حيان نيوف من دمشق : حكاية بائعي " العربات " المتجولين في سورية تصلح لفيلم طويل يوثّق حياة هؤلاء ؛ فعملهم ليست كما نتصور أنها مجرد " عملية غش " من خلال تبديل الفواكه والخضار ووضع الفاكهة الطازجة على الواجهة الأمامية ومن ثم إخفاء الفاكهة العفنة في الأسفل - إنها ليست كذلك . كيف يفكر هؤلاء وما هي أحلامهم .. وهل فعلا لا تتجاوز أحلامهم بيع الخيار والبندورة ؟!

عربة تتراكم عليها أكوام الخضار أو الفاكهة بقدر ما تتراكم الأحلام في رأس صاحبها ( أو مستأجرها ! ) ، تسير في شوارع المدينة ، ومن حارة إلى حارة ، بين الأزقة وتحت الشرفات . في نهاية اليوم يعود البائع المتجول على عربته إلى منزله ليأكل لقمته وينام مرتاحا دون أن يوقظه كابوس يسأله عما سرقه خلال النهار، ولكن قد يأتيه كابوس صغير يسأله عن عدد حبات البندورة والبطاطا العفنة التي باعها للزبائن.

من المؤكد أنهم يحلمون ، وكل منهم له حلمه. أحد هؤلاء الباعة وقف خلف عربته بائسا ويائسا لأنه يفكر بامتلاك العربة التي يستأجرها من " ملاّك العربات " الذي يقطن الحي ويلعب دور إقطاعي أو ديك يطارد دجاجات الحي فكيف لو أنه يملك شركات ومزارع ؟!. حدثني أحد البائعين ، قائلا : " حكايتي تقول إني بائع خضار متجول بين الحارات على عربة مستأجرة قديمة ، ومع ذلك أطعم أبنائي من عرق جبيني وهم يفخرون بي في جامعاتهم ". هذا الرجل المسن كافح من خلف عربة الخضار ليطعم أولاده حتى يدخلوا الجامعات - فكان حلمه كبيرا وتحقق. وكنت كلما أتحدث إلى العم أبي حسين يقاطعني ويطلب مني أن أتذوق الخيار المتراكم على عربته ، قائلا :" تذوق يا ابني أنا لا أغش لأن الغش حرام سواء كان على مستوى عربة خضار وفواكه أو على مستوى أكبر من ذلك " . هذه هي حكمة رجل مسن لم يقرأ تقارير منظمة الشفافية الدولية ولا المؤلفات الفلسفية لسقراط أو أرسطو ، وإنما تعلم فن الحياة من خلف عربته.

بائع آخر توفي قبل فترة من إعداد هذا التحقيق كان دافعي لأن أكتب التحقيق لأن وفاته ذكرتني بحكاية جميلة لكنها مؤلمة - حكايتهم. توفي البائع على عربته بينما كان يقودها متجولا صباحا باتجاه إحدى الحارات. توفي على عربته .. بعد عشرين سنة من البيع على عربة خضار. خلال هذه السنوات نشأت علاقة حميمة بين العربة ( مصدر الرزق الحلال ) والبائع اللطيف المهموم بتربية أبنائه أحسن تربية وعلى أسس سليمة بعيدا عن التعجرف . فكان قدره أن يموت على عربته وهو يتجول صارخا .. أصابيع الببو يا خيار .. هكذا رويدا حتى ضعف صوته ثم فارق الحياة.

يحدثنا أحد الباعة عن حكاية طريفة تتعلق بوجود باعة محتالين يستخدمون أساليب ماكرة . يقول البائع أن شخصا يلبس ثيابا نظيفة وجميلة جاء إليه مدعيا أنه غني ويريد مساعدته من خلال شراء كل الموز على العربة ، وكان يومها الموز قليلا جدا ونادرا في بعض الأوقات. وفعلا صدق البائع الطيب كذبة الشاب " الغني الوسيم " وباعه كل الموز بسعر 60 ليرة سورية للكيلو الواحد .ولكن ، وأثناء عودته إلى منزله ، شاهد البائع الطيب ذاك الشاب يبيع الموز الذي اشتراه منه ،على عربة أخرى في حارة أخرى، ولكن بسعر 70 ليرة للكيلو الواحد.

حكاية هؤلاء البائعين ليست مجرد حكاية عربة خضار وفواكه - إنها حكاية تعج بالألم والبساطة والطيبة ، إنها رحلة طويلة من الكفاح الهادئ في سبيل لقمة العيش.