عبد الله الدامون من طنجة (شمال المغرب): قبل يومين فقط من الزيارة التي سيقوم بها العاهل الإسباني دون خوان كارلوس وزوجته الملكة دونيا صوفيا إلى مدينة طنجة في أقصى شمال المغرب، تبدو هذه المدينة حتى الآن غير مبالية بشكل كبير بهذه الزيارة الأولى من نوعها.
وفي ساحة فرنسا بوسط المدينة ترتفع بضعة أعلام مغربية وإسبانية قرب النافورة الوحيدة في المنطقة التي لا يتحرك فيها الماء إلا في مناسبات نادرة.

طنجة
على جانب الساحة توجد القنصلية الفرنسية بمعمارها البديع وحديقتها البهية بمسبحها الجميل الذي يسبح فيه البط، وهي البناية التي بقيت على حالها منذ العهد الدولي البائد لهذه المدينة التي يشكو سكانها كل يوم من تردي الأحوال ونموها الديمغرافي الأول من نوعه في المغرب وهجرة عشرات الآلاف من سكان القرى المغربية إليها.

ولا يفصل القنصلية الفرنسية عن مقهى باريس سوى شارع من بضعة امتار. وفي هذه المقهى الاسطورية كان يجلس العشرات من الكتاب والفنانين والصحافيين العالميين والأفاقين والبوهيميين والمغامرين الحمقى والعقلاء إبان الحكم الدولي للمدينة. وفي روايات عالمية يرد ذكر هذه المقهى التي لم يعد منها الآن سوى أطلال الذكريات بحيث لم تعد لها أية صلة بأيام "العهد الدولي الرائع" للمدينة كما يردد السكان الذين يحنّون إلى ذكريات لم يعشها أغلبهم.

وفي مقهى باريس جلس كتاب عالميون كبار مثل تينيسي وليامز وجان جنيه وبول بولز ومحمد شكري، إضافة إلى الفنانين والصحافيين والمخبرين من كل الجنسيات في وقت كانت المدينة مثل خلية نحل وتختلط فيها الأعراق والجنسيات والألوان كما تختلط ردهات الأمم المتحدة.
غير أن طنجة اليوم لا علاقة لها بذلك التاريخ البعيد. وسكانها لا يفتؤون يأسفون على تحولها من "أكثر المدن ازدهارا" إلى "أكثرها رداءة".

وعلى بعد خطوات أسفل المقهى يوجد فندق المنزه الذي تنزل فيه الشخصيات الكبيرة أثناء زيارتها للمدينة. ففي هذا الفندق الذي يعتبر الوحيد الذي صمد في وجه تردي السياحة بالمنطقة نزل خوسي ماريا أثنار رئيس الوزراء الإسباني السابق وسلفه الاشتراكي فليبي غونزاليث ونجم الكرة العالمي فرانز بيكنباور وشخصيات سياسية أخرى كثيرة ومخرجون سينمائيون وممثلون عالميون.
وعلى يمين المقهى يوجد "سور المعكازين" وهي ساحة فسيحة بها مدافع قديمة قبالة مضيق جبل طارق بينما يتكئ العشرات من الشباب والمراهقين أتوا من كل مناطق المغرب على سورها الحديدي وهم يتطلعون بشوق إلى الضفة الإسبانية من مضيق جبل طارق والتي تبدو على مرمى حجر.
ويموت المئات من المهاجرين السريين المغاربة والأفارقة كل عام في محاولاتهم للوصول إلى الضفة الإسبانية انطلاقا من المغرب على متن قوارب خشبية غالبا ما تودي بهم إلى الأعماق عوض الوصول إلى الشواطئ الأوروبية.

وفي ساحة السوق الداخلي التي كانت من قبل مركزا ماليا كبيرا لبيع العملات العالمية والذهب وكل شيء تقريبا لا يوجد غير شبح الماضي ورجل يجر كبشا على بعد أيام قليلة من عيد الأضحى. وفي أسفل الساحة احتكت سيارة أمن كبيرة بسيارة نقل تحمل خروفا فنزل أفراد الأمن الشباب وهم يحملون أجهزة التالكي والكي وشتموا صاحب سيارة النقل وأخذوا منه وثائق السيارة ودفعوه بعنف من قفاه ثم انصرفوا.

مطار طنجة
يتحدث القليل من الناس عن زيارة ملك إسبانيا إلى مدينتهم بعد غد (الأربعاء) بنبرة فيها بعض التفاؤل والكثير من الغموض. فهم يقولون إن تنمية منطقة شمال المغرب صار مجرد حلم وأن إسبانيا، المستعمر السابق للمنطقة، فضلت التركيز على مساعدة جهات أخرى في المغرب عوض الشمال الذي ظل طوال عقود المعقل الثقافي واللغوي لإسبانيا.

خلاف الشارع في المدينة انتقل أيضا إلى داخل استوديوهات إذاعة طنجة حيث تراوحت نبرة ضيوف برنامج "المشهد السياسي"، الذي يعده الصحافي سعيد كوبريت، بين التفاؤل والتشاؤم حيث يقول أحد الضيوف بكثير من الصراحة إن الدبلوماسية المغربية ظلت تعتبر إسبانيا مجرد عجلة احتياطية حين تسوء علاقاتها مع فرنسا وتلعب دور العشيق المدلل بين البلدين الأوروبيين، بينما يتفاءل ضيوف آخرون بالزيارة ويعتبرونها مقدمة لعهد واعد من التعاون بين الضفتين.

وعلى الرغم من كل شيء فإن المدينة مازالت تحتفظ بالكثير من رموز العهد الدولي بما فيها مسرح سيرفانتيس الإسباني الذي بني في بداية القرن العشرين واستضاف أشهر الممثلين العالميين وفرقا مسرحية وموسيقية من قارات العالم الخمس. لكن هذا المسرح الذي يعتبر تحفة فنية فريدة تحول إلى أطلال تلعب في جنباته القطط الشاردة وينعق البوم على سطحه البارد ليلا.

كما تتوفر المدينة على أول وأقدم مكتبة إسبانية في القارة الإفريقية والعالم العربي. وفي داخل المكتبة الفسيحة الملحقة بالثانوية الإسبانية الكبيرة يوجد العشرات من الطلاب والطالبات الذين يعتبرون الإسبانية لغتهم الثانية بعد العربية، خلافا لباقي مناطق المغرب التي يعتمد سكانها الفرنسية لغة أساسية.
وفي شارع الحبيب بورقيبة توجد القنصلية الإسبانية بمعمارها الإيبيري وحديقتها التي تشبه حدائق قصور القرون الوسطى. لكن هذا المنظر الرومانسي يختفي خلف أجساد المئات من المغاربة الذين يتزاحمون قرب أبواب القنصلية رغبة في الحصول على تأشيرة لمغادرة البلاد.

ويشتكي هؤلاء من معاملة يقولون إنها سيئة من طرف عمال القنصلية الإسبان الذين لا يتورعون عن شتم المغاربة أحيانا بعبارات عنصرية.

ومنذ عقدين ارتبط اسم المدينة بالتهريب وتجارة المخدرات واكتسبت سمعة سيئة في مجال تبييض الأموال حين صنفها المرصد الدولي لتجارة المخدرات ضمن أحد أكبر الكارتيلات العالمية للمخدرات.
ويبدو ذلك من خلال عشرات المقاهي والصالونات الباهرة ومئات العمارات الشاهقة التي بنيت في المدينة خلال سنوات قليلة في مدينة تخلو من الحدائق أو أماكن التنزه التي استولى عليها تجار المخدرات بتواطؤ مع المجالس البلدية للمدينة.كل هذه الأشياء، وأشياء كثيرة أخرى، تجعل السكان ينتظرون "غودو" الذي لن يأتي أبدا.