الأمريكي لي سمولين&Lee Smolin، وهذا الأخير شن هجوماً كاسحاً يعتبر بمثابة إعلان حرب، على نظرية الأوتار الفائقة المنافس الرئيسي لنظريته، بعد أن كان أحد أقطاب نظرية الأوتار الفائقة سابقاً وتخلى عنها.

كل ذلك لا يمنع من فتح طريق أخرى. ففي نهاية سنوات التسعينات ، وعلى إثر تجربة مدوية أجراها العالم الفيزيائي المختص بنظرية الأوتار الفائقة، خوان مالداسينا&Juan Maldacena، إتضح منها أنه، في بعض الأكوان النظرية المبسطة ، فإن جميع النتائج والتأثيرات التي عزيت لقوة الثقالة أو الجاذبية الكونية يمكن أن توصف بأنها ظواهر كمومية أو كوانتية تحدث على حدود أو تخوم هذا الكون، حيث لا وجود لأي أثر للجاذبية أو الثقالة ، وبالتالي ولدت إمكانية لإجراء مصالحة بين الميكانيك الكمومي أو الكوانتي مع النسبية العامة ولكن في كون مبسط ونظري. استبشر الكثيرون بالخير وظنوا أنهم باتوا قريبين من الهدف المنشود كما يقول العالم جوزيف بولشنيسكيJoseph Polchinski&من معهد كافلي في كاليففورنيا، وواصل الإعراب عن رأيه قائلاً :" كان الاكتشاف من القوة بمكان بحيث شعر أغلب الفيزيائيين أن كل شيء سوف يتحقق قريباً وبسرعة . لكن أدى ذلك فقط إلى ظهور ولادات لأوليات عدد من النظريات الفرعية، مثل نظرية العالم الهولندي إريك فيرلندي&Erik Verlinde&، التي وصفت الجاذبية بأنها تمظهر أو تجلي ماكروسكوبي لظواهر ميكروسكوبية كامنة، أو نظرية خوان مالداسينا و ليونارد سيسكايند اللذين افترضا مسلمة تقول أن تلك الظواهر الميكروسكوبية هي بالتحديد تشابكات كمومية أو كوانتية. أما الجزء الآخر من العلماء فلم يقدموا شيئاً يذكر بعد. فالأمر برأي كارلو روفيللي ، يحتاج لمعادلات جديدة أكثر متانة وإتقاناً وجمالاً وأناقة". فاستبدال نقطة بوتر صغير لا يكفي للوصول إلى حل على حد تعبير نيكولا جيسين&Nicolas Gisine&المختص بالكموم في جامعة جنيف، الذي يعتقد إن على النسبية العامة والميكانيك الكمومي ، ليس فقط التحرك ومغادرة منطقة الجمود فحسب، بل عليهما أن يحدثان ثورة في داخلهما، فنحن بحاجة لأفكار جديدة".

في ظل مثل هذه الأجواء المتأججة والهائجة إنطلق الجيل الجديد من العلماء في مقاربة جديدة غير مالوفة سابقاً المتمثلة بعزل الظواهر الأكثر غرابة في النظرية ودفعها إلى ابعد ما يمكن لمعرفة ورؤية ما يتعدى الميكانيك الكمومي أو الكوانتي. وذلك إنطلاقاً من " السببية" causalité&&واللامحلية&&la non –localité، وتداخل السياقات الكمومية أو الكوانتيةcontextualité، وهي محاولة في طريقها لفتح آفاق جديدة نحو الثقالة الكمومية الصعبة المنال حالياً . ومع مفهوم السببية تقدمت هذه الحركة الجديدة كثيراً منذ اكتشاف هذا التراكب الكمومي أو الكوانتي الغريب بخصوص السبب والنتيجة والعلة والمعلول، إذ وجد الباحثون فيها باباً للولوج من جديد إلى النسبية. فالسببية هي نقطة تلاقي وتوافق بين النسبية العامة والميكانيك الكمومي أو الكوانتوم.كما يقول آليكسي غرينباوم&Alexei Grinbaum،"وهنا على وجه التحديد يسمح الكموم أو الكوانتوم بشيء في الزمكان لا نستطيع شرحه". ويوضح العالم كاسلاف بروكنرCaslav Brukner&المختص بالموضوع في جامعة فينا، قائلاً :" لو وضعنا جسم هائل الكتلة في وضع تراكب سببي ، فإن المسافات الزمانية المكانية أو الزمكانية&spatio-temporelles&بين الأحداث داخل حقل ثقالي أو مجال جاذبية&champ gravitationnel&&للجسم المعني، ستصبح تشابكيةintriquées&أي تتشابك مع موضع أو موقع الجسم المذكور". والتكنولوجيا المتقدمة حالياً سوف تسمح قريباً باختبار صحة هذه الفكرة مختبرياً وتجريبياً على أشياء أو أجسام كممومية أو كوانتية أكثر ضخامة ، وسوف نصل قريباً إلى درجة عالية من الدقة كافية لدراسة كتل بمستوى إلكترونين ويستعد العالم الشاب سوغارو بوس&Sougaru Bose&للتحضير لهذا النوع من التجربة في جامعة كولج أوف لندن&.

وهناك أمل، رغم التشوش والذهول الطاغي ، في التوصل قريباً إلى نظرية كل شيء أو الغرق مرة أخرى في السراب والوهم والبدء من جديد من نقطة الصفر بحثاً عن الكأس المقدسة في الفيزياء.