صاحب القنديل الذى لاينطفىء

•دار الأوبرا المصرية تدعو أكثر من ألف ضيف مصرى و عربى و أجنبى فى يوم ميلاده.
•" قنديل أم هشم " دليل عالميته.
•7. متحدثا فى مهرجان "وجوه يحى حقى " ولم يأخذ حقه!!
•روائى عراقى يشهد برعايته للمبدعين الشبان.
•وروائى تونسى يقارن بينه وبين الدوعاجى.
•كتب عن أناس لم يقرءوا له أبدا؟!
•مخرجون وفنانون وسينمائيون فى احتفالية الأديب الكبير يحى حقى.

زينب عبد المنعم من القاهرة: أقامت منظمة اليونسكو بالاشتراك مع المجلس الأعلى للثقافة احتفالية كبرى بمناسبة العيد المئوى لميلاد الأديب الكبير يحى حقى.
أقيم الاحتفال فى المسرح الصغير بدار الأوبرا الذى اكتظ بأعداد الحضور الغفيرة التى تعدت الألف ضيف ، وحضر الاحتفال الذى افتتحه وزير الثقافة المصرى فاروق حسنى صباح الإثنين 1. يناير وفد كبير من دارسى الأدب العربىفى أوكرانيا، و فرنسا، و انجلترا، حيث ألقت السيدة مريام كوك التى مثلت اليونسكو كلمة عن يحى حقى و السيرة الذاتية، ومن أمريكا حضرت خصيصا الدكتورة منى ميخائيل أستاذ اللغة العربية و الأدب المقارن بجامعة نيويورك على نفقتها الخاصة لمتابعة هذا الحدث الهام، و قد سبق أن استعانت د. منى ميخائيل بكتابات الأديب الكبير يحى حقى مع عدد آخر من الكتاب فى إعداد كتابها الأخير: " رأيت وسمعت ـــ دراسة عن المرأة العربية عبر قرن من الأدب و الثقافة و الفن و السينما ـــ
أما من العالم العربى فقد حضر عدد كبير من الأدباء و الصحفيين من بينهم: د. سليمان العسكرى ، رئيس تحرير مجلة " العربى " الكويتية ، و الذى يرأس احدى جلسات المؤتمر المنعقد بهذه المناسبة وهى "جلسة شهادات " حيث يلقى عدد من الأدباء بشهاداتهم الشخصية حول يحى حقى.
ولد يحى حقى بالقاهرة فى7 يناير 19.5 ، وتخرج من كلية الحقوق عام 1925 واشتغل بالمحاماة ، وكان يتمنى أن يعمل قاضيا كما قالت ابنته الأديبة نهى يحى حقى فى كلمتها أثناء حفل الافتتاح ،ثم عمل معاونا للإدارة فى منفلوط من أعمال صعيد مصر حيث بدأت علاقته بالأرض و الناس ، بعدها اشتغل بالسلك الديبلوماسى ، وعاش فى استانبول أربع سنوات عايش خلالها أهم أحداث السياسة هناك و تحويل تركيا إلى العلمانية بالأمر على يد كمال أتا تورك، ثم انتقل إلى إيطاليا ، وعاد إلى مصر حيث تولى رئاسة تحرير مجلة " المجلة "، و تولى منصب مدير مصلحة الفنون وهى نواة وزارة الثقافة ، وله أكثر من 3. عمل بين الرواية و القصة القصيرة. ومن أكثر أعماله شهرة رواية " قنديل أم هاشم ".

التكرلى: حكاية عمرها30 سنة

ومن العراق يشارك الأديب و الروائى فؤاد التكرلى ، وهو من صاحب عديد من الأعمال الشهيرة مثل: الوجه الآخر ، وموعد النار ، خاتم الرمل ، وعدد من المسرحيات ذات الفصل الواحد ، وهو يرأس أيضا واحدا من جلسات الشهادة ، ولكن إلى جانب ذلك يقدم التكرلى تجربته الخاصة مع الأديب الكبير رحمه الله ، يحكى التكرلى قائلا: هذه حادثة صغيرة جرت منذ 35 عاما، قد تعد عابرة فى حياته ، ولكنها بالنسبة لى تمثل دلالة كبيرة ، فى 197. كنت فى بغداد ،و جاء لزيارتى خيرى المرى و هو كاتب صحفى عراقى أخبرنى أن يحى حقى رئيس تحرير مجلة " المجلة " يطلب الاتصال بى لنشر قصة لى فى عدد خاص عن الرواية العربية ، كنت وقتها مشغولا ، ولكن كان ليحى حقى مكانة فى نفسى ،وقلت لخيرى أن لدى أقصوصة اسمها " الغراب " بها حوار مغرق فى محليتها العراقية و أخشى ألا تفهم و يكون فى ذلك إجحاف فى تقييمى الأدبى ، و تذكرت أن يحى خقى من أوائل من استخدموا اللهجة العامية المصرية توخيا للصدق الفنى، هذه الفكرة بعثت الطمأنينة فى قلبى ، وحين وصل إلى علمى أن العدد قد صدر سعيت لاقتنائه ، واكتشفت أنه قد وضعها فى المقدمة ، مع شروحات وافية لكلمات الحوار العراقى ، مضيفا إلى ذلك مقالا يطلب فيه من القصاص العرب توخى الحذر فى الإغراق فى اللهجات العامية ، خرجت من ذلك أن من يكون مخلصا فى عمله سوف يجد على البعد من يتفهم ذلك ، وشعرت يومها أنه ألقى على درسا لا ينسى ، هذا الرجل كان فعلا راعيا للمبدعين.

يحى حقى و الدوعاجى


أما الروائى التونسى عز الدين المدنى فقد تحدث عن يحى حقى و عقد مقارنة بينه وبين الأديب التونسى على الدوعاجى قائلا: أواخر الخمسينات و بداية الستينات كنا ننظر إلى يحى حقى من خلال كتابه الوحيد الذى جاء إلى تونس فى سلسلة " إقرأ " التى تصدر عن دار المعارف المصرية ، هذا الكتاب كان روايته " قنديل أم هاشم " ، كان يذكر فى كثير من الجلسات، وكنا نأخذه كمثال ، و أحببناه كثيرا لأن كتاباته تتعلق بأشياء كثيرة فى نفوسنا ، وجيل الستينات هذا هو أكبر الأدباء عددا فى تونس ، و كان عندنا كاتب ملعون معتم عليه ، مكروه ، من البوهيمية الأدبية التونسية ،ولد 19.9 ،يحى حقى يكبره بأربعة أعوام ، و كان عصاميا فى ثقافته ،و من أخص أصدقائه بيرم التونسى أثناء إقامته الثانية فى تونس عندما استبعد من مصر ، وقد تشاركا فى السخرية و النقد لأى شىء: الحكومة ، الأشخاص ، الأزياء ، وكان الدوعاجى هذا إمام االزجالين فى تونس ، وقد جمعت له قصصه أواخر الستينات ، و أعطيت لها عنوان: " سهرت منه الليالى " ، و هى مجموعة تشتمل على 16 قصة من أبدع ما يقرأ الإنسان فى الأدب العربى ، اندهشت ، كانت المقارنة بينه وبين يحى حقى ظاهرة على جميع المستويات خاصة فى قضية الكتابة، كتب على الدوعاجى مقالا صار شهيرا فى تونس عنوانه: الأدب المغربى الحديث ،يتعرض لكاتب مغربى اسمه عبد الرحمن الفاسى ، وفيه نقد شديد ينبىء عن فكر رجل صاحب حداثة كما نجدها عند يحى حقى ، أحبابه الذين يلاحقنا بهم كلهم يشهدون أنه كان مهووسا بفن القصة ، يبحث تارة عن فن القصة ، وتارة عن عقدة القصة سواء فى اليقظة و المنام.
كان يشبهه أيضا فى أشياء أخرى مثل الاحتفاء بالأدباء والسخرية، كلاهما ايضا يضع نفسه موضع الكتاب العالميين ، وقضية الشكل عندهما مهمة جدا، وسنجد أن أول من استخدم " الفلاش باك " مثلا فى الأدب العربى هو يحى حقى ، و أول من استخدم عين الكاميرا على الدوعاجى ، وكان ذلك فى نفس الزمن فى فترة الثلاثينات ، أى أنهما كانا من المتهيئين لتحديث الكتابة العربية.
وتواجهك حين تقرأ لكليهما مسألة عدم القدرة على التنبؤ بالخاتمة أو القصد من النهاية ، وكلاهما يستخدم الإيجاز الذى يخلق الإيحاء ويعطى للقارىء الفرصة للتخيل، وهذا نجده أيضا فى كاتب عراقى آخر هو " ذو النون أيوب " وكاتب مغربى هو "عبد الرحمن الفاسى ".

قنديل الشرق و الغرب

الروائى السورى مبارك ربيع كانت له وقفة تحليلية لرواية " قنديل أم هاشم " أولى روايات الأديب الكبير ، وهى تحكى عن طبيب العيون الذى يعود من بعثته العلمية بالخارج ليجد خطيبته وابنة خاله قد فقدت الإبصار ، لقد اعتمدت العائلة فى علاجها على قطرات من زيت القنديل الذى يضىء مقام السيدة زينب رضى الله عنها بالقاهرة ، وكيف حارب أوهام الجهل فى هذا الحى العريق ، ويقارن مبارك ربيع بين صورتين فيهما مفرقة وتناقض فى نفس الوقت ، صورة صديقته الفرنسية المتحررة بلا حدود داخل مجتمع الغرب الذى أضاء التنوير فيه شموعه ، وذلك الحياء الجميل من ابنة خاله وسط مظاهر الجهل والمرض و الفقر لقطاعات من الشعب لا يستهان بها، وينهى الأديب مبارك ربيع كلمته قائلا أن "قنديل أم هاشم "هى قضية تنويرية بالدرجة الأولى أطلق عليها: قنديل من الشرق ،قنديل من الغرب.
ولتنوع الاحتفالية التى تعرضت لموضوعات مثل احترام السينما لفكر الكاتب و حدود التصرف فى النص الأصلى، مع دراسة لقصتى " البوسطجى " و " قنديل أم هاشم " بين النص و الفيلم حضر عدد من المخرجين و السينمائيين و المسرحيين الكبار مثل سعد أردش ، و أحمد عبد الحليم وزوجته الفنانة عايدة عبد العزيز ، و المخرج السينمائى توفيق صالح.
وقد خصصت جلسة للكلام عن الفكر السياسى عند يحى حقى و قضية الهوية و علاقة المثقف بالسلطة و التى تحدث فيها الأدباء أحمد يوسف القرعى ، و محمد جبريل ، ونادية أبو غازى ، وتحدث سيد عشماوى بشكل مشابه و هو يتكلم عن يحى حقى و المسكوت عنه فى القراءة التاريخية.
و كانت هناك مفاجاة جميلة قدمها الأديب عبد التواب يوسف الذى تناول جانبا يغفله الكثيرون وهم يترجمون لسيرة الأديب الكبير حيث خصص كلمته للحديث عن يحى حقى قاصا و راويا للأطفال.

جيل الليبراليين الأحرار و أديب ماكر
فى كلمته قدم د. جابر عصفور الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة صاحب الاحتفالية قائلا: 16 عاما تفصل بين مولده و كل من طه حسين و عباس محمود العقاد و إبراهيم عبد القادر المازنى ، و7 سنوات تفصل بينه وبين توفيق الحكيم ، إلا أنه ينتمى لجيل هؤلاء الليبراليين الأحرار المنتمين لثورة 1919 ، كان يوشك أن ينهى دراسته الثانوية عندما قامت الثورة فشارك فيها ، و تشرب القيم التىشكلت جيلا قبله ، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يتصف بالموسوعية مثل عظماء جيله ، فكتب الرواية و القصة القصيرة وعمل مترجما، و كاتبا للسيرة الذاتية ، و كاتبا عن الآخرين ، كان إداريا جيدا، مما يجعلنا نؤكد أن " وجوه يحى حقى "هو ميراث يحى حقى لجيل الكبار ،ولكن لا أجد من الوجوه العديدة سوى وجه المبدع الأكثر إضاءة بين هذه الوجوه.
ويستمر د. عصفور يقدم ذلك الرجل الذى اقترب منه كثيرا فيقول:تمتع بالجسارةالفكرية و الإبداعية جعلته لا يكتفى بنقد المجتمع و الانحياز إلى أهل الحارة ، بل أيضا الانحياز إلى قيمة الحرية ، ولذلك ناوش كل أشكال الظلم الاجتماعى و جاوزه إلىنقد السياسة خاصة أزمة الديمقراطية فى مصر بعد 1954 و أصدر كتابه: " صح النوم " الذى كان له مغزاه السياسى و ليس الروائى فقط ،و راجعوا شخصية الأستاذ الذى يتحول شيئا فشيئا إلى دكتاتور، ومرت الرواية ولم يلتفت إليها أحد ، أو ربما فطنوا وآثروا الصمت فهو فى بعض الأحيان يكون أفضل.
إلى جانب الجسارة تمتع صاحب الاحتفالية بصفات أخرى ، فقد كان ساخرا ، أو ماكرا إذا شئنا الدقة ، وهى صفة كانت تظهر عنده إذا أراد شيئا و عجز عن التصريح به ، و كلنا لدينا الكثير من نوادر يحى حقى فى هذا المقام ، وصفة المكر الطيب دفعته إلى الرمز مثل حكاية الكلبتين التين تناوشتا مع كلب ، ومن خلال الموقف عرض التناوش الاجتماعى بين المصريين و الأتراك.
و المكر اقترن بصفة جميلة هى الأبوة الحانية ،أنا مدين له ،كان أول من نشر لى مقالاسنة 1968 ، ولم أذهب إليه بل تركت له المقال لدى السكرتير فى مجلة " المجلة " ، و استدعانى وظل ينظر إلىً بعينيه الضاحكتين الماكرتين و كأنه لا يصدق أننىكتبته ، و ظل يسألنى أسئلة كثيرة كمن كان يتحقق، وعندما تيقن أننى صاحب المقال نشره ، و أصبحت إبنا من أبنائه يسأل عنى إذا غبت ،لم يكن أبا حانيا على الكتاب الشبان المصريين فقط بل لكل أدباء العالم العربى الشبان ، ولم أر قبله ولا بعده أديبا كبيرا يكتب كل هذه المقدمات لكتب الشباب ، ولما كنا نعاتبه كان يقول: أنا أنظر إلى البذرة.

إنجازات يحى حقى

أوجز لنا الأديب الكبير خيرى شلبى ورئيس لجنة التحضير للاحتفالية إنجازات يحى حقى قائلا: هو مؤسس الحداثة فى فن القصة المصرية ،و الوحيد بين الأدباء الذى اشتبك مع الأدباء الشبان ، و استخلص منها كتابه " أنشودة البصر " ، وأول من احتضن الشعر الحر الحديث ، وكتب عن رباعيات صلاح جاهين مثلما يكتب عن المتنبى ، و اول من كتب يشرح فن الأوبرا و عالم النحت ، والمسرح ،واقتراحه بطبع الكتب و الصحف بحروف مفردة لحل إشكالية التشكيل.
وكل ذلك لم يعطله عن تذوق الفن الشعبى وكتب عن الغناء الشعبى ومؤلفيه حتى محمود شكوكو، وله وجهة نظر فى اشعر المعاصر ، يقول: حركة الشعر المصرى التى تخلخلت فى الأربعينات من القرن العشرين وجدت نفسها فى الأغنية.
ومما يذكر له أنه هو الذى أنشأ فرقة رضا ، و فرقة الفنون الشعبية ، و أسس المعاهد الفنية ، و أرسل لفيفا من الفنانين لدراسة الإخراج فى باريس و روما.
بلغ عدد المشاركين فى احتفالية العيد المئوى لميلاد يحى حقى أكثر من سبعين متحدثا ، ورغم ذلك فقد رأيت الحزن فى عيون كثير من الأدباء الذين كانوا يودون المشاركة فى تكريم ذلك الرجل الذى فتح قلبه وبيته ومكتبه لكل هؤلاء فى يوم من الأيام ، عندما كان كل منهم مجرد مشروع أديب صغير.