ألبـير الخوري من بيروت: في ظروف أخرى، كان يمكن مقاربة انقلاب نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام على نظام الأسد الذي خدمه بأمانة وإخلاص لأربعة عقود منصرمة بطريقة أخرى. قدّم خدام شهادة صاعقة وصارمة ضد نظام حصر كل السلطات بين يديه، فكان الفساد والظلم والقهر الخبز اليومي للنخبة الحاكمة التي اتخذت من شعار quot;الحرب على إسرائيلquot; وquot;الصمود والتصديquot; غطاء لاستمرارها وتعبئة مواطنيها على طريق المقاومة وquot;تعميتهمquot; في الوقت نفسه. خدام لم يعلن عن أشياء كان يجهلها الرأي العام المحلي والعربي والدولي، لكن أن تأتي على لسان ثاني أكبر مسؤول في نظام والمدافعين عنه بشراسة في داخل البلاد وخارجها، فهذا ما أعطى هذه الاعترافات أبعاداً أخرى، وبحيث فتح فجأة المجالات الواسعة لمحاكمة فترة طويلة من تاريخ سوريا ولبنان والمنطقة، قامت على العنف والأكاذيب، وحيث تم التعامل مع العديد من القضايا المحقة على الصعيدين الداخلي والخارجي وفق ممارسات خارج العصر والتطورات المتسارعة التي يشهدها العالم، خصوصاً في السنوات الخمس عشرة الأخيرة التي بدأت بانهيار الاتحاد السوفياتي وأخذت منحاها التصاعدي مع ولاية الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الأولى وبدايات الثانية. لم تهدف اعترافات خدام إلى عملية نقد ذاتي في اتجاه تصحيح الأخطاء والخطايا quot;البعثيةquot; في خلال خمسة عقود مضت، ثلاثون منها حكمت بـ quot;القبضة الحديديةquot; وتحكمت بالقرار اللبناني حتى جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق لبنان رفيق الحريري ما أدى إلى انتفاضة 14 آذار/ مارس، ومن ثم إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية وجهت أنظارها إلى عدد من كبار المسؤولين السوريين، كمتهمين رئيسيين في جريمة أدانها العالم بأسره.

في خطوة أولى، أدت مداخلة خدام إلى إعادة إحياء تحقيق الأمم المتحدة الذي كاد يفقد سخونته في الأسابيع الأخيرة، وخصوصاً بعدما تمكنت الإدارة السورية من قلب الحقائق لصالحها من خلال اعترافات quot;الشاهد المقنعquot; هسام هسام، الذي شكل في مرحلة ما، واحداً من الشهود الرئيسيين في تقريري رئيس لجنة التحقيق الدولية السابق ديتليف ميليس. وهكذا، مباشرة بعد كلام خدام، بادرت لجنة التحقيق الدولية، وقبل مرور 48 ساعة إلى إعلان قرارها بمقابلة الرئيس بشار الأسد ووزير خارجيته فاروق الشرع وquot;مسؤولين سوريينquot;، ما اعاد التحقيقات الى ديناميتها الأولى بعد أسابيع من الاسترخاء، وبالتالي معاودة الضغوط على دمشق لتنفيذ القرارات الدولية بلا قيد أو شرط. والسؤال، من يقف وراء تحريك وتشريع عملية التحقيق من جديد، ولماذا؟

لا بدّ أن أولئك الذين اختاروا مساء الثلاثين من كانون الاول/ ديسمبر الماضي، كانوا في سباق مع الوقت لتفجير الصاعق quot;الخداميquot;. لقد جرى تسجيل المقابلة مع عبد الحليم خدام في الليلة نفسها التي جرى بثها للمشاهدين، وفي الليلة السابقة على أبعد تقدير، ذلك أن الصحافي الذي حقق المقابلة تمنى لضيفه quot;عاماً جديداً سعيداًquot;. كذلك فإن الأخطاء المتعددة التي بدت في المونتاج، أكدت أن المسؤولين في محطة quot;العربيةquot; التلفزيونية، كانوا في سباق مع الوقت، فأسقطوا الشكل من أجل المحتوى.

في الواقع، لم تكن اعترافات خدام قبل الحادي عشر من كانون الأول/ يناير الحالي محض صدفة. يصعب تخيل ذلك، ولا بد أن احداً ما باختياره هذا التوقيت أن يمهد الطريق امام رئيس لجنة التحقيق الدولية الجديد سيرج براميرتس، فجاءت قنبلة نائب الرئيس السوري السابق عز الطلب، خصوصاً أن السلطات السورية سبقت هذا التوقيت بإطلاق عدة مبادرات quot;حسن نيةquot; سياسية وإعلامية بهدف قلب الأوضاع لصالحها. وبناء لذلك، أصرت دمشق على ضرورة توقيع بروتوكول تعاون مع رئيس اللجنة الجديد، وهذا ما أصر ميليس على رفضه ليمتلك حريته الكاملة في إجراء التحقيقات مع كل من يريد وفي أي مكان يريد.
اعتراف خدام الذي أكد فيه أن الرئيس السوري بشار الأسد هدد الرئيس الحريري quot;أكثر من مرة قبل التمديد لرئيس الجمهورية اللبنانية إميل لحودquot;، لم يكن مجرد يقظة ضمير أو فعل ندامة. لقد سبق ان اتهم خدام اسرائيل بالوقوف وراء الجريمة بعد ثلاثة أيام على اغتيال الحريري، ما يؤكد أن تراجعه في الأيام الأخيرة عن اتهاماته السابقة يهدف إلى إعادة إحياء التحقيقات التي بدت شبه مشلولة في الأسابيع الأخيرة الماضية. كذلك يمكن ربط أقوال خدام بالتطورات السياسية الأخيرة على الساحة اللبنانية وفي ساحات عربية أخرى. كما أن بث المقابلة من على شاشة يملكها أمراء ورجال أعمال سعوديين، تكشف بلا أدنى شك، من الجهة أو quot;الجهاتquot; التي أقنعت خدام بالإقدام على مبادرته. وإذا أخذنا بالاعتبار المقابلة التي أجرتها جريدة quot;الشرق الأوسطquot; السعودية مع ديتليف ميليس قبل أيام عدة من اعترافات خدام لـ quot;العربيةquot;، وفيها اتهم ميليس quot;جهات سورية علياquot; بالوقوف وراء اغتيال الحريري، وهذا ما لم يسبق لمسؤول قضائي من الأمم المتحدة أن أعلن عنه بهذه الصراحة من قبل ـ إذا أخذنا بالاعتبار ـ كل هذه المعطيات، أدركنا سريعاً أن الامور لم تكن محض صدفة، وأن الساحة السورية باتت مهددة بمزيد من الاهتزازات والاتهامات، وبالتالي لم يعد أمامها سوى الانصياع للقرارات الدولية من خلال نصائح الرياض.

لقد باتت السعودية لاعباً أساسياً في اللعبة الدائرة على الساحتين اللبنانية والسورية من خلال الاسابيع الاخيرة. إن أحداً من المحللين والمراقبين يشك في ذلك، ويضعون مبادرات الرياض الأخيرة بـ quot;ضربة معلمquot; تحيّد الصراع القائم بين دمشق وبيروت عن التدويل، دون أن تلغي دور فرنسا والولايات المتحدة، وبالتالي تستعيد دورها الحيوي والمؤثر في الشرق الأوسط، بعدما خسرت بعض مواقفها في الانتخابات التشريعية الأخيرة في العراق، وكذلك الأمر بالنسبة لحلفائها في لبنان، وتحديداً تحالف 14 آذار/ مارس، الذي وجد نفسه أضعف من أن يواجه لوحده الحرب السورية المضادة، وخصوصاً في الأسابيع الفاصلة بين استقالة ميليس وتسلم خلفه سيرج بيرامترس مسؤولياته في الحادي عشر من الشهر الجاري، ما فرض على السعودية أن تعيد حساباتها وفق المعطيات المتوافرة لديها.

ففي العراق كان حلفاء الرياض أول الخاسرين في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وحيث فازوا بست وعشرين مقعداً لا غير من أصل 275 نائباً في البرلمان. وفي الملف السوري، شجعت القاهرة وبدعم مباشر من الولايات المتحدة، أمين عام الجامعة عمرو موسى القيام بمبادرة وفاقية بين دمشق وبيروت، لكن حلفاء السعودية في بيروت وفي مقدمهم quot;تيار المستقبلquot; بقيادة سعد الحريري وquot;التكتل الديمقراطيquot; بزعامة وليد جنبلاط، تمكنوا من خنق المحاولة وهي في مهدها، على اعتبار أنها (المحاولة) تهدف إلى وقف التحقيقات الدولية وبما يسهل بالتالي استمرار عمليات الاغتيال التي تهدد مسؤولين لبنانيين يعارضون النظام السوري.

هكذا تحليل يفترض قناعة البعض أن الولايات المتحدة قد تراجعت إلى حد ما عن ضغوطاتها باتجاه دمشق تبعاً لعدد من الوقائع. صحيح أن واشنطن لم تعقد اتفاقاً مع دمشق، أقله حتى اليوم، إنما بالتأكيد يتحدث الطرفان عن هدنة ما. يؤكد ذلك إقدام دمشق في الفترة الأخيرة على نشر عشرين ألف جندي على الحدود السورية ـ العراقية ومحاصرة العديد من الشبكات التي كانت تعمل على تصدير المقاومين وquot;الاستشهاديينquot; إلى العراق، دعم المبادرات السياسية الأميركية في أرض الرافدين، وحسب مصادر عليمة، فإن سورية باتت مستعدة لمناقشة قيام قوة عربية ـ إسلامية مشتركة لحفظ السلام السلام في العراق، وأكثر، استعدادها للمشاركة فيه، وهو أمر ظلت ترفضه دمشق حتى وقت قريب جداً.
وفي الإطار نفسه، ونقلاً عن أوراق رسمية بعنوان quot;بوش يراجع حساباته في السنة الانتخابية الجديدة، كشفت وكالة الصحافة الفرنسية عن أجندة الرئيس الأميركي في العام الحالي وحيث في أولوياته تحقيق انتصار في العراق ومنع الديموقراطيين من الفوز بأكثرية داخل الكونغرس، وفي مرتبة ثالثة إصلاح ما دمّره إعصار كاترينا في ولاية كارولينا الجنوبية... ولا تأتي الأوراق بأي شكل من الأشكال على واقع النظام السوري، وكأن واشنطن تعلن بطريقة ما عن الملف السوري ـ اللبناني، وبالتالي عن دعم لجنة التحقيق الدولية في مسارها الطويل.

ويبدو أن الرياض وحلفاءها في بيروت، وربما شاركتها الرأي باريس، تنبهوا للأجندة الأميركية الجديدة، ومن هنا تبادل الزيارات والمواقف بين العواصم الثلاث، حيث استقرّ الرأي على أن أياً من هذه القوى لا تعمل على إسقاط النظام السوري، إنما وضعه، بالطرق الدبلوماسية حيناً، وبالضغط عليه أحياناً أخرى، على التعامل مع لجنة التحقيق الدولية ورفع وصايته بالكامل عن الملف اللبناني، بما يعني وقف تصدير الأسلحة إلى حلفائه اللبنانيين والفلسطينيين على الأراضي اللبنانية والمبادرة إلى إعلان الموافقة على ترسيم الحدود، وتسهيل عمل الحكومة اللبنانية وعودة وزراء quot;أملquot; وquot;حزب اللهquot; إلى المشاركة في الاجتماعات الحكومية، خصوصاً أن العديد من التجارب أثبتت أن سوريا تمتلك حرية الحركة حتى وإن كانت محاصرة من هذه الجهات الأربع، بما فيها مجلس الأمن والولايات المتحدة وفرنسا وعواصم عربية أخرى.