يما زهار من بيروت: لشارع الحمرا في بيروت حكاية خاصة به، بدأت تغزل فصولاً في بداية القرن الخامس عشر الميلادي، عندما تنازع آل تلحوق مع بني الحمرا الذين كانوا يترددون على بيروت لبيع غلالهم ومحاصيلهم الزراعية، ونتيجة هذا النزاع اضطر بنو تلحوق الى النزوح عن مساكنهم في رأس بيروت ، المنطقة التي كانت تعرف في عهدهم باسم جرن الدب ، والتحقوا بالجبل تاركين أراضيهم ومنازلهم لبني الحمرا الذين حلوا مكانهم، ونسبت المنطقة من يومها وعرفت باسم كرم الحمرا واهمل اسم جرن الدب الى غير رجعة، وهكذا فإن شارع الحمرا اليوم منسوب الى بني الحمرا البقاعيين الذين تحدرت منهم عائلات بيروتية كريمة مثل: آل العيتاني وآل اللبّان وآل شاتيلا وآل حمندي وغيرهم.
واذا عدنا الى السنوات الأولى التي رافقت خروج بيروت المدينة الى بيروت البرية مع بداية الحرب الكونية الأولى 1914-1918 نجد ان قاطني كرم الحمرا او مزرعة الحمرا كانوا يهتمون باشجار المقساس لأنهم يستخرجون من ثمارها مادة الصمغ، ليصنعوا منه الدبق لالتقاط العصافير، وكانوا يعتبرون ذلك تجارة رابحة تعطي احدهم ليرتين عثمانيتين ذهباً ثمناً لما يلتقطه من العصافير في اليوم الواحد.

خندق
ان هذا الشارع الذي يحمل اسم الحمرا اليوم، كان حتى عهد بعيد عبارة عن خندق لا يكاد يتسع للرجل الواحد، بيد ان التطور العمراني في بيروت وضواحيها وجّه الانظار الى كرم الحمرا، فأخذت هذه المنطقة تشهد كثافة سكانية واصبحت معابرها الضيقة تتسع وتمتد وتحمل أسماء تميزها بعضها عن بعض، فمحيط شارع بلس وجان دارك والمكحول كان يعرف باسم زقاق طنطاس، وعندما دخل الخلفاء بيروت عام 1918 عرف شارع الحمرا باسم شارع لندن، كما اطلق اسم شامبانيا على اسم شارع جان دارك الحالي.
واول بناء عصري على الطراز الحديث بني في شارع الحمرا هو البيت الذي بناه البروفسور سيلي ليكون مسكناً له وكان موضعه حيث مطعم الهورس شو اليوم ، وذلك عام 1923 وهذه الطرقات لم تعرف التخطيط والتعبيد والاسفلت بما فيها شارع الحمرا نفسه الى عام 1933 عندما ادت بلدية بيروت هذا العمل، واطلقت على شوارع المنطقة اسماء بعض العائلات المجاورة لها مثل:العيتاني و ربيز ومنيمنة ومزبودي و شهاب ودياب.
وكان لكل من هذه العائلات مصيدها على امتداد الشاطىء، تمارس فيه حرفة صيد السمك للبيع والمتاجرة، ومن هذه العائلات من كانت تحترف صناعة الادوات الفخارية مثل القدور والاباريق والاطباق، وحتى الملاعق والمغارف، مثل آل الفاخوري الذين يملكون فاخورة قرب الحمام العسكري ، وآل حمندي وكانت فاخورتهم في محلة الروشة اليوم.

ورشة عمل
عرف شارع الحمرا مطلع هذه السنة ورشة اعمال لتحسين الطرقات وجعلها من الطرقات التراثية ما كان يعيق عمل المتاجر الموجودة هناك فضلاً عن دور المقاهي الرائد في هذا المجال.
وعندما ظهر شارع الحمرا كسيد، ضم على أرصفته أعظم الحركات السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية التي عرفتها بيروت.
وشهد ولادة مقاهي الخمسينات والستينات التي شكلت البيت الأول لكبار المثقفين والسياسيين القادمين لزيارة مدينة تشبه الزمن الوردي : " الهورس شو" كان الأول في سلسلة هذه المقاهي ثم تبعته أخرى محاولة تقليده مثل "ستراند" و"الاكسبرس" و"كافيه دي باري" و"الويمبي" و"المودكا" ثم "الدولتشي فيتا" في الروشة و"اللاروندا" في ساحة البرج وسواها.
وصارت هذه المقاهي وجوهاً تتنوع ملامحها مع كل وافد أو مقيم في المدينة. وفتحت هذه المقاهي صدرها لأشعار الفيتوري وعبد الوهاب البياتي وروايات غسان كنفاني وغادة السمان وإحسان عبد القدوس ، فأعطتهم آخر الملامح الثقافية، وأعطوها ثمرة إبداعهم.
ولم يعد بالإمكان تذكر قصيدة لأنسي الحاج من دون الإشارة إلى الطاولة التي يتناول عليها عشاءه، أو مقالة لغسان تويني من دون الرجوع إلى مقعده الخاص... ومع بداية الحرب بدأت هذه المقاهي تتهاوى واحداً تلو الآخر و" الهورس شو" الفاتح الأول كان المغادر الأول، فأقفل أبوابه في العام 1978 معلناً بداية مرحلة استشهادية ثم عاد من جديد منذ عام تقريباً.
شارع الحمرا المميز بامتداده المستقيم كالنظرة الثاقبة في العين أصاب ازدهاراً لم تصبه أي شوارع أخرى في بيروت، مهما حاولت تقليده، وبقي حتى اليوم شارع الأماني، شارعاً يختصر دفء المدينة وبردها. في هذا الشارع مثلث يشبه القلب بمعناه ومكانته ومازال يكافح في الاستمرار حتى اليوم، هو مثلث "المودكا"-"الويمبي"-"الكافيه دي باري"، والتاريخ يروي أحداثاً مشرقة جرت في أرجاء هذه المقاهي فأحد الزبائن التاريخيين الذي ما زال يواظب على جلسته في مقاهي الحمرا يقول : " من هذا المكان كانت العملية الأولى للمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، فمن أجمل الأيام التي سجلت في تاريخ بيروت كان يوم قدوم ثلاثة ضباط إسرائيليين وطلبوا ما طلبوه من نادل المقهى وحين أتى الحساب، رفضوا إلا أن يدفعوا بالشيكل ورفض النادل إلا أن يقبض بالليرة اللبنانية، واحتدم النقاش حتى وصل أسماع الشاب خالد علوان الذي تقدم مرحباً على طريقته "بالضيوف الجدد" وبقلب من حديد وبيد من نار أطلق ثلاث رصاصات من مسدسه وأرداهم قتلى على الفور، وهكذا شكل "الويمبي" أرضاً مقاومة ودرساً يصعب نسيانه.

" الاكسبرس" آخر مقاهي الجيل القديم لبيروت أقفل العام 1986 بعد أن شح رواده وأقفرت طاولاته وتحول مع الوقت إلى مطعم بيتزا.
وكذلك المودكا والكافيه دو باري اللذين اقفلا منذ نحو سنتين تاركين للذكريات مكانها المشع في قلب الكتاب والمثقفين. هذا جزء من حكاية المقاهي في الحمرا ، هذا الشارع الذي يحاول أن يرسم لنفسه حضوراً، مفتوحاً على بوابة الحنين والأحلام والأيام المقبلة...


[email protected]