تضع مذكرات كتبها الموسيقي الفلسطيني واصف جوهرية (1897-1973) عن مدينة القدس في أواخر العهد العثماني، وثيقة نادرة عن هذه المدينة، تفصح عن صورة للقدس لم يعرفها احد من قبل، مختلفة عن صورتها كمدينة محافظة متجهمة في تلك السنوات.
وحملت المذكرات عنوان (القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية) وفيها يسرد يوميات عن حياة أعيان القدس وسياسييها، يمكن أن تفتح المجال للبحث عن دور الخليلات والعشيقات في حياة الافندية، والذي يبدو انه لم يخل من دور سياسي.
وتصور مذكرات جوهرية بعناية، وضع الأعيان والافندية خلال تلك الفترة، وبحبوحتهم ولياليهم الملاح وسكرهم ومجونهم، من خلال عيني صاحب المذكرات بصفته عازفا ماهرا نديما دائما للافندية وضباط الجيش التركي وعشيقاتهم.
ولا يخصص واصف جوهرية فصلا محددا للحديث عن خليلات الافندية، ولكن يمكن من خلال فقرات متناثرة في مذكراته وضع صورة أولية عن هذا الملف غير المعروف على نطاق واسع في التاريخ الاجتماعي والسياسي الفلسطيني.
يقدم واصف جوهرية صورة مغايرة عن حياة القدس أواخر العهد العثماني ويذكر بأنه جاء زمن كان فيه أعيان القدس، خصوصا من العائلات العريقة كالحسيني والخالدي والنشاشيبي يتخذون لهم خليلات، ومعظمهن يونانيات وارمنيات ويهوديات، ويبدو أن دور الأخيرات تجاوز الدور المعهود للعشيقة ليكون لهن دور ربما كان خطيرا على المستقبل السياسي لفلسطين.
ويشير مثلا إلى انه كان لحسين أفندي الحسيني، ربيبه وولي نعمته والذي يصفه بأنه "الأب الثاني" له، عشيقة يونانية من اصل الباني تدعى (برفسون). ويتكرر اسم هذه العشيقة كثيرا في المذكرات لان صاحبها كان مرافقا لعشيقها ولها أيضا.
ويصفها بأنها كانت "على جانب كبير من الجمال والرقة"، وكان مواطنو القدس يعرفونها جيدا.
وكانت عادة هؤلاء الأعيان أن يتخذوا لخليلتهم بيتا يكون في الوقت ذاته مكانا لسهرات الأنس التي لا تنتهي.
ويتضح من خلال مذكرات جوهرية بان سلوك الأعيان هذا لم يكن سريا، ومن الصعب تقديم تفسير لذلك بشكل استرجاعي، ولكن سطوة الأعيان وقوتهم ونفوذهم العائلي والسلطوي والديني والمالي، كان يوفر لهم ممارسة حيواتهم تلك بالشكل الذي وصلنا عبر هذه المذكرات.
ويكتب واصف جوهرية بان برفسون "كانت معروفة لدى الأوساط المقدسية وكانت بالنظر إلى قوامها الفتان وجمالها الباهر وأناقتها في اللباس".ويذكر مثلا أنها إذا "نزلت لزيارة القيامة تقول الناس إنها "نزل البطرك"".
والمقصود اندهاش وإعجاب الناس بحسنها وملبسها فيشبهونها بالبطريرك (وهو صاحب ارفع مرتبة دينية مسيحية)، عندما تذهب للصلاة في كنيسة القيامة. وجلب حسين افندي الحسيني برفسون من استانبول، وبقيت خليلة له مدة 17 عاما، وعندما مرضت أوكل لواصف العناية بها. وتمتعت برفسون بحرية نسبية منحها لها حسين أفندي الحسيني، ويبدو أنها كانت تعلم بأنها ستكون فقط خليلة له، فعملت على تأمين مستقبلها، وذلك باستغلال هذه العلاقة. وكانت تمكث في أطيان عشيقها الإقطاعي في قرى تعود له حول القدس مثل دير عمرو وبيت سوسين.
وعملت برسفون، التي تعلمت اللغة العربية "أشغالا يعجز القلم عن وصفها" كما يذكر واصف، ويعطي مثلا على ذلك تقطيرها للزعتر البري بوساطة ماكينة وميزان خاص وكانت تبيع زيت هذا الزعتر بأسعار مرتفعة للروس الذين كانوا يأتون للقدس ويزورون الأماكن المقدسة بأعداد كبيرة كل عام.
ولم تتوقف تطلعاتها عند حد فعملت في "زراعة الحبوب بالشراكة مع حسين أفندي وخليل بك الداودي وفؤاد بك بن موسى كاظم باشا وغيرهم وكان لها قطيع من الغنم الأبيض والأسود والأبقار والدجاج والحمام وغيره".
ويضيف واصف عن خليلة سيده بأنها كانت "تعيش وكأنها ملكة لما يتمتع به حسين أفندي من نفوذ قوي عند أهالي القرى الذين كانوا يطيعون أوامرها وينفذونها بحذافيرها في بيت سوسين ودير عمرو".
ورافق واصف برفسون منذ صغره وكانت تذلل العقبات التي تعترض طريقه الغنائي "من الأشخاص الذين يأتمرون بأوامرها" كما يذكر واصف الذي كان يعزف لها ويطربها خلال إقامتها في القدس أو جولاتها كملكة متوجة، على قرى الفلاحين التي يمتلكها عشيقها.
وخصص حسين أفندي الحسيني دارا أخذها بطريقة ما من البطريركية الأرثوذكسية ك "اوضة" للسهر فيها. و"الاوضة" في كثير من اللهجات العامية العربية هي الغرفة، ولكن مصطلح "الاوضة" كما يعنيه جوهرية هو ما يمكن أن يكون بلغة اليوم شقة مفروشة من غرفة واحد، يملكها الأعيان لتكون ملاذا ليليا لهم للسهر والشرب والمرح بوجود الخليلات.
واستخدم حسين أفندي الحسيني وإسماعيل بك الحسيني هذه "الاوضة" للسهر ويسميها ويطلق عليها واصف وصف "دار السرور".ويذكر انه عندما زار القدس راغب بك النشاشيبي، وكان يعمل "مبعوثا" في الآستانة أي نائبا في البرلمان العثماني، لم ينقطع عن زيارة دار السرور هذه "وكانت أفراح وليالي ملاح، فكانت طائفة من الحسان يزرن الدار ونقضي الليالي المشهورة فيها على الكأس والطاس والوتر والغناء".
ويبدو أن واصف بذل جهودا كبيرة في إحياء هذه الليالي هو وعازف آخر اسمه حمادة العفيفي قائلا إنهما كانا يجاهدان، حسب تعبيره، جهاد الأبطال في العزف والغناء لإرضاء زوار دار السرور.
ويكتب "اذكر ثلاث سيدات روسيات كن من معارف إسماعيل بك ومحمود أفندي الراغب الحسيني واحدة تعزف على القيثارة والأخرى على المندولين أما الثالثة فكانت تجيد الرقص الروسي بمهارة".
ويضيف "وقد استقل أخيرا العم إسماعيل بك بإحداهن تعزف على القيثارة وكانت أجملهن فسكنت في دار مقابل مستشفى روتشيلد فكنت دائما مع العم إسماعيل بك نقضي الليالي الطوال هناك وقد كلفت بشراء ما يلزمها من لباس وطعام على نفقته الخاصة، رحمه الله، وأصبحت الأمين عليها زمنا طويلا".
(يهوديات ولكن)
ارتبطت سمعة نساء اليهود في الوجدان الشعبي الفلسطيني (..والعربي)، في تلك الفترة وحتى فترة الاحتلال الإنجليزي (وربما حتى الان)، بالانحلال.
وبغض النظر عن أسباب ذلك الفهم المترسخ في الوجدان الشعبي، ووجود ما يسنده من تراث يهودي لم يخل منه العهد القديم، إلا انه كان واضحا أن النساء اليهوديات، ومعظمهن مهاجرات أوروبيات للاستيطان في فلسطين، تمتعن في تلك الفترات بحرية نسبية كبيرة، تفوق كثيرا ظروف النساء الفلسطينيات، حيث كانت النساء في المدن يضعن النقاب على وجوههن، بينما كانت القرويات يغطين رؤوسهن فقط ويعشن ويعملن ويتزوجن ويمتن في محيط عائلي وريفي ضيق.
وشاركت اليهوديات، بفعالية ونشاط في الحركة الصهيونية، ويبدو انه في غمرة استعادة قصص العهد القديم، لتبرير الهجمة الصهيونية على فلسطين استعادت يهوديات أدوارا لعبتها جداتهن في عصر موغل في القدم، وأصبحن نبيات وذات قداسة مثل رحاب، راحيل، سارة، وأخريات غير معروفات تنبهت إليهن الحركة الاستيطانية وأخرجتهن من بطون الكتب لتبرير عمليات استيطانية واسعة في فلسطين نفذت بالحديد والنار، فأصبحت قبة راحيل شمال بيت لحم معسكرا وكنيسا وبرجا لقتل الأطفال والنساء والشبان، وأضرحة إبراهيم وزوجاته في الخليل إلى مكان مناسب لارتكاب مجازر نموذجية كتلك التي نفذها غولدشتاين ضد المصلين، وفي الحرم القدسي الشريف أصبح ل خلدا بابا ومزارا للمتطرفين.
ما يخبرنا به واصف جوهرية أن بعض خليلات الأعيان في القدس وضباط الجيش العثماني من اليهوديات حتى إن جمال باشا المعروف بالسفاح، وهو قائد الجيش الرابع العثماني وصاحب السطوة الكبيرة، كانت له عشيقة يهودية. وكان لراغب بك النشاشيبي، وهو احد الأعيان الذين تولوا رئاسة بلدية القدس خليلة يهودية أيضا.
وكان واصف نديما له ولغيره من الأعيان الذين امتلك الكثيرون منهم "اوضة" أو أكثر، وكان لدى واصف مفتاح اوضة خارج أسوار البلدة القديمة كان يحيي فيها سهرات بوجود راغب بك النشاشيبي وصديقاته الروسيات واليونانيات واليهوديات.
ولكن ما يمكن التوقف عنده هنا، ما يذكره واصف عن مسألة تأسيس جمعية الهلال الأحمر العثماني في القدس عام التي تولى رئاستها الفخرية حسين أفندي الحسيني الذي اجبر على التخلي عن رئاسة بلدية القدس لمصلحة تركي، قبل أن يعود الى منصبه بقرار من قائد الجيش الرابع جمال باشا، وضمت في عضويتها مسلمين ويهودا، وعملت الجمعية على جمع تبرعات للمجهود الحربي العثماني ضد البريطانيين والفرنسيين.
ولكن يبدو أن العضوات اليهوديات في هذه الجمعية كان لهن هدف آخر وهو تحقيق مصالح للطائفة اليهودية في فلسطين، التي تغلغلت فيها الحركة الصهيونية، وتوثيق العلاقات بين هذه الطائفة والعثمانيين، ولا يقول واصف ذلك بشكل مباشر.
ومن "الحسان الفاتنات اليهوديات" في هذه الجمعية يذكر واصف "المس تتنباوم والمس سيما المغربية ومدمو زيل كوب وغيرهن".وكن أولئك اليهوديات يلبسن بدلات رسمية من الجيش وينظمن حملات جمع التبرعات للجيش العثماني لتوثيق العلاقات مع ضباطه بالإضافة إلى وظيفتهن كعشيقات.
ويشير واصف إلى أن قائدة اليهوديات تدعي المس لاندو التي كانت تقيم في حي المصرارة مقابل الكنسية العربية.
ويكتب واصف عن هذه المس "عرفت بأنها كانت هي الوسيط ما بين قواد الجيش ورجال الحكم آنذاك وبين اليهود في العالم".
ويشير إلى دور لإبراهيم عنتيبي مؤسس مدارس الاليانس الإسرائيلية في القدس في هذه العلاقات ويصفه بأنه "المحرك الأيمن لحركات اليهود بالشراكة مع المس لاندو".
ويضيف واصف ملاحظة انقلها كما جاءت بلغته "لاحظت جليا بان اليهود وخصوصا في القدس كان لهم الاحترام والعطف من قبل الحكومة والجيش زيادة عن العرب، والسبب كان ولا شك بوساطة ما كانوا يقومون به من التداخل العميق مع الحاكمين على اختلاف أنواعهم".
وكان أعضاء وعضوات جمعية الهلال الأحمر يسهرون ثلاث مرات أسبوعيا على سطح مقر الجمعية يستمعون إلى عزف واصف جوهرية ويشربون العرق مع المازة التي هي عبارة عن "كبيبة مقلية من صنع عائلة المرحوم سعد الدين أفندي الخليلي".
ولم تستمر هذه السهرات التي كان تنظم في ضوء القمر كثيرا، فبعد نحو شهرين لم يعد هناك وجود حقيقي لحسان اليهود فيها، فما هو السبب؟
يكتب واصف "تفرقت هذه الآنسات من الجمعية وإذ وجدنا بان المس تتنباوم أصبحت خليلة القائد الأعلى احمد جمال باشا والذي كان آنذاك الحاكم بأمر الله، وكانت والحق يقال على جانب عظيم من الجمال وأبدع نساء اليهود، وهي التي أصبحت بعد الاحتلال البريطاني زوجة أبي كاريوس المحامي الشهير في القدس".
إذن تحولت الحسان من متطوعات لجمعية خيرية إلى عشيقات لسياسيين وعسكريين أصحاب قرار.
ويتابع واصف "أما سيما المغربية ذات القوام الفتان فقد أصبحت خليلة سعد الله بك أركان حرب الجيش المقيم في عمارة الكانتورا الواقعة شمال عمارة المسكوبية ومن أملاك المسكوب أيضا، وكثيرا ما كنت اسهر عنده بحضورها وكانت هاوية الفونغراف، فكل يوم احضر لها المصور الشهير حنا تومايان فيأخذ لها صورا مختلفة الأشكال والأنواع حتى أني اذكر انه عمل لها، حسب أمر سعد الله صورة شخصية طولها تماما وكانت آية في الجمال، ثم المدموزيل كوب أصبحت خليلة للمتصرف ماجد بك على ما اذكر".
واتفق حسين أفندي الحسيني مع المتصرف ماجد بك أن يعلم واصف خليلته اليهودية العزف على العود، وكان يذهب إلى مسكنها أربع مرات أسبوعيا بغرض تعليمها ويصف شغف المتصرف بها فيكتب بأنه كان يعبدها وان اختاره ليعلمها العود لصغر سنه.
ويرافق الضباط وأصدقائهم من الأعيان وعائلاتهم وعشيقاتهم في رحلات يتواصل فيها "الكيف والحظ بينما الدنيا، كانت والعياذ بالله في حرب ومجاعة".
وهناك ما يدعو الى الاعتقاد أن ذلك لم يكن عشوائيا وإنما تم برعاية المس لاندو وإبراهيم عنتيبي الذي يصفه واصف بأنه "كان من أدهى رجالات اليهود في القدس".
ولكن ما لايذكره واصف، وأصبح واضحا بالنسبة الى المؤرخين، حجم الهجمة الاستيطانية والنشاط الصهيوني في فلسطين في تلك الفترة، وهي الخلفية الرئيسة التي شهدت على تلك العلاقات النسائية الواسعة بين العشيقات، والافندية العرب والأتراك أصحاب النفوذ.
وليس من المناسب تحميل الأمور أكثر مما تحتمل، مثلما لا يصح تجاهل ما ورد في يوميات مواطن فلسطيني عاش في القدس في جو من الانفتاح الطائفي والديني، حيث كانت الطوائف غير منغلقة على بعضها البعض وكان الفلسطينيون يشاركون في أعياد بعضهم ومنها الأعياد اليهودية، وكان له أصدقاء كثر من اليهود.
ويمكن من خلال تتبع سير الافندية الذين ذكرهم واصف معرفة حجم تأثير الحسان والعشيقات على مواقفهم السياسية، والدور الذي أغفله المؤرخون عن الدور المفترض للنساء في التاريخ السياسي الفلسطيني.
وابرز هؤلاء هو بلا شك حسين أفندي الحسيني الذي سيحتفظ التاريخ بمشهد تسليمه، بصفته رئيسا لبلدية القدس، المدينة المقدسة للجنرال اللنبي في 9 كانون الأول (ديسمبر) 1917، معلنا بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين.
ومن تتبع سيرة الحسيني نجد انه سليل عائلة عريقة تقلدت مناصب دينية وسياسية مؤثرة، وكان والده سليم الحسيني رئيسا لبلدية القدس، مثلما أصبح هو فيما بعد.
وجده هو حسن أفندي، مفتي القدس في بداية القرن التاسع عشر، الذي أنجب ابنا وحيدا هو سليم الذي ورث ثروة طائلة.
وورث حسين، وشقيقه موسى كاظم عن والدهما سليم المال والجاه والمناصب.
واتخذ حسين الحسيني موقفا معتدلا من الحركة الصهيونية في تلك الفترة ولم يعتبر أنها تشكل خطرا على فلسطين قائلا إنها ليست حركة سياسية، واتخذ كثير من الأعيان الذين ورد ذكرهم في مذكرات جوهرية مواقف مشابهة وأكثر اعتدالا، أما بالنسبة الى الضباط العثمانيين، فعملوا على تسهيل انتقال مساحات واسعة من الأراضي إلى المستوطنين اليهود، مخالفين بذلك قرارات للحكومة العثمانية.
هل لذلك علاقة بعشيقاتهم اليهوديات؟، وهل يمكن من تتبع تاريخ العلاقات النسائية للسياسيين، تفسير مواقفهم المختلفة؟