الشيخ زايذ رفض استخدام البندقية للصيد منذ عام 1930

•باتريك سيل : الشيخ زايد يعرف كل حجر وكل شجرة وكل طائر يصل إلى منطقته


عبدالناصرنهار من أبوظبي: أصدر نادي صقاري الإمارات، في العدد الجديد من دوريته العلمية المتخصّصة (الصقار)، ملفاً خاصاً عن سيرة المغفور ه بإذن الله تعالى الشيخ زايد كصقار ونصير للبيئة، حيث أكد الملف أن العالم قد نُكب بفقد واحد من أعظم حماة البيئة في هذا القرن، صاحب بصيرة نافذة ورؤية ثاقبة لن تستشرف أبعادها الحركات الداعية للمحافظة على الطبيعة إلا بعد فترة طويلة. ويعد المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة ورئيسها الراحل، الرائد الأول للصقارين وحماة البيئة في العالم.
وجاء في الملف أن زايداً رحمه الله قد ولد وعاش نصيراً للطبيعة، وكان اشتهار مبادئه وذيوع صيته في هذا المجال، إيذاناً ببداية عصر جديد. وبالرغم من ولادته في بيئة صحراوية قاسية فقيرة من شبه الجزيرة العربية، حيث يستعين البدو على معيشتهم بالصيد، إلا أن زايداً ومنذ مقبل أيامه وحداثة سنه، استشرف الحاجة إلى إحداث توازن بين الحفاظ على التراث العريق للصقارة والصيد بالصقور، وبين التأكد من بقاء الصقور وطرائدها في البرية على المدى البعيد.
وقد توصلت رؤيته المتفردة إلى ما عرفه حماة الطبيعة المعاصرين لاحقاً الصيد المستدام، وبذلك فإن الشيخ زايد لم يسبق جيله فقط، لكنه تفوق بمراحل بعيدة على دعاة حماية الطبيعة العالميين. وبمنتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، أصبح الشيخ زايد الصقار صاحب اليد الطولى في المحافظة على الطبيعة من منطلق رؤية شاملة تهدف لبناء المجتمعات الصديقة والحياة الفطرية. وعلى المستوى الاجتماعي جسد زايد بلا منازع الصورة المثالية للصقار العربي، وذلك لصدق حدسه ومعرفته الواسعة بالطبيعة، مما مكنه من الفوز بإعجاب أفراد مجتمعه وحبهم.
كما أدخل زايد جانباً إنسانياً في مفاهيم رياضة الصيد بالصقور التي اعتبرها تراثاً لا يقدر بثمن. وبمواصلة شغفه بالصقارة، نمت مهارات الشيخ زايد الفائقة والمنقطعة النظير، كما وصفها بذلك المستكشف البريطاني السير/ ولفيريد ذيسجير الذي شاركه الصيد قبل خمسين عاماً ماضية.
وقد مثل زايد لدعاة حماية الطبيعة قيماً خالدة من منطلق قناعاته وتجاربه. لقد أحب الطبيعة والحياة البرية على نحو غير مسبوق، عبر عنه الصحافي البريطاني المشهور باتريل سيل الذي قابله في عام 1965م في مدينة العين حينما كان حاكماً لها، فقال: (إن الشيخ زايد يعرف كل حجر وكل شجرة وكل طائر يصل إلى منطقته. وفوق كل ذلك، فهو يدرك أهمية المحافظة على كل نقطة ماء ويحسن استثمارها، وهو شغوف بزراعة الأشجار. وفيما يتعلق بوسطه الاجتماعي، فإنه لا ينظر للصقارة كرياضة فردية مجردة، وإنما يعتبرها فرصة للرفقة والأنس. وعلى غير ما جرت عليه العادة في بلدان العالم الأخرى، فإن الصقارة العربية ممارسة اجتماعية. ولمهارته في الصقارة على طريقته الخاصة، أصبح قريباً من قلوب وعقول مواطنيه. لقد كانت صلة المودة التي ربطته بشعبه إحدى أسباب تلك المحبة والشهرة التي لم يحظَ بها قائد آخر في المنطقة بأسرها).
الأمر الفريد والمدهش في الشيخ زايد - الرجل والمناصر للطبيعة – أنه ذو مقدرة على المحافظة على قيمه ومعتقداته. ويقول رحمه الله في كتابه (رياضة الصيد بالصقور) الصادر في عام 1976م (..أحسست أن الصيد بالبندقية إنما هو حملة على الحيوان وسبب سريع يؤدي إلى انقراضه، فعدلت عن الأمر واكتفيت بالصيد بالصقر..)، حيث يرجع رفض الشيخ زايد طيب الله ثراه لاستخدام البندقية في الصيد للعام 1930م.
وبعد أن أصبح رئيساً للدولة التي تتكون من الإمارات العربية المتحدة السبع - والتي تأسسست في عام 1971 بعد الانسحاب البريطاني من الخليج العربي، فإنه لم يركن إلى بريق الحياة الحديثة ولم ينحنِ تحت وطأة المسؤوليات الجسيمة التي ألقيت على عاتقه.
وقد كان ظهور الاتحاد علامة على عصر جديد، تمكن فيه الشيخ زايد من توسيع نطاق اهتمامه بالطبيعة والبيئة على المستوى الوطني والتشريعي بإقامة المؤسسات البيئية المختصة، ومستشفيات الصقور، ونادي صقاري الإمارات، وبرنامج زايد لإطلاق الصقور، ومراكز إكثار الحبارى في أبوظبي والمغرب.
وقبل الاتحاد كان زايد – طيب الله ثراه - قد شحذ رؤاه المتقدمة حول المحافظة على الطبيعة، منذ أوائل الستينات. وعلى سبيل المثال، فقد أعد في الوقت المناسب تماماً لعملية تم فيها أسر زوجين من المها العربي لتكون تلك الحيوانات نواة لإنشاء قطيع محمي ومتكاثر في الأسر من هذا النوع المنقرض من البرية. والآن وبعد 40 عاماً من ذلك التاريخ وصل العدد إلى ما يزيد عن 4000 من المها العربية في مناطق محمية من دولة الإمارات العربية المتحدة، وتوجد العديد من تلك الحيوانات في المحمية الطبيعية التي أقامها سموه في جزيرة صير بني ياس والتي تضم إلى جانب المها العربي المئات من الأنواع الأخرى المهددة بالانقراض مثل الغزلان العربية والمها معقوفة القرون.
وفي عام 1966م، حينما أصبح زايد حاكماً لإمارة أبوظبي التي بدأت نهضتها السريعة كمنتج للنفط، أنشأ زايد هيئة للرفق بالحيوان ضمت مجموعة من الجوالين الذين تولوا حراسة الصحراء للإشراف على تطبيق الحظر المفروض على صيد الحيوانات البرية. وقد استفادت الغزلان العربية والحمام والأرانب وغيرها من الحيوانات البرية من ذلك بصورة مباشرة.
واستمرت جهود زايد في مجال الصقارة، والمحافظة على الطبيعة، دون تعارض، ليس فقط بفضل جهوده ومشاريعه وتوجيهاته المباشرة، وإنما أيضاً بكونه مصدر إلهام ورعاية لمبادرات عديدة آتت أكلها وساهمت بقدر كبير من العطاء على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية.
ومن أهم مبادراته في هذا المجال تنظيم المؤتمر العالمي الأول للصقارة والمحافظة على الطبيعة في مدينة أبوظبي في آواخر عام 1976م والذي جمع للمرة الأولى بين صقاري الخليج ونظرائهم في أمريكا الشمالية وأوروبا والشرق الأقصى. وقد كان المؤتمر منطلقاً حقيقياً للاستراتيجية التي وضعها الشيخ زايد بهدف حشد الصقارين ليكونوا في طليعة الناشطين أصحاب المصلحة الحقيقية للمحافظة على الطبيعة.
وشهدت الجزيرة العربية في ذلك الوقت ظهور الصقور المنتجة في الأسر في أمريكا وأوروبا ليبدأ نهج جديد سلكه صقارو الإمارات اليوم باختيارهم للصقور المنتجة في الأسر وتفضيلها على استخدام الصقور البرية، الأمر الذي يقلل من تأثير ضغوط رياضة الصيد بالصقور على المجموعات البرية.
وفي مستهل الثمانينات، قام الشيخ زايد بإنشاء مستشفى الصقور بالخزنة خارج مدينة أبوظبي، ثم تم فيما بعد إنشاء مستشفى أبوظبي للصقور في عام 1999م، والذي هو جزء من هيئة أبحاث البيئة والحياة الفطرية وتنميتها.
وفي مجال حماية الأنواع كان الشيخ زايد أول من أدرك المخاطر التي تواجه أنواع الطيور والحيوانات، فقام بإنشاء عدة مشروعات لحماية الأنواع. وبتوجيهات من سموه، بدأ برنامج إكثار الحبارى الآسيوية في الأسر في حديقة حيوان العين بدولة الإمارات العربية المتحدة في عام 1977م حيث أعلن في عام 1982م عن تفقيس أول فرخ في الأسر في دولة الإمارات. وفي عام 1989م بدأ المركز الوطني لبحوث الطيور الذي أصبح فيما بعد جزءاً من هيئة أبحاث البيئة والحياة الفطرية وتنميتها برنامجه الطموح لإكثار الحبارى الآسيوية والذي تطور من بداية متواضعة حتى وصل إلى إنتاج 200 طائر في عام 2004م، وهو يسير باتجاه الهدف بعيد المدى الذي حدده الشيخ زايد بإنتاج 10.000 طائر حبارى آسيوي سنوياً وإطلاق معظمها لزيادة أعداد المجموعات البرية.
وفي المملكة المغربية، أنشأ سموه في عام 1995م مركز الإمارات لتنمية الحياة الفطرية لإكثار الحبارى وإطلاقها في البرية. وقد أثمر النجاح المتزايد من عام إلى آخر عن تفريخ 2.150 طائراً في عام 2004م كجزء من استراتيجية لإنتاج 5.000 طائر سنوياً بحلول عام 2007م. وفي باكستان دعم سموه إنشاء الهيئة العالمية للحبارى. وقد ساعد ذلك على توثيق العلاقات مع الحكومة الباكستانية لمكافحة الصيد غير المشروع لطيور الحبارى وإعادة تأهيل الطيور المصادرة لإطلاقها في البرية.
وبحلول عام 1995م عمل الشيخ زايد على التحول من استخدام الصقور البرية إلى الصقور المكاثرة في الأسر، وبحلول عام 2002م أصبح صقارو الإمارات يعتمدون بنسبة 90% على الصقور المكاثرة في الأسر، مما جعل الإمارات البلد العربي الأول الذي أصبح يعتمد على استخدام الصقور التي يتم إكثارها في الأسر في رياضة الصيد بالصقور. وتجدر الإشارة إلى أن المركز الوطني لبحوث الطيور قد أقام مشروعاً لإنتاج الصقور في الأسر من أجل تخفيف الضغوط عن الصقور البرية.
وإحياءً لتقليد عربي اندثر، أرسى زايد تقليد إعادة إطلاق العديد من صقوره إلى البرية في نهاية موسم الصيد. فبدأ برنامج زايد لإطلاق الصقور في عام 1995م وبحلول عام 2004م وصل مجموع الصقور التي تم إطلاقها ما يقارب الألف من صقور الحر والشاهين التي نجحت في العودة إلى حياتها البرية الطبيعية بعد إطلاقها على مسار هجراتها الأصلية في باكستان وأواسط آسيا.
وشجع زايد بصورة فعالة زملاءه الصقارين على الاستغلال الأمثل للطيور المنتجة في الأسر واعتمد رحمه الله نظاماً مشدداً للترخيص باستخدام الطيور البرية في دولة الإمارات العربية المتحدة. ورافق ذلك إصدار (جواز سفر الصقر) الذي تم اعتماده بوساطة الاتفاقية العالمية للنباتات والحيوانات المهددة بالانقراض (سايتس) مما كان له أثر بالغ في التقليل من أنشطة الصيد غير المشروع في الأقطار المجاورة.
وكما يتضح من الجهود الضخمة للشيخ زايد على مدار سنوات طويلة، فإن الإنصاف وحده يحتم بأن نجزم بأنها قصة نجاح ليس لها ما يُضاهيها في أي مكان من العالم. ويتضح ذلك بالتقدير العالمي الكبير الذي لقيته هذه المساعي وخاصة جائزة رجل البيئة والتنمية في عام 1993م والجائزة التقديرية والميدالية الذهبية لمنظمة الزراعة والأغذية العالمية (الفاو) في عام 1995م، وشهادة الباندا الذهبية من الصندوق العالمي للطبيعة في عام 1997م، والجائزة الفرنسية العليا لمكافحة التصحر في عام 1998م، وكرسي اليونسكو العربي وغيرها من الشهادات والجوائز الأخرى. وقد نال سموه جميع هذه الأوسمة تقديراً لجهوده وإنجازاته التاريخية التي ستترك بصمات خالدة لأجيال عديدة قادمة.
عاش زايد ورحل وقيم المحافظة على الطبيعة ملء قلبه وجنانه. وقد عبر عن ذلك بلسانه قائلاً (إن المحافظة على الطبيعة التزام وواجب مقدس. يجب علينا ألا نخل بالتوازن الحيوي لأن بقاءنا يعتمد عليه. ويجب أن نلعب دوراً إيجابياً في ترك هذه الأرض مكاناً أخضر لأجيالنا القادمة).
في حياة زايد وحتى بعد وفاته، حباه الله بتقدير وثناء العالم لعبقرية قيادته وعظم إنجازاته في بناء مجتمع متطور ومتجانس ومتسامح في دولة الإمارات العربية المتحدة. أما الصقارون في مختلف أنحاء العالم فهم أيضاً سيكونون متمسكين بالحب والوفاء له ولعطائه الكبير لهذه الرياضة التي ارتقى بها إلى فن تراثي أصيل، أحبه وأتقنه وتفرد فيه، وأضفى عليه الكثير من أياديه البيضاء وروحه المحبة للطبيعة والحياة البرية.
وكي نتذكره ليس ثمة طريقة أفضل من الاقتباس من كلمة سموه رحمه الله في مقدمة كتاب (الاستراتيجية العالمية للمحافظة على الصقور وطيور الحبارى) الصادر عن هيئة أبحاث البيئة والحياة الفطرية وتنميتها..
لقد توارثنا رياضة الصيد بالصقور من أجدادنا، يوم كانت أواصر العلاقة مع الطبيعة أشد قوة وأقل تعقيداً. وهذا تذكير دائم لنا بقوى الطبيعة، وبالعلاقة المتبادلة بين الكائنات الحية والأرض التي نتقاسم العيش عليها، وباعتمادنا على الطبيعة. فرياضة الصيد بالصقور تعتمد على مجموعات من الطرائد كالحبارى مثلاً التي تعتمد بدورها على استمرار وجود بيئة مناسبة للتكاثر وقضاء الشتاء. لذا يبدي مربو الصقور حرصهم على البيئات الطبيعية والتنمية المستدامة للموارد.
خلال حياتي شاهدت الكثير من التغيرات والإنجازات الهامة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، فقد أغدق النفط الثروة على شعبنا، لكن للتطور وجهاً آخر بما يأتيه من مشاكل للبيئة من تلوث في البر والبحر، وتدمير للبيئة الطبيعية وانتشار الضوضاء في المناطق التي كانت يوماً مرتعاً للحياة البرية تنعم فيها بالسكينة والهدوء. وعانت بعض فصائل الطرائد من فقدان مواطنها ومن الصيد الجائر، وأصبح من الضروري اتخاذ الخطوات لوقف هذا الزحف قبل فوات الأوان.
هدفنا مشترك، وهو الاستخدام المتوازن والمستدام لمصادرنا الطبيعية، بهدف أن نترك الأرض كما آلت إلينا أو بحالة أفضل من ذلك.
زايد بن سلطان آل نهيان