في محطة قطارات الرباط

الرباط: السفر في القطارات صيفا يشبه السفر في حي صفيحي متنقل. تتصبب وجوه الراكبين عرقا وتلمع جباههم حتى يرى الراكب وجهه في وجه أخيه.
يحاول الركاب عبثا التلهي بأحاديث فارغة عن فصل الربيع وفيضانات السنة الماضية وأنواع الثلاجات اليابانية والكورية والسيارات والألمانية المكيفة حتى يمنّوا أنفسهم بقليل من البرد، لكن كل هذا لا ينفع. الصهد صهد حتى لو تكلموا اليوم كله عن جليد القطب الشمالي والدببة الثلجية البيضاء.
وجوه الركاب تتصبب عرقا وملابسهم تبدو كأنها خرجت للتو من آلة غسيل. تمسح المرأة بمنديل واحد وجهها ووجه طفلها، وربما أيضا وجه حماتها وينتظر الجميع أن تتحرك أجهزة القطار المكيفة، لكن لا يتحرك سوى الركاب من مكان إلى مكان بحثا عن مكان يمر منه الهواء وكأنهم يبحثون عن واحة وسط الصحراء.
مراقب القطار ملّ سماع الشكاوى لذلك صار لا يأبه بها. وحين تلح في شكايتك يمسك بيدك في لطف بالغ ممزوج بعدوانية مستترة ويأخذك نحو نافذة زجاجية صغيرة جدا جانب المقصورة ويقول لك: أنظر.. هاهو المكيف في أقصى درجاته.. ماذا سنفعل لك أكثر؟ الغالب الله.
تنظر بدورك إلى درجة المكيف حيث أشار المراقب اللطيف ولا تفهم شيئا. تنظر إلى وجه المراقب فتجده أكثر تعرقا من وجهك، ومع ذلك فهو يصر على أن المكيفات تعمل كما يجب. في النهاية تصدق المراقب وتكذّب الملوحة المتيبسة حول عينيك وأسفل عنقك.
الأطفال المسافرون في القطارات في هذا الفصل القائظ يعتقدون بفطرتهم أن القطار يمهد لوصولهم نحو الجحيم على الرغم من كل ما سمعوه من والديهم كونهم في طريقهم إلى قضاء عطلة صيفية ممتعة. ربما ينزوي طفل ذكي في زاوية ما من مقصورة القطار ويظل يفكر ماذا فعل من سيئات في حياته حتى يذهب إلى جهنم. أكيد أن الأطفال لا يدخلون النار، لكنهم للأسف يركبون القطارات صيفا. في هذه القطارات وحدها يمكن للناس أن يصبحوا أكثر إيمانا خشية من جهنم الآخرة.
الركاب كلهم أدوا ثمن التذاكر، ومن ضبط دون تذكرة فإن عليه تأدية غرامة تضاعف ثمنها. هذا هو القانون لكن لا أحد يدري إن كان القانون يمكن أن يعاقب قطارا لا فرق بينه وبين الحمّام البلدي إلا في بعض التفاصيل البسيطة. ففي الحمّام يمكن أن تفرغ فوق جسدك أناء ماء بارد متى شئت، أما في قطارات الصيف فما عليك سوى أن تلحس عرقك كما يلحس الأطفال المشردون مخاطهم.
امرأة تحول وجهها إلى قطعة من جمر تحرك قطعة من ورق في يدها محاولة إبقاء بعض الهواء حول طفلها الرضيع. ومع كل ذلك فإن ذلك الصوت النسوي الجميل في القطار لا ينفك في كل محطة يدعو للركاب بسلامة الطريق ومتعة الرحلة عبر مكبر الصوت. الصوت مسجل، وصاحبته توجد في تلك الفترة في صالون منزلها المكيّف، ولو كانت في تلك اللحظة في القطار لصار صوتها مثل صوت "دراكولا" في أفلام الرعب.
ركاب القطار متزاحمون ومتسامحون. ولو حدث منهم ردّ فعل كيفما كان نوعه فإن ذلك سيعتبر خيانة لتسامحهم التاريخي. المغاربة متسامحون كثيرا لذلك لا توجد مكيفات في قطارات مملوءة بالبشر في شهر آب (أغسطس) يقتل حرارة. لو كانوا أقل تسامحا بقليل فإن القطارات ستكون مكيفة الهواء. وعلى أية حال فمن أراد البرودة فليبحث عنها مادامت الحاجة هي أم الاختراع. أكيد أن اليابانيين والأمريكيين والكوريين الذين اخترعوا المراوح وأجهزة التكييف كانوا يعانون بدورهم من الصهد في قطاراتهم. لذلك على المغاربة أن يعانوا لأن ذلك هو الطريق الأقصر نحو الابتكار والاختراع والتحول من شعب يركب الحافلات والقطارات المشتعلة إلى شعب يركب "الميترو" المكيف الهواء.
هناك بعض الركاب بوجوه جافة لا أثر فيها للعرق. لكنهم يجلسون جامدين كأنهم جثث محنطة. يخافون إن تحركوا أن يخرج كل العرق دفعة واحدة.
الأجانب في القطار يبدو أنهم كانوا يتوقعون ذلك. ربما جربوا السفر في مثل هذا الحمّام في الصيف الماضي، وربما ركبوه أول مرة، لكنهم في كل الأحوال يتصرفون بشكل عاد. أفضل ما يمكن أن يفعله السائح هو أن يتخيل القطارات المغربية مثل قطارات إقليم البنجاب حيث يركب الحيوان والبشر في كل مكان فارغ، باستثناء العجلات، وعندما لا يجدون القطارات المغربية كذلك فإن ذلك يعد مكسبا كبيرا.
محطة "سيدي قاسم" (وسط البلاد) التي يغير فيها القطار "توجهاته" تشبه مقلاة بيض. إشتر بيضة وكسّرهاعلى كفك، وبقليل من الملح ستصبح الوجبة جاهزة. يمكنك بعد ذلك أن تأكلها أو تقدمها للضيوف.
يكمل القطار سكته نحو فاس وينزل الركاب لانتظار القطار القادم من فاس أو أي قطار آخر يحملهم إلى حيث يريدون.
يتزاحم الركاب على المقصف الصغير في المحطة ويشترون خبزا صغيرا جدا محشوا بالدجاج أو الجبن. ثمنه عشرون درهما. برودة المشروبات غير مضمونة. لا يكادون يضعونها في الثلاجة حتى تخرج منها.
الناس ينظرون إلى بعضهم بعضا وكأنهم ينتظرون الساعة. ساعة وصول القطار. لا يتبادلون الحديث ويحركون أكفهم قرب وجوههم رغبة في تحريك بعض الهواء العالق في الهواء.
إدارة المحطة تدرك جحيم الركاب لذلك تبث عبر مكبرات الهواء موسيقى "الكاوبوي". إنها تعكس فعلا واقع الرحلة. قطار بلا مكيفات ومحطة بمقصف صغير وقاعة انتظار جهنمية وأشجار خضراء يتزاحم تحتها الجالسون وأفواه بعضهم مفتوحة عن آخرها.
في فصل الربيع تبث المحطة الموسيقى الأندلسية أو الكلاسيكية. في الشتاء تكون أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وكاظم الساهر هي الغالبة. وفي فصل الخريف لا شيء يعلو على أغاني "الشيخات" وهي أهازيج شعبية لمغنيات من البوادي المغربية.
الصهد القاتل في القطارات المغربية ليس مسؤولية مؤسسة السكك الحديدية. المسؤول هو الموقع الجغرافي للمغرب. لو كان المغرب قريبا من القطب الشمالي، مثل النرويج أو الدنمارك لما حدث كل هذا، لذلك لا أحد يجب أن يتهم المؤسسة بالتقصير.
يهب الهواء كأنه قادم من فوهة بركان. يحس الناس ببشرة وجوههم تحترق وعيونهم تطرف كأنها آلات معطوبة. النظارات السوداء ذات "الماركة" الجيدة يمكن أن تفيد قليلا. هذه هي اللحظات التي تنفع فيها الحداثة.
يصفر القطار القادم من فاس ويتمنى المسافرون في سرهم وعلانيتهم أن يكون قطارا مكيف الهواء. يتدافعون نحو المقصورات بأمتعتهم الثقيلة وأطفالهم الرضع وغير الرضع وكل واحد يتمنى الوصول قبل غيره إلى مقصورة مكيفة وبركاب قليلين. أرض المحطة مثل جمر تحت الرماد. صهد من الأرض ومن السماء.. وفي القطار القادم من فاس أيضا.
المسافرون الأذكياء يعرفون خواتم الأشياء من مقدماتها. وجوه الركاب داخل القطار تبدو خلف الزجاج وهي ترشح عرقا. آه لو كان المغرب هو إيسلندا!!
الكثير من الركاب الذين كانوا في القطار تصنعوا الموت وحولوا المقصورات إلى جناح للمستعجلات. أطلقوا أيديهم وأرجلهم ودخلوا في نومهم الثقيل. الركاب الصاعدون يهمهمون بأشياء أشبه بالشتائم وهم يبحثون عن مكان ما. هذا هو التضامن على الطريقة المغربية.. أن تنام في القطار لكي لا تترك أخاك يجلس قربك.
الأجانب ابتكروا حيلة بسيطة. الرجل يجلس بسروال قصير يكشف عن رجليه، وربما بعض فخذيه، بينما رفيقته أو زوجته كشفت عن نصف صدرها وبعض بطنها. الرجال الوقورون لا يدخلون المقصورة والنساء الوقورات يلعنّ الشيطان الرجيم ويشتمن السائحين والسائحات، وبذلك يبقى السائح الذكي ورفيقته وحيدين في المقصورة. ربما صارت هذه الحيلة مشاعة ويتداولها السياح فيما بينهم كشكل من أشكال النصيحة للاستمتاع برحلة أفضل.
تمر ساعات طويلة أخرى وتتصبب وجوه الراكبين عرقا وتلمع جباههم حتى يرى الراكب وجهه في وجه أخيه.
يصل القطار المحطة من دون أن يؤدي الركاب فلسا واحدا إضافيا. الرحلة بمقابل أما حمّام "السّاونا" فمجاني.
يحمد الركاب الله وحده الذي لا شريك له على سلامة الرحلة ويمشون تحت الشمس حتى تجف ملابسهم من العرق.
الأطفال تبدو على وجوههم ملامح غريبة من الانتشاء والاستغراب. ربما تأكدوا أخيرا أن القطار لم يكن يحملهم إلى جهنم. إنهم في عطلة.

[email protected]