عندما يزورك الحزن، لا تخف، إفتح بابك له، فإن لم تفتح بابك سيدخل رغم أنفك، وإذا دخل رغم أنفك فلن يصبح مجرد زائر بل سيصبح صاحب بيت، لذلك وكإنسان طبيعي إفتح بابك واستقبله، لكن عليك أن تدرك من البداية أن استقباله سيكون على اعتبار أنه مجرد زائر، بمعنى ألا تترك له الحبل على الغارب، فيتحول مع الوقت من زائر عابر إلى مقيم، بل وقد يستخرج أوراق الجنسية دون أن تدري لتجد نفسك بعد فترة وقد أصبحت أنت الزائر لديه.

عندما تشعر بالحزن فهذا دليل على أنك إنسان لك قلب لم يكن يوما مجرد مضخة تسكن جانبك الأيسر، ولم يكن مجرد ماكينة للنبض فقط، بل هو قلب يشعر ويتألم، القاسية قلوبهم فقط هم من لا يشعرون بالحزن، هم أيضا لا يعرفون طعم السعادة الحقيقية ولا يعرفون الحب الصادق، لا تسعدهم إبتسامة طفل، ولا تنتشلهم من الألم قطعة موسيقية جميلة، لا يرون الزهور كما هي في الواقع بجمالها الحقيقي، عيونهم لا تدمع إلا إذا إستوطنتها بعض الأتربة، وقلوبهم لا ترقص للمفاجآت الصغيرة، ولا تزورهم الدهشة أبدا، أزهارهم بلاستيكية وأقمارهم مستعارة وفرحتهم سطحية، إذا شعرت بالحزن لحادث أصابك كفراق حبيب أو ضياع شيئ تحبه فأنت إنسان، وشعورك بالحزن إنما هو دليل إنسانيتك.

لكن تمهل قبل أن تسعد بهذه الكلمات لابد أن تعرف أن طريق الحزن مؤلم، عندما نحزن فنحن نركض فوق جسر حديدي يعلو حفرة كبيرة من النار، لابد أن تؤلمنا أقدامنا وهي تركض حافية فوق حديد يواجه الإنصهار، لذلك علينا ألا نقف فتذوب أقدامنا ويلتهمنا الجسر ونضيع، علينا أن نعلم أننا نتألم، ونعرف أن طول الجسر نحدده نحن، فإذا ركضنا مسرعين سنقلل الخسائر، أما إذا توقفنا فستكون النتيجة مؤسفة، حتما سنقطع الجسر فلا مناص من ذلك إذا أردنا أن نستمر، وأكيد أن أقدامنا ستؤلمنا بشدة، وقد تتقرح، وتحتاج علاجا لما أصابها من حروق، وسنحمل معنا طوال رحلة الحياة آثار هذه الحروق، التي تعتبر توقيعا من الحياة يؤكد أننا ننتمي إلى الإنسانية.

المهمة صعبة، وحتى نجتازها بسلام علينا أن نعرف ما هو الحزن، ومتى يزورنا، وكيف نستقبله، وهل ما نعانيه إنما هو مشاعر طبيعية أم أن المنحنى إنحرف بنا لطريق قد لا يكون فيه الخلاص، إذا أدركنا من البداية خريطة الحزن سنعرف كيف نحياه ونودعه بعد فترة بخسائر أقل وحدهم الذين لا يعرفون الخريطة هم من يفاجأون بأحزانهم فيصيبهم الإرتباك وتعوزهم الحكمة للخروج سالمين.

عندما تسافر إلى بلد جديد عليك، فأنت أمام إختيارين، إما أن تتفقدها بشكل عشوائي، وإما تخطط لرحتلك بالتعرف على معالم البلد وأسراره وخرائطه قبل أن تصاحب قدميك شوارعه، إذا تصرفت بشكل عشوائي، فقد خسرت كثيرا، فنقص المعلومة سيجعلك مرتجلا، والإرتجال سيضيع منك فرصا كثيرة، وقد يوقعك في مشكلات كان من الممكن أن تتفاداها لو أنك إمتلكت المعلومات الكافية عن هذا البلد.

كل شئ في حياتنا يحتاج معلومة نحتفظ بها حتى إذا حان وقت المواجهة عدنا إلى معلومتنا فعبرنا بسلام.

لا تقل أن التجارب هي التي تعلمنا، حقا تعلمنا، لكن بدون معلومات كافية عما نعانيه ستصبح التجربة موجعة في كثير من الأحيانينطبق هذا الكلام عن الحزن، فالحزن مدينة لها أسرارها، وكلنا لابد أن نزورها، لذلك علينا أن نعرف عنها الكثير، حتى إذا حان الوقت إستدعينا معلوماتنا فصارت التجربة تحمل من الفائدة أكثر مما تحمله من الخسارة، وحتى تنجلي الصورة أمامنا فلابد أن نعرف ما هو الحزن.

الحزن شعور مرهق نعانيه إثر فقد عزيز أو فقد شيئ كنا نعول عليه،عندما يرحل عنا حبيب إلى العالم الآخر، عندما نكتشف أن من عاشرناه هجرنا لا لشيئ إلا لأنه أراد ذلك، عندما تضيع منا وظيفة كنا نجد أنفسنا فيها، عندما نخسر مبلغا كبيرا في تجارة لم يكتب لها النجاح، عندما تتخلى عنا صحتنا، أسباب كثيرة تجلب لنا مشاعر الحزن، تكون حاضرة بشكل أقسى إذا جاءت في شكل صدمة، أي بدون أي مقدمات، فكل مصدوم حزين وليس كل حزين مصدوم، فالمقدمات تجعل الحزن حاضرا لكنها تمهد له فيصبح أخف وإن كان ثقيلا.

وقد وضع العلماء تصورا لمراحل الحزن، وإن كان غير دقيق حيث كل إنسان هو تجربة بحد ذاته، بمعنى أن لكل إنسان أسلوبه في التعاطي مع الحزن، لكن لا مانع أن نذكر هذه المراحل لمجرد التعرف عليها، أشهر هذه المراحل هي التي وضعتها اليزابيث كوبلر وتعرف بنموذج كوبلر، حيث قسمت الحزن إلى مراحل تبدأ بالإنكار ثم الغضب، ثم المساومة وفي هذه المرحلة يحاول الانسان تقديم التنازلات حتى يستعيد ما فقده، ثم الإكتئاب حيث يكون قد وصل لحقيقة ما حدث بعد طول إنكار، ثم التقبل، هذه المراحل لا يعول عليها حيث كما قلنا تختلف من إنسان لآخر، وقد يعانيها البعض وقد يعاني بعضها فقط.

لكن ما يمكن أن يكون أكثر واقعية هو ما نراه بأعيننا لمن إستضافتهم مدينة الأحزان، فالحزن من وجهة نظري يبدأ بالصدمة، حتى لو كنت تتوقع النتيجة فمجرد حدوثها يصيبك بصدمة إستقبالها، وتتنوع ردود الفعل في هذه المرحلة، وهي من أهم المراحل حيث تحدد طريقك فيما بعد في مدينة الحزن، لذلك علينا أن نكون واعين تماما بهذه المرحلة العصيبة، وعلينا حتى لو كنا مستعدين لاستقبال حادث محزن كل الدلائل تؤكد قرب وقوعه، علينا أن نعرف أنه لا فرار من الإحساس بالصدمة، كما قلنا تتنوع ردود الأفعال، بين ذهول، وعدم تصديق ، وقد تصل للإنهيار وحتى الهيستريا،علينا أن نعرف أن هذه الردود إنما تعيننا على التعايش مع صدمتنا وأنها رحمة بنا لأنها تمهد الطريق للتعايش مع ما أصابنا، بعد الشعور بالصدمة تأتي مرحلة الإحساس بالذنب، فمن رحل عنك صدمك غيابه، ستؤنب نفسك، لو كنت أعطيته إهتماما أكبر، لو كنت لازمته كل لحظة، لو إخترت طبيبا أفضل، لو كنت علمت من البداية أن شريكي يخونني، لو كنت أنفقت وقتا أكبر في تفهم مشاعره، لو كنت حاولت أن أجتهد أكثر في عملي، لو كنت قد توقفت عن التدخين منذ فترة، كل ذلك ستشعر به، فرق كبير بين أن تشعر به وأنت تدري أنه شعور طبيعي ستواجهه، وبين أن يفاجئك فيأخذك في دهاليزه حتى يتحول الشعور بالذنب لمشكلة نفسية، وشعورك هذا لن يحل المشكلة ولن يعيد ما ذهب لكنه سيسلمك للمرض النفسي، مرحلة الشعور بالذنب إذا لم تكن مدركا لها تماما فستؤدي بك إلى الغضب، لماذا أبي من دون الآباء؟ لماذا أنا تتم خيانتي من دون الناس كلها؟ لماذا أمرض وغيري يعيشون بصحة جيدة، ألف لماذا ستطرق رأسك بمطرقة لن تكون أبدا على إستعداد لتحملها، إذا لم تحتط جيدا ووصلت لهذه المرحلة فستكون ضيفا في شوارع الخوف، ستشعر بالخوف الذي يقض مضجعك، ستشعر أن حياتك خاوية بدون من رحل، أو أن مهمتك إنتهت بزوال عملك، أو أن العمر صار ثقيلا لما أصاب صحتك، هل هذا ما ترجو الوصول إليه؟ لا أعتقد، إذاً فلتجعل الحذر رفيقك حتى لا تصل إلى هذا الوضع، إذا لم تكن واعيا بالقدر الكافي لهذه الخطوات، وبالتالي وقعت في براثنها فعليك أن تدرك أن المرض في إنتظارك، فالحزن الشديد يوثر على أجسامنا بشكل مخيف، أخطر تأثيراته أنه يؤثر في مناعة الجسم فيصبح جسدك وسطا جيدا جدا لأمراض كان من الممكن تجنبها، والأمراض في هذه الحالة تختار أضعف نقطة في جسدك، لذلك تختلف من شخص لآخر، الحزن يؤثر على الجسم فيفرز بعض الهرمونات التي تؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم وبالتالي يصبح القلب هدفا خطيرا، ويكفي ما أثببته الكثير من الدراسات أن الحزن الطويل الشديد ينخر عظامنا ويرهق عضلاتنا وقد يأتي بمرض الروماتيزم، قرحة المعدة أيضا ليست بعيدة عن إنسان حزين، وهل تعلم أن الحزن الطويل يجعلك مستهدفا لمرض السكري حتى لو كنت غير مستعد له بجيناتك التي ورثتها؟ فالحزن الشديد يؤثر على عمل الأنسولين، مما يجعل الإنسان عرضة للإصابة بمرض السكري على المدي الطويل.

يؤثر حزنك أيضا على عدد ساعات نومك، فيحدث الإضطراب الذي يؤثر على هرمون الأندروفين، مما ينسحب بعد ذلك على صحتك عموما فتصبح زائرا دائما في عيادات الأطباء، ماذا أيضا؟ سلسلة طويلة من التأثيرات التي كان من الممكن أن نتجنبها،سيتأثر لدينا هرمون السيروتونين وهو ما يسمونه هرمون السعادة، وهذا الهرمون يرتبط بمادة الميلاتونين المسئولة عن تنظيم نومنا، وعندما يضطرب النوم فقد اضطرب الجسم كله.

هل معنى هذا أن نتوقف عن الحزن؟ من قال هذا؟ وكيف يمكن لنا أن نتوقف؟ إنه شيئ خارج عن إرادتنا، إذاً ماذا نفعل؟

نحزن، نعيش أحزاننا ولكن بحكمة، وهل هناك حزن حكيم؟ بالطبع، وهو الحزن الذي تتعاطاه وأنت تعلم طرقه وتعرجاته

مثلا عندما نحزن نبكي، وهذا في حد ذاته شيئ طبيعي بل ومندوب إليه في بعض الحالات، فالبكاء يساعد في تخفيف التوتر، ويخلص الجسم من سمومه، والدموع التي تأتي نتيجة التأثر العاطفي إنما تحمل معها مادة الأندروفين المعروفة بتسكين الألم،البكاء يريحك، لكن حذار أن تستسلم له فتطول ساعات بكائك، خاصة لو بكيت كثيرا قبل النوم، فمثل هذا السلوك سيوثر بشدة على الجهاز المناعي، هو أيضا يحرمك نوما هادئا مما ينسحب بآثاره بعد ذلك على جسدك كله، بل أن دراسات علمية في هذا المجال أثبتت أن البكاء الطويل العميق قبل النوم لفترات طويلة قد يؤدي للوفاة حيث أنه يسرع ضربات القلب مما يعرض الإنسان على المدى الطويل للسكتة القلبية.

لنحزن كما نشاء لكن لا نصل بأحزاننا لحد الإكتئاب، فالحزن حالة إنفعالية لها مدة زمنية قد تطول وقد تقصر، أما الإكتئاب فهو حالة مزمنة يتميز فيها الإنسان باليأس وعدم المبالاة وفقد الإهتمام بكل شئ وبأي شئ، نفقد الإهتمام بأنفسنا وبمن حولنا، وكم من علاقات أسرية تصدعت بسبب إستسلام أحد أفراد الأسرة لأحزانه، لو أن هذا الإنسان توقف للحظة ونظر حولة وأدرك أن من يحبونه هم نعمة عليه الحفاظ عليها حتى لا تذهب هي أيضا، لتغير الوضع تماما.

والحل؟ الحل يكمن فيك أنت، عش حزنك وواجهه، لا تهرب منه أبدا فهروبك منه يجعل مسألة التعافي منه أكثر صعوبة، خذ وقتك ولكن لا تتمادى، فهناك من ينتظرونك ويحتاجون إليك، حاول أن تتعامل مع حزنك بالوقار اللائق، فمحاولة الهروب منه عن طريق حضور الحفلات والتواجد دائما في الأماكن الصاخبة يشوش تفكيرك،ويجعلك بعد فترة أسيرا لحالة من الإنهيار، مع ذلك لا تلجأ للعزلة، بل وازن أمورك جيدا، واعمل على عدم إتخاذ القرارات المصيرية أثناء فترة حزنك فأنت غير مؤهل لذلك أبدا، داوم على التمرينات الرياضية فهي تجلب لك السلام النفسي وتشيع الراحة في جسدك وروحك، لاسيما رياضات مثل اليوجا، وقد تحتاج لبعض الرياضات التي تتطلب مجهودا لتفرغ طاقتك، وعلينا أن نعلم جيدا أننا سنشفى من أحزاننا لكن تظل تجربة الفقد جزءا منا ، ستظل جرحا باقيا لكننا به سنحيا، وعلينا ونحن في محاولاتنا للتعافي أن ندرك أن للحزن فوائد، نعم له فوائد، فهو يجعلنا أكثر نضجا، وأكثر إستعداداً لمواجهة الحياة وتحدياتها فقد أصابتنا الصدمة وعلمتنا الكثير” مالا يقتلني يقويني” وهو قول معروف، فالحزن إن لم يقتلك سيعطيك قوة لمواجهة الحياة، فلا تجعله قاتلك، بل اتخذه معلما، الحزن يفجر طاقات الإبداع بداخلنا، كم من رواية ذاع صيتها، وكم من مقطوعة أسرت القلوب، وكم من لوحة لمست مشاعرنا كان الحزن هو المحرك الأول لإلهام مبدعها، الحزن يعلمنا أن نعطي ثقتنا بقدر، فلم نعد بهذه السذاجة التي تصور لنا الحياة باقة زهور، فمع الزهور لابد من الأشواك، الحزن يساعدنا أيضا على التركيز، هو أيضا يجمع حولنا من يحبوننا بصدق، سنكتشف من خلال أحزاننا من يحبنا ويتمنى راحتنا، وهذه في حد ذاتها جائزة كبيرة للحزين، والحزن يرقق مشاعرنا، فالفقد يضعنا بقوة أمام الواقع لندرك كم من القلوب تحزن وتتألم فنشعر بمن حولنا ونتعاطف مع مشاعر قد لا نكون فيما قبل مدركين عمق تأثيرها.

الحزن هو المعلم الأول، فتعايش معه بما يليق به، ولنستفد بزيارته، ونودعه بوقار وإمتنان.