تفاصيل الرحلة من سجن أبوظبي إلى معتقل الخرطوم
قصة اعتقال وتسليم المعارض السوداني عبدالعزيز خالد

العميد عبد العزيز خالد يتحدث لـ"إيلاف" من
الخرطـوم في اول حوار بعـد إطلاق سراحـه
طلحة جبريل من الخرطوم: يقيم العميد عبد العزيز خالد، قائد قوات التحالف الشعبي، حاليًا في منطقة "حلفاية الملوك" شمال العاصمة السودانية. يستقبل زواره بكيفية عادية وبروح معنوية عالية.
في مقابلة نادرة، مع هذا المعارض، عبر العميد خالد،الذي شن حربًا ضد قوات النظام إنطلاقًا من شرق السودان، عن تفاؤله باجواء السلام مشيرا الى ان "معركة الداخل ستكون صعبة جدا". ودعا العميد خالد الى وحدة القوى الوطنية لبناء "سودان ديمقراطي". روى العميد خالد، الذي كان زميلًا للرئيس عمر البشير في الكلية العسكرية، ولاول مرة ظروف اعتقاله في ابوظبي والملابسات التي أدت الى تسليمه للحكومة السودانية في بادرة شكلت حرجًا بالغًا لسلطات دولة الامارات. عبر العميد خالد، الذي يناديه مؤيدوه باسم "ابوخالد"، عن اعتقاده بانه كان ضحية عملية مخابراتية مدبرة. "أظن انه كان فخًا أعد بعناية" على حد قوله.لم يكن اللقاء مع رجل خاض حرب عصابات ضد النظام أمرًا سهلًا.

وعلى الرغم من أجواء السلام التي تسود العاصمة السودانية فإن أعين النظام مبثوثة في كل مكان. ثمة اعتقالات وتعذيب، بل إن السلطات أقرت بان احد اعضاء حزب "المؤتمر الشعبي" الذي يقوده حسن الترابي مات تحت التعذيب ووعدت باجراء تحقيق حول الحادث. نتائج مثل هذا النوع من "التحقيقات" لا تظهر عادة.

كان علي ان انتقل الى "حلفاية الملوك" وهناك ابحث عن المنزل الذي يوجد فيه العميد عبدالعزيز خالد. أهل المنطقة يعرفونه جيدًا. لكن المنطقة تسكنها عشيرة وليس أسرة، لذلك أمضيت وقتًا حتى اهديت الى المنزل.

سميت المنطقة "حلفاية الملوك" نسبة الى بعض ملوك قبيلة "الشايقية" الذين كانوا نزحوا من ديارهم في الشمال قبل عقود. تقطن في المنطقة ثلاث قبائل عربية. هي "الشايقية" و"العبدلاب" و"المغاربة". تصاهرت وتزاوجت واصبحوا جميعا يعرفون "باهل الحلفاية". في مدخل المنزل وجدت بعض مؤيدي العميد خالد. استقبلت بحفاوة.

دخلت الى صالون به ارائك جلوس وأثاث عادي من ذلك النوع الذي يوجد في منازل السودانيين من الطبقة الوسطى. هناك وجدت العميد خالد مرتديًا زيًا سودانيًا. جلابية بيضاء وعمامة ناصعة البياض مزركشة بالازرق. كانت معه سيدتان من اقاربه. استقبلني بحرارة. استأذنت السيدتان.

كان امامه هاتف محمول طلب من احد الشباب الذين كانوا معه في المنزل ان يرد على المكالمات الهاتفية واحضار "صينية شاي". كان الوقت منتصف النهار. في البداية تحدث عن مشاركته في المهرجان الخطابي الذي نظم في منزل زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي الراحل اسماعيل الازهري في امدرمان بمناسبة عيد استقلال البلاد. تحدث في ذلك المهرجان الصادق المهدي رئيس الحكومة السابق واحمد الميرغني رئيس الدولة في الفترة الديمقراطية ومحمد الازهري نجل اسماعيل الازهري والعميد عبد العزيز خالد. قال إنه الح على التداول السلمي الديمقراطي على السلطة.
بدا لي سياسيًا أكثر منه عسكريًا. ضابط مدرعات مشهود له بالكفاءة العسكرية تلقى دورات تدريبة داخل وخارج السودان. واعتبر من أكثر الضباط الذين يشكلون خطرًا على النظام حين استولى الاسلاميون على السلطة، لذلك اعتقل وأبعد من الجيش قبل ان يخرج من السودان.

كنت حريصًا أن اسمع منه ماحدث.
لماذا اعتقل؟
كيف رحل الى الخرطوم من ابوظبي؟
ماذا حدث هناك وماذا حدث هنا؟

اعتدل العميد عبد العزيز خالد ( كان يفترض ان يصل الآن الى رتبة فريق) في جلسته وبدأ يحكي.

"كنت عائدا من اميركا الى القاهرة عبر لندن. كان ذلك في ايلول (سبتمبر ) 1999. في لندن اتصلت بي" شبكة الاخبار العربية " ANN واقترحوا ان اكون ضيفًا على نشرة مسائية. ذهبت الى حيث توجد استديوهات الفضائية العربية في العاصمة البريطانية. وبدأت النشرة وكانت تطرح علي اسئلة حول الأوضاع في السودان. أثناء بث النشرة جاء خبر عاجل من الخرطوم يفيد ان خط الانابيب الذي ينقل النفط الى ميناء بورتسودان على البحر الاحمر، تم تفجيره شمال مدينة "عطبرة". مررت للمذيع قصاصة حول الخبر، فطلب مني التعليق على الحادث. قلت بتلقائية إن النظام أدخل عائدات النفط في الصراع حين شرع في توظيف تلك العائدات في شراء اسلحة و الانفاق على الأجهزة الامنية لذلك من الطبيعي ان تصبح المنشآت النفطية هدفًا عسكريًا. لكن أوضحت ان تنظيمنا لا علاقة له بالعملية التي تبناها من بعد حزب الامة.

بعد ذلك الحادث انعقدت محكمة عسكرية في الخرطوم واصدرت احكامًا بالاعدام ضدي وضد الفريق عبدالرحمن سعيد (كان رئيسًا لهيئة اركان حرب الجيش قبل إنقلاب يونيو 1989 وانضم للمعارضة بعد الانقلاب). لم نحفل بتلك الاحكام، على اعتبارها تدخل في سياق صراعنا مع النظام.

يواصل العميد عبدالعزيز خالد "في العام الماضي تلقيت دعوة من الجالية السودانية والمركز الثقافي السوداني في ابوظبي لالقاء محاضرة هناك. حصلت على تأشيرة من سفارة الامارات في القاهرة لكن بعض المشاغل حالت دون تلبية الدعوة في الحين. كانت مدة التأشيرة ثلاثة أشهر.

هنا اود القول، ليس يقينًا، ان أجهزة النظام السوداني عرفت بأمر هذه الزيارة، لا استطيع ان اجزم "من اتصل بمن " لكن ثمة أمرًا يسترعي الانتباه وهي ان السلطات السودانية كانت اصدرت مذكرة عبر الانتربول وفرعه العربي ومقره دمشق لالقاء القبض علي بسبب الحكم الذي أصدرته المحكمة العسكرية في الخرطوم بعد تفجير أنبوب النفط. هذا الاجراء تم تجديده على الرغم من العفو الذي صدر عنا بعد بدء محادثات السلام. واللافت ان التجديد تم مباشرة بعد ان حصلت على تأشيرة دخول للامارات.

في 23 ايلول(سبتمبر) الماضي سافرت من القاهرة الى ابوظبي. في مطار ابوظبي وامام شرطي الجوازات لاحظت انه يعيد ادخال بيانات جوازي السوداني عدة مرات داخل جهاز الكومبيوتر. ثم نهض من مكانه وطلب مني مرافقته الى حيث يوجد ضابط، الذي تأكد بدوره من المعطيات، وابلغني إنني موقوف وطلب مني النزول الى حيث توجد حجرات اعتقال في المطار. لم اكترث كثيرًا للأمر معتقدًا ان خطأ ربما حدث. كانت معي حقيبة صغيرة في يدي توسدته داخل غرفة الاعتقال ونمت. لم يكن قد أجري معي أي تحقيق من طرف أمن المطار لذلك لم أعرف سبب اعتقالي. بعد ساعات أبلغت بانني سانقل الى السجن.

طلب مني الانتقال الى حيث توجد صالة العفش لحمل حقيبتي. كان من بين المجموعة التي جاءت لاقتيادي للسجن شرطي سوداني حمل عني الحقيبة. ويبدو انه تدخل كذلك حتى لا أكبل بالقيود.
أبلغت بانني سانقل الى سجن "الصدر" الاتحادي خارج ابوظبي. في السجن أبلغت بانني معتقل بامر من الانتربول بغرض ترحيلي الى السودان. تسلمت إدارة السجن كل ما كان معي ووضعت القيود في أيدي وأرجلي.

كان معظم الموقوفين من سجناء الحق العام. وأكثرهم من الهنود والباكستانيين والآسيويين. كثيرون منهم محتجزون بسبب مخالفات الاقامة وتزوير تأشيرات. عرف كل من في السجن ان " سياسيا ومعارضًا سودانيًا" يوجد الآن في سجن الصدر. ومن المفارقات انهم طلبوا مني ان اتحدث عن أوضاعهم حين يفرج عني.

انقطعت تمامًا عن العالم ولم اكن اعرف ما يجري خارج أسوار السجن. وضعت في زنزانة انفرادية. لم تكن هناك صحف او تلفزيون أو اية وسيلة لمعرفة ما يجري في الخارج. وبعد فترة سمح لي براديو صغير كانت موجاته تبث ثلاث محطات فقط هي أذاعة "ابو ظبي "وبي بي سي" و اذاعة "سوا".

لم أعرف سبب اعتقالي الى أن تم استجوابي من طرف النيابة العامة حيث تكلف مصري يعمل في مكتب النائب العام بهذه المهمة. أبلغت انني مطلوب من طرف الانتربول وان هناك أمرًا بالقاء القبض علي وتسليمي للسلطات السودانية في قضية ارهابية تتعلق بتفجير أنبوب نفط.

فندت ذلك الادعاء. عرضت علي بعض الحجج التي قدمتها السلطات السودانية ومنها شريط فيدو يتضمن تصريحاتي للفضائية ANN وكذا تصوير التخريب الذي تعرض له الأنبوب النفطي. ومن المفارقات ان تلك اللقطات كانت تبين بوضوح راية حزب الامة وشعاراته. نفيت الامر جملة وتفصيلًا. بيد ان ذلك لم يغير من الأمر شيئًا.

أثناء ذلك كانت تجري اتصالات مع عدة اطراف. كان الواضح ان سلطات دولة الامارات تشعر بحرج شديد، خصوصًا بعد ان تحركت منظمات حقوقية عربية واوربية واميركية (زوجة العميد خالد واولاده يوجدون في اميركا) تحذر من تسليم "شخصية معارضة" للسلطات السودانية.

بقيت في سجن الصدر من 23 ايلول (سبتمبر) حتى 23 تشرين الثاني(نوفمبر). ذات يوم إذاعت إذاعة هندية نقلًا عن " بي بي سي" خبرًا مفاده ان سلطات الامارات قررت تسلمي للسلطات السودانية. أبلغني بعض الهنود المعتقلين بالخبر. لاحظت ان الحراسة شددت علي بعد ذلك. كانوا فكوا عني القيود فاعيدت من جديد .

يوم الترحيل أبلغني مدير السجن بالقرار متأسفًا. كنت اعرف ان مصيرًا مظلمًا ينتظرني في الخرطوم.

نقلت الى المطار. هناك سلمت لضابطين سودانيين من شرطة الانتربول. بعد صعودي للطائرة جلسا بالقرب مني. كانت الرحلة في حدود أربع ساعات. تبادلت معهم أحاديث ذات طابع اجتماعي.
حطت الطائرة في مطار الخرطوم. طلب مني ان اقدم نفسي لطاقم الطائرة فطلبت من الضابطين ان يقدما انفسهما للطاقم طالما انني في حراستهما. حين هبطت لاحظت ان حوالي 30 سيارة عسكرية تحيط بالطائرة. نقلت داخل سيارة عسكرية في حراسة جنود الى معتقل في الخرطوم".

سمع اهل "حلفاية الملوك" بخبر نقل العميد عبدالعزيز خالد مكبلًا من ابوظبي الى الخرطوم. كانت سرت تكهنات بانه سيعدم بعد التحقيق معه.

انتقل آلاف منهم الى مطار الخرطوم قبل وصول الطائرة وهم يقرعون "النحاس" وهو تقليد يعني عند القبائل العربية السودانية، إعلان الحرب. و هددوا بان يفعلوا اي شئ إذا تعرض العميد خالد للتعذيب أو قتل.

يقول العميد خالد "عند بدء التحقيق عرفت أنني معتقل في منزل تابع لنيابة الجرائم ضد الدولة. كان التحقيق عاديًا. لم يكن هناك تعسف. لم اتعرض لاي تعذيب او إهانات. شعرت من خلال التحقيق ان السلطة منقسمة حول قضيتي، من جهة كان هناك جناح متشدد يرى ضرورة أن أمثل امام المحكمة وان تصدر احكامها ايًا كان الحكم. في حين كان هناك يرون ان محاكمتي في وقت تتقدم فيه المفاوضات مع الجنوبيين والمعارضة أمر محرج خاصة انني ترأست مرة وفد التفاوض (المعارضة الشمالية) مع النظام. ولم يكن هناك ما يبرر محاكمة من سبق وان ترأس مفاوضات الصلح.
داخل المعتقل كان معي بعض الشباب الذين اعتقلوا لامور ومخالفات مالية. لم تكن هناك قضايا سياسية ضدهم. في الليل كنت انقل الى غرفة منفصلة بعيدة عن الغرفة التي يوجد بها باقي المعتقلين. ظننت ان ذلك ربما يدخل في إطار المعاملة الخاصة، لكنني ساكتشف لاحقًا ان القصد كان إبعادي عن سماع صراخ ومعاناة المعتقلين أثناء تعذيبهم. في النهار كان الشباب يسردون لي ما حدث لهم في الليل.

امضيت 24 يومًا معتقلًا في نيابة الجرائم ضد الدولة. سمح لي باللقاء بهيئة الدفاع التي كانت ستترافع عني امام المحكمة برئاسة المحامي عمر عبد العاطي (وزير عدل سابق في عهد الديمقراطية) وتضم ايضا غازي سليمان (من ابرز نشطاء حقوق الانسان في البلاد).

قبل يومين من الافراج عني أبلغني غازي سليمان ان هناك تكهنات حول احتمال صدور عفو عني. وفي يوم الافراج أبلغت بقرار من الرئيس عمر البشير بالعفو. طلب مني المشاركة مع هيئة الدفاع في ندوة صحافية لكنني. طلبت ان يقتصر الامر على المحامين.

سينتقل بعد ذلكالعميد عبد العزيز خالد الى حيث عشيرته في "حلفاية الملوك" وهناك سيستقبل بمظاهرة كبرى شارك فرسان المنطقة على خيولهم وقرعت طبول " النحاس " من جديد. وهو أيضًا تقليد يعني انتهاء الحرب.

وسيعلن بعدها العميد خالد الذي شارك الرئيس البشير في معظم الدورات العسكرية ان تنظيمه العسكري الى تنظيم سياسي، رافضًا استيعاب قواته كجزء من الشرطة او القوات النظامية مفضلًا ان ينخرط المقاتلون السابقون في المجتمع المدني. كما حرص على الادلاء بتصريح يشيد فيه "بحكمة الشيخ زايد باني دولة الامارات" حتى لايقع خلط في الامور على حد تعبيره.

***

طال اللقاء ساعات. خرج معي العميد خالد بقامته العسكرية الممشوقة الى حيث باب المنزل. قال لي مودعًا "حرصت ان استقبلك في المنزل الذي ولدت فيه... وان أقول لك كل شئ". ثم اردف "لدي طلب هو ان ترسل لي ما يتوفر لديك من مراجع حول هجرة "المغاربة" الى السودان.

قبيلة " المغاربة" هي احدى القبائل التي يتحدر منها هذا المعارض الصلد جاءت في الاصل من المغرب عبر هجرات منذ ثلاث قرون وقطنت المنطقة الممتدة من "حلفاية الملوك" وحتى "الهلالية" في وسط السودان.