يا مسافر وناسي هواك:
ليلى مراد .. حضور يتحدى الزيف و"العجرمة"

نبيل شرف الدين من القاهرة: عيني بترف .. وراسي بتلف .. وعقلي فاضل له دقيقة ويخف.
هل يحتاج الحديث عن فنانة في قامة الرائعة ليلى مراد إلى مناسبة حتى يقرؤه الناس ؟
لا أظن، فهذه الحاضرة بعد عقود على توقفها، وسنوات على رحيلها مازالت تمتلك رصيداً لدى كل ناطق بالعربية، وذي صلة بالذوق الفني يسمح لها أن تقتحم يومه من دون مبررات ولا مقدمات ولا مناسبات، فأين هو هذا العربي، فضلاً عن المصري، الذي يجرؤ على الزعم بأنه نجا من سحر صوتها المخملي الخلاب، ومن يجرؤ على القول إنه ابتعد عن ألقها المهول، حتى بعد أن اعتزلت ليلى مراد الغناء لسنوات طويلة، وبعد أن غيبها هازم اللذات ومفرق الجماعات وحتى يومنا هذا لم تزل حاضرة، بموهبتها الناعمة، وأصلتها الراسخة، وذلك الشيء الحقيقي الذي يبادرك من أول "طلة" في عينيها، إذ ظلت "الست ليلى" صاحبة أكبر حضور جميل لأجواء العذوبة في تاريخ السينما المصرية، رغم أنها لم تعتمد في الأداء سواء كان تمثيلا أو غناء سوى على عبقرية البساطة .

الحضور والغياب
احكي له يا موج مطروح
ع القلب اللي بات مجروح
في كل مرة كنت أمر فيها أمام منزلها في حي "جاردن سيتي" العريق وسط القاهرة الليبرالية، قاهرة وسط المدينة المتحضرة المتسامحة، وليست قاهرة العشوائيات والجريمة والتطرف، والمثير هنا أن الحي يشبه ليلى مراد في أمور كثيرة، أو بتعبير أدق إحساسي بها، إذ كانت ـ ولم تزل ـ تنتابني رجفة شوق، وقشعريرة لذيذة لشعوري أن ثمة مسافة ضئيلة تفصل بيني وبين صاحبة الوجه الأليف، والصوت الحنون، والعذوبة العفوية، وآخر سلالة الهوانم التي اختارت أن تعتزل وتمكث في دارها، في ظروف يشوبها غموض لم يفلح أحد في إزالته حتى بعد رحيلها، وكانت المرة الأولى التي تغادر فيها مسكنها عندما داهمها مرض الموت فاضطرت إلى التوجه للمستشفى صحبة ابنيها رجل الأعمال أشرف وجيه أباظة، والمخرج السينمائي زكي فطين عبدالوهاب، وقد أصرت على تغطية جسدها بعباءة داكنة تخفي كل ملامحها، حتى لا يتعرف عليها وهي في هذا الظرف العصيب، وفي المستشفى كانت لا ترفع هذه العباءة عن وجهها، إلا حين تكون الغرفة خالية تماما من الغرباء، الذين كانوا أكثر من العاملين في المستشفى من أطباء وممرضات وإداريين، وطلبت ليلى من ابنيها أن يكون دخولها المستشفى وبقاؤها فيه سراً، وعندما ذهبت لأداء واجب العزاء فيها مساء اليوم التالي لدفنها بمسجد عمر مكرم ـ وسط القاهرة ـ وقد صدمتني بشدة ندرة الحاضرين، وتساءلت في نفسي: هل ينبغي أن تكون هكذا نهاية فنانة أمتعت أجيالاً من المصريين والعرب، متعة توشك أن تمسي من بقايا رائحة زمن مضى، تساءلت بيني وبين نفسي وسط ذلك الفراغ الموجع، ان النجمة التي اختارت الغياب يصعب أن يكون لها حضور يدفع الناس إلى مغادرة منازلهم إلى قلب القاهرة المثقلة بالزحام والضوضاء، وتصورت ساعتها أن أزمة ليلى الحقيقية أنها ربما لم تحسب بدقة، إلى أي مدى - زمنيا ومكانيا - يمكنها الابتعاد عن الآخرين، وهكذا عاشت ورحلت ليلى ومعها عدة ألغاز لم يتوصل إلى فكها أحد، ودفنت معها سؤال عمرها الكبير من دون أن تخلف لنا إجابة محددة وقاطعه، السؤال هو: لماذا اعتزلت الفن بينما لم يكن عمرها يتجاوز السابعة والثلاثين، وكانت في قمة تألقها الفني، وفي وصيتها الأخيرة من ابنها أن تشيع جنازتها من دون إعلان مسبق، وأن ينشر النعي التقليدي بعد الدفن، وأن تكون الصلاة عليها في مسجد السيدة نفيسة بحي القلعة، وألا يحضر أحد من الغرباء تشييع جنازتها إلى مثواها الأخير .
ويرى الروائي المصري يوسف القعيد أن أزمة ليلى مراد الحقيقية تجسدت خلال السنوات بين الاعتزال والتفكير بالعودة للفن، لكن كان كل شئ قد تغير، فالزمان لا يتوقف أبداً، ومن هنا فإن الفنان لا بد وأن يحسب إلى أي مدى يمكنه الابتعاد دون أن يكون هذا الابتعاد ضارا به، فالابتعاد مطلوب لكن بحساب دقيق، وأعرب عن اعتقاده أن ليلى مراد لم تحسب هذا الأمر بالدقة الكافية، وتصورت أن الفن يمكن أن ينتظر فناناً اعتزل في الوقت الذي رآه مناسباً، دون أن يحدد الوقت المناسب للعودة، ومن هنا فإن ليلى في سنوات عمرها الأخيرة، كانت عينا في الجنة وأخرى في النار، عين على الاعتزال وأخرى على العودة، لكن ظل غيابها ومحاولات إعادتها بحاجة إلى المزيد من الاجتهادات الأخرى .

حزبا ليلى وفاتن
بيفوت ع العين ويصحيها .. من عز النوم
ويفوت ع الروح ويطير بيها الدنيا في يوم
ليلى من مواليد برج الدلو في 17 فبراير عام 1918، وكما يقول الفلكيون فإن للمرأة من هذا البرج حضورها الجذاب، تستقطب الإعجاب والأنظار واهتمام الآخرين بسهولة، كما أن لديها أسلوبها الخاص الذي تتعاطى به مع العالم، ولها أيضاً أفكارها الثورية، لهذا فهي تعشق العمل المتفرد، وتكره التكرار وكل تجربه تعطيها حماسا جديدا
أما في سيرتها العائلية فهي ابنة المغني والملحن اليهودي المصري زكي مراد، الذي تألق بعد أدائه بطولة أوبريت "العشرة الطيبة" الشهير، الذي لحنه الشيخ سيد درويش، وأدت البطولة أمامه نجمة تلك الأيام، الفنانة "روزاليوسف"، لكنه أصبح بعدها منافساً لنجيب الريحاني إلى حدّ أصبحت بينهما الحرب معلنة، أما والدة ليلى رغم حبها لوالدها زكي مراد لكنها كرهت نجوميته، خاصة بعد أن بدأ يعمل حتى الصباح، ويستقبل المطربات والمطربين ويسجل الأغنيات في الاستديوهات، ويمثل في مسرح الريحاني، وقد أنجبت الأم ابنها البكر مراد، ثم ابراهيم الذي مات طفلاً، ثم جاءت ليلى كبرى البنات، ثم ولداً آخر سمته ابراهيم، ثم ملك ومنير، الذي كان من ألمع ملحني عقدي الخمسينيات والستينيات، وبعد فترة ولد كل من عزيزة وأسعد اللذين توفيا، لتأتي سميحة آخر العنقود .
وقدمت ليلى مراد 34 فيلماً، وفي افلامها قدمت 300 أغنية، وكانت فساتينها وطريقة تصفيف شعرها وحتى أسلوبها في الحديث، بمثابة ما يمكن وصفه بتعبير "ستايل" صبايا ذلك الزمان، وتقول الباحثة جيهان الناصر التي اعدت رسالة ماجسير عن الاغنية السينمائية عند ليلى مراد، إن فستانها الذي كانت ترتديه في أغنية "أنا قلبي دليلي" احتاج إلى خمسة امتار، كان سعر المتر الواحد منها حينذاك أكثر من 80 جنيهاً، بينما كان سعر الجنيه الذهب لا يتجاوز 27 جنيها مصرياً في تلك السنوات، غير أن ليلى اختارت فجأة وعلى نحو غير مفهوم أن تعتزل الفن والظهور العلني عام 1955 بينما كانت لم تزل في السابعة والثلاثين من عمرها، وفي ذروة نجاحها الفني، وحين كان المصريون حينئذ يتوزعون بين حزبين، الأول لفاتن حمامة والثاني ليلى مراد، وإن كانت الأخيرة تفوقت على فاتن حينئذ بصفة "الفنانة الشاملة"، فإن فاتن انتصرت في النهاية على ليلى بتلك القدرة الفريدة على الاستمرار، ويرى عادل حسنين في كتابه عن اعتزال ليلى أنها لم تستطع التأقلم مع الأجواء الجديدة التي خلفتها حركة العسكر عام 1952، ذلك أنها كانت قد اعتادت ان تعيش وسط النخبة الارستقراطية التي كانت ترعى الفنون الراقية وتقدرها، وتحتفي بها، مقابل الطبقة التي أتى بها حكم العسكر التي لا ترى في الفن سوى وسيلة للتسلية، وتحتقره في أعماقها، ومن هنا فقد فضلت ليلى الابتعاد عن هذا "المناخ الثوري"، لكن الناقد الفني الكبير، ومؤرخ الغناء العربي المرحوم كمال النجمي يقول إن ليلى أصابها السأم من تقلبات الحياة والوسط الفني، فلم تستفد من نضج صوتها، فانصرف عنها المستمعون متسائلين عما جرى لليلى مراد، وهناك اجتهادات شتى في سياق محاولة تفسير قرار الاعتزال الذي اتخذته ليلى في الوقت الذي لم يكن متوقعا منها، لكن يبقى السؤال مشرعاً حتى اليوم: لماذا اعتزلت ليل مراد الفن في الظروف التي حدث هذا فيه ؟
هناك واقعة حقيقية جرت لليلى مراد، تحمل بعض المعاني والدلالات التي يمكن من خلالها قراءة طريقة تفكيرها، هذه القصة تقول إن نجيب الريحاني الذي كان يقيم بذات البناية التي كانت تقطنها ليلى مراد، وذات مساء جمعت "مصادفة المصعد" بين النجمة المتألقة والعجوز المحنك، الذي نظر إليها قائلاً في ما يشبه الاستعطاف : "أملي أن أمثل فيلم معاكي قبل ما أموت يا بنتي"، ولحظتها طارت ليلى من الفرح وجرت إلى زوجها أنور وجدي وأبلغته بالأمر وسعادتها غامرة، وهنا استيقظ "التاجر الشاطر" في أعماق أنور وجدي الذي التقط فورا الجانب النفعي في المسألة، فبدأ يناقش مشروع الفيلم، ولم يعطها حتى فرصة التقاط الأنفاس، ليخرج الى الوجود الفيلم الرائع "غزل البنات "، والغريب هنا أن موقف نجيب الريحاني كاد يرقى الى مستوى النبوءة، فقد مرض الرجل في نهاية الفيلم، وأكمله بصعوبة بالغة، ليموت بعده مباشرة، وكان "غزل البنات " هو هذا الفيلم الأخير بالنسبة لأنور وجدي، وهو الذروة التي ما بعدها ذروة في مسيرة ليلى، وهل رأيتم معي كل هذا القدر من التواضع الجم من قبل نجيب الريحاني، مع فنانة أقل منه كثيراً، لقد ودعنا التواضع مع رحيل جيل الريحاني، فلم نعرف بعده سوى "الذوات المتورمة"، متفشية في كل حدب وصوب .

كتب وحكايات
يا أعزّ من عيني .. قلبي لقلبك مال
شارياك وشاريني .. وايش يعملوا العزال ؟
بعد رحيل "الست ليلى مراد" قرأت عدة كتب صدرت عنها، بينها كتابان صدرا في حياتها، وكتب أخرى صدرت بعد رحيلها، الكتابان الصادران في حياتها هما: رحلة حب مع ليلى مراد لمؤلفه صلاح طنطاوي، الذي نشرته مؤسسة روز اليوسف ضمن سلسلة الكتاب الذهبي سنة 1979، والثاني هو كتاب (يا مسافر وناسي هواك .. ليلى مراد)، ومؤلفه هو عادل حسنين، وصدر عام 1973 وإن كان يعتمد على الصور بشكل أساسي، ثم كتاب يحمل اسمها (ليلى مراد) للروائي الشهير صالح مرسي، والصادر في سلسلة كتاب الهلال، وتحديدا بعدد شهر ديسمبر 1995 وبعد رحيلها بأيام، وهو حوار طويل أجراه الكاتب معها في شهر يوليو من العام 1970، ونشره في الأساس كحلقات مسلسلة بمجلة "الكواكب" الفنية المصرية، ثم أعاد جمعه في كتاب بعد وفاتها بأيام، وأخيراً صدر كتاب (ليلى مراد .. سيدة قطار الغناء) للصحافية المهتمة بالفن حنان مفيد فوزي، والذي نشرته "الهيئة المصرية للكتاب" .
شملت هذه الكتب تفاصيل متناثرة من هنا وهناك عن حياة الفنانة الاستثنائية لكن تركت كلها مساحات من الفراغ حول لغز اعتزالها، الذي كان ـ بتقديري ـ حجر الزاوية في غياب ليلى مراد المبكر والغامض، ومع أن الكتابين اللذين صدرا في حياتها تطرقا إلى قصة الاعتزال، ففي كتاب صلاح طنطاوي هناك فصل كامل يحمل عنوان: أحزان ليلى مراد عن فترة الاعتزال. وان كان يحاول القفز على قرار الاعتزال بسرد محاولاته شخصيا استعادتها من أجل أن تعمل معه في مسلسل إذاعي مأخوذ عن رواية "انا كارنينا" لتولستوي وحصوله على موافقتها المبدئية، ثم رفضها بعد ذلك، وقال إن الرفض سببه تدني أجور المتعاملين مع الإذاعة، وعدم تلبية طلبات ليلى مراد المالية .
أما كتاب عادل حسنين عنها، فيحمل الفصل الأخير منه عنوان: (ليلى ايتها الأسطورة : لماذا نأيتِ؟) وفيه محاولة للاجابة على سؤال لماذا اعتزلت؟ والاجابات كلها من اجتهاد الكاتب فهو يرى أولا أن زواجها من المخرج فطين عبدالوهاب كان السبب، لكن هذا الكلام مردود عليه، إذ قدمت بعد هذا الزواج فيلميها الرائعين "الحياة الحب" و"الحبيب المجهول "، كما أدت مقدمة مسلسل إذاعي من ألحان بليغ حمدي، وعندما قررت جمعية نقاد وكتاب السينما أن تكرم ليلى مراد سنة 1977 وقدمت لها شهادة تقدير عن جهدها في عالم الفن، وحضرت ليلى بنفسها حفل التكريم وظهرت بعد 23 سنة من الغياب والاختفاء والعزلة وسط الناس وتكلمت وضحكت وتسلمت جائزتها.وفي نفس هذا العام –1977- قالت ليلى في مقابلة مع الإذاعية الراحلة آمال العمدة إن الاعتزال كان بسبب المسؤولين سواء في الاذاعة أو مؤسسة السينما، وأضافت "أنا كنت احتجبت لفترة خمس أو ست سنوات لأنني كنت فقدت رشاقتي. كما أن أولادي كانوا في سن الطفولة. وأنا باحب الأطفال وباحب أولادي، أخذتني الأمومة خمس سنوات، وبعد كده الأولاد ابتدوا يكبروا ويروحوا المدارس فقمت بتخسيس نفسي ورجعت زي ما كنت، وبعدها حاولت ـ تكمل ليلى مراد حكايتها ـ لدى المسؤولين عن الفن في مصر وفشلت. مش بس فشلت. ده أنا سقطت في الامتحان.ده كان فاضل شوية ويقولوا لي ابقي تعالي بكرة. مش فاضيين النهارده.. الى هذه الدرجة، بعدما خسست نفسي ذهبت إليهم من تلقاء نفسي وليس بناء على طلب من أحد، أخذت موعدا مع المرحوم عبدالحميد جودة السمار وقابلته حين كان يشغل منصب رئيس هيئة السينما في ذلك الوقت، ورحب بي طبعا وقال لي: أنا تحت أمرك. وتعالي في اليوم الفلاني، فذهبت اليه في الموعد وعرضت عليه رغبتي في العودة إلى السينما، وبعد شهور وعدني، لكن مفيش حاجة أكثر من هذا"، وفي صيف 1984 -أي قبل رحيلها عن عالمنا بأحد عشر عاما أقنعتها شركة إنتاج تليفزيونية عربية بالظهور على شاشتها مقابل خمسة آلاف جنيه وكان ظهورها بعد 30 سنة من الغياب، وكان ظهوراً مأساوياً بكل معاني الكلمة، فمقابل الصورة التي ترسخت في ذاكرة الملايين للفتاة الرومانسية النحيلة في الأفلام القديمة، ظهرت ليلى مراد مرة أخرى بعد أن أصبحت مسنّة، ووجهها يصرخ بالأصباغ، وجسدها مثقل بالشحم .

حكاية إسرائيل
يا رايحين للنبي الغالي
هنيالكم .. وعقبالي
السبب في هذا التكتم الشديد من جانبها. وإشرافها بنفسها على مشهد نهايتها وعدم تركه لاجتهادات ابنيها، أنها لم تكن ترغب في أن يعرف أحد أنها دفنت في مقابر البساتين وهي مقابر اليهود في مصر، ذلك أنه منذ أن كانت في مصر جالية يهودية ومقابرها كانت ومازالت في منطقة البساتين وحكاية دفنها فيها كلام أقرب الى الشائعات. لأن من توصي أن يصلى عليها في مسجد وأن يكون هذا المسجد هو جامع السيدة نفيسة. ومن توصي بذلك لابد وان تكون مسلمة رغم أنف المغرضين أصحاب الشائعات إياها، ومشكلة ليلى مراد بين اليهودية والإسلام أثيرت عدة مرات خلال حياتها، كان آخرها حين وقع الرئيس الراحل أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، ولا أفهم لماذا تذكر البعض أن ليلى مراد يهودية الأصل والنشأة في هذا الوقت، وكان موقف ليلى مراد في حياتها وحتى اللحظة الأخيرة من عمرها شديد الوضوح وهو أنها أسلمت في النصف الثاني من الأربعينات عن قناعة واقتناع تامين وأنها مسلمة قولا وفعلا.قبل أن تترك ليلى مراد بيتها الى المستشفى في مرضها الأخير كان بجوار سريرها مصحف القرآن الكريم. وكانت في وسطه علامة تشير الى المكان الذي وصلت اليه. وقال ابناها إنها كانت تنوي أن تختم القرآن الكريم. وان كان الأجل قد وافاها قبل أن يتم ذلك، وعموما فقد ختمت القرآن الكريم قبل ذلك أكثر من مرة في حياتها على أن اسرائيل سببت لليلى الكثير من المشاكل من قبل وكانت السبب الجوهري في اطلاق العديد من المشاكل والشائعات عنها، وأخطر هذه الشائعات تلك التي انطلقت مع الأيام الأولى لثورة يوليو1952 وقد دارت هذه الشائعة حول أن ليلى مراد قد زارت اسرائيل سراً، بل وتبرعت لها بخمسين ألف جنيه، وكان لهذه الشائعة ثم محاولات نفيها من قبل ليلى مراد أعظم الأثر في حياتها بعد ذلك، ولنخض في تفاصيل هذه القصة قليلاً اعتمادا على كتاب علي حسنين عن ليلى مراد وتحديداً الفصل الخامس الذي يحمل عنوان: "أقوى من الحب.. وأكبر من الشائعات "، كانت هذه "القصة - الشائعة" انطلقت عندما نشرت صحيفة (الأهرام) بعددها الصادر يوم الثاني عشر من شهر سبتمبر سنة 1952 نبأ اختارت له مكانا بارزاً كتب فيه مراسلها في دمشق أن الحكومة السورية قررت منع أغاني ليلى مراد وأفلامها في سورية، لأنها تبرعت لإسرائيل بمبلغ 50 ألف جنيه، وبالطبع أثار هذا النبأ ردود فعل هائلة وصلت الى حدود الصدمة لدى عشاق ليلى مراد ومعجبيها.في اليوم التالي صرحت ليلى لوكالة "أسوشيتدبرس" أنها تكذب تماماً الخبر الذي يقول انها تبرعت بخمسين ألف جنيه لاسرائيل. وأكدت أن هذه الرواية مردها هو حقد بعض المشتغلين بشؤون السينما، وأضافت انها "موقنة تماماً من أن الشعب المصري يعرفها حق المعرفة كذلك الحكومة المصرية، وانهما لن يصدقا مثل هذه المزاعم الكاذبة"، وكانت ليلى مراد في ذلك الوقت قد سافرت إلى باريس عندما علمت أن أنور وجدي - زوجها السابق - سيجري جراحة في الكبد بالعاصمة الفرنسية، فقررت الوقوف بجانبه، ومن باريس قالت ليلى للصحف إنها ليست المرة الأولى التي تحاول فيها الدعاية السيئة أن تنال مني وقد يكون سببها أني ممثلة ممتازة وقد سبق أن أشاعوا أني صدمت في حادث سيارة بإيطاليا، ولم أزر إيطاليا قط، وأكدت أن كل أموالها مودعة في بنوك مصرية، وأنها لم تملك في يوم من الأيام مبلغا يزيد على خمسين ألف جنيه مصري، وكانت صحيفة فنية لبنانية قد روجت لهذا الشائعة عندما بدت بوادر الطلاق بين ليلى مراد وأنور وجدي، وتلقفت الصحف السورية هذا الكلام ونشرته، وكان ما كان، وحتى بعد أن كذبت ليلى مراد ما نشر، طلبت منها الإذاعة السورية أن تقدم المستندات التي تثبت صحة ما قالته في التكذيب. وقد تعبت كثيرا من أجل تدبير هذه المستندات، وسافر مدير أعمالها محمود شافعي إلى دمشق، وكانت الوثائق التي قدمتها كالتالي :
1- شهادة بحسابات ليلى مراد لدى البنك العثماني وكان قدره 36149 جنيها و8252 مليما. وفي البنك العربي وكان قدره 30710 جنيهات و622 مليما. وشهادات من البنوك الأخرى أن ليلى مراد ليس لها فيها حسابات مطلقاً .
2- شهادة من القنصلية المصرية العامة في باريس. ومعها وثيقة من الأمن العام الفرنسي، تثبت فيها أنها لم تغادر فرنسا فقد وصلتها قادمة من مصر .
3- شهادة من أنور وجدي يثبت فيها ان طلاقه من ليلى هانم مراد لم يكن بسبب خلاف ديني، لأن ليلى مسلمة وموحدة بالله تعالى منذ نحو سبع سنوات وان الطلاق لم يكن بسبب خلاف سياسي أو ميول وطنية لأن السيدة ليلى مراد لم يكن لها في يوم من الأيام أي لون سياسي .
وبعد تقديم هذا الوثائق، خاطب الفنان سراج منير بصفته نقيب الفنانين حينئذ إدارة الشؤون العامة بالجيش المصري، طلب فيه أن يفيدهم عن ثبوت أو انتفاء ما أشيع عن ليلى، وكان الجيش في ذلك الوقت - بعد حركة الضباط بشهور - يشكل المرجعية التي تفوق أي مرجعية أخرى في مصر، كان قائد الجناح وجيه أباظة مدير الشؤون العامة في الجيش حينئذ، الذي رد على الخطاب قائلاً : إنه بد تحريات جهات الاختصاص في هذا الأمر، تبين لنا أن السيدة ليلى مراد لم تسافر إلى إسرائيل ولا صحة لما نشر عن تبرعها للحكومة الإسرائيلية بأي مبلغ من المال، وفي نوفمبر 1952 تعود ليلى مراد وتقول لمجلة الفن عن هذا الشائعة إنني مظلومة وبريئة من جميع ما نسب إليّ، إنني مصرية مسلمة، ومتزوجة من مصري مسلم، وان الله الذي حرّم الظلم على نفسه لن يقبله لمخلوق بريء أبداً .
.....
سألت عليه .. قالوا مسافر
وشأن كل الحكايات الجميلة، لا يبقى منها إلا التساؤلات، وفي حكاية "الست ليلى مراد"، تبقى أسئلة كثيرة، وأن كان يتصدرها سؤال عن ذلك الشخص المجهول الذي أطلق هذه الشائعة الخبيثة ضد ليلى، ويرى عادل حسنين في كتابه أن أنور وجدي بالاتفاق مع أحد الصحافيين هو الذي أطلق الحكاية، من دون أن يدرك مخاطرها، ولم يكن يتوقع أنها لن تؤثر على ليلى وحدها، بل وعليه أيضاً بوصفه شريكا في البطولة لأغلب أفلام ليلى، وهكذا أسرع وجدي إلى باريس يخطط لأبعاد هذه الشائعة وينفيها ويعود معها من فرنسا إلى القاهرة على ظهر الباخرة إينوزيا رغم أنهما كانا مطلقين وتدخل الأصدقاء مرة ثالثة لإعادة الحياة الزوجية بين ليلى ووجدي الى سابق عهدها، وان ظل السؤال قائماً : هل شعرت ليلى مراد أن أنور وجدي كان خلف هذه الشائعة التي كان يمكن أن تقضي عليها، أو لعلها فعلت فالتزمت دارها بعدها بسنوات قليلة، وحتى اللحظة فإن أحداً لا يمكنه الادعاء بأنه يعرف على نحو حاسم حقيقة ما حدث، رغم تعدد الاجتهادات والروايات والشائعات .
[email protected]