أزمة حادة فيصحيفة لوموند الفرنسية
بين المدافعين عن استقلاليتها والولاءات السياسية المالية
بين المدافعين عن استقلاليتها والولاءات السياسية المالية
قصي صالح الدرويش من باريس: تشهد صحيفة لوموند أزمة خطرة قوامها صعوبات مالية متزايدة وفراغ إداري سببته استقالة جماعية لمجلس إدارتها. وكان رئيس مجلس الإدارة بيير جانتيه ونائبه برونو باتينو ومدير الصحيفة ايريك فورتورينو قدموا استقالتهم في الثامن عشر من ديسمبر الماضي إثر خلاف مع quot;شركة المحررينquot; التي رفضت مصادقة حسابات العام الفائت وإقرار موازنة العام الجاري الخاصة بفرع الصحيفة الإلكتروني وكذلك الاستراتيجية الخاصة باستقلاله. المستقيلون تحدثوا عن quot;تحدquot; من المحررين يجعل مهمة المدراء مستحيلة. يشار إلى أن الفرع الإلكتروني أو التفاعلي للصحيفة يتمتع بفريق تحرير خاص به وأن حصة المحررين فيه لا تتجاوز 22% بينما مجموعة quot;لاجارديرquot; الفرنسية تمتلك نسبة 34% من هذا الفرع، فيما تبلغ حصتها في رأسمال مجموعة quot;لوموندquot; 17%.
ولفهم خصوصية الأزمة لا بد من عودة تاريخية لتوضيح طبيعة ملكية quot;لوموندquot;، فقد أسسها الصحافي هوبير بوف ميري عام 1944 برأسمال 200 ألف فرنك فرنسي موزعة على 200 سهم تقاسمها عدد من الصحافيين، ثم استحدثت quot;شركة المحررينquot; عام 1951 التي وسعت دائرة الملكة إلى كافة الصحافيين ثم باقي الموظفين، ما أعطى العاملين في المطبوعة الشهيرة دورا مركزيا في إدارتها، إلا أن الصعوبات المالية المتتالية منذ بداية الثمانينات أدت إلى فتح الرأسمال على عدة مستثمرين خارجيين حصل كل منهم على نسبة الأقلية وبقيت quot;شركة المحررينquot; المستثمر الداخلي مالكة لنسبة 43% من أسهم لوموند التي تحولت مع الوقت إلى مجموعة لديها العديد من الفروع والمساهمات. وكان جان ماري كولومباني الذي ترأس المجموعة منذ 1994 وحتى العام الفائت قاد سياسة توسع وتنوع أسفرت عن امتلاك quot;لوموندquot; للعديد من المطبوعات مثل quot;تيليراماquot; وquot;كورييه انترناسيونالquot; وغيرها، لكن تحقيق طموح التوسع تم عبر الاقتراض والديون التي بلغت 150 مليون يورو في حين تسجل عمليات التشغيل عجزا هيكليا في حدود 12 مليون سنويا.
وفي الواقع إن جذور الأزمة الحالية تعود إلى نهاية أيار (مايو) الماضي عندما رفضت شركة المحررين التصويت لصالح التمديد لبقاء كولومباني في رئاسة مجلس الإدارة وحصل على تعويض بلغ مليون يورو، بعدها تم اختيار فوتورينو ليحل بديلا عنه. وفي الوقت نفسه بقي رئيس مجلس الرقابة آلان مانك في منصبه إلا أن شركة المحررين لم تقبل باستمراره نظرا لاعتراض العاملين على صحة التصويت واضطر مانك تحت الضغط إلى إبرام اتفاق يلتزم عبره بالتخلي عن منصبه في نهاية مارس المقبل. والمآخذ على مانك تتعلق بكونه يعمل في الوقت نفسه مستشارا لعدد من كبار رجال الأعمال ويرى المحررون بأنه وراء حالة الفوضى الحالية وأنه يسعى إلى تقليص نفوذهم بهدف نقل لوموند إلى أحضان مجموعة لاجاردير التي يملكها صديق رئيس الجمهورية نيكولا ساركوزي، وبالتالي فإن إبعاده يضمن استقلال الصحيفة إزاء المساهمين الخارجيين والبقاء على مسافة نقدية من قصر الإيليزيه.
الجديد في هذه القضية أن إيريك فوتورينو تراجع عن استقالته في ما يشبه انشقاقا داخل الإدارة المستقيلة أو انقلابا على ألان مانك الذي يقال إنه يدير الخيوط من خلف الكواليس، وذلك كي تبقي لوموند quot;صحيفة الصحافيينquot; وكي لا يحدث فراغ إداري يستطيع مانك اغتنامه للتوجه إلى القضاء وتعيين مشرف قضائي على المجموعة. والمشرف القضائي هو الخوف الأكبر للمحررين لأنه قد يعمل على حل أزمات المجموعة عبر خطة تسريح العاملين أو فتح الرأسمال الذي يؤول في النهاية إلى تقليص حصة شركة المحررين وبالتالي زيادة نفوذ المساهمين الخارجيين، بما ينطوي على ذلك من مساس بحيادية التوجه التحريري.
فوتورينو لم يسحب استقالته فقط بل رشح نفسه كرئيس لمجلس الإدارة موضحا في افتتاحية وجهها إلى القراء بأنه لا يتوقع قبول ترشيحه لكنه وضع مجلس الرقابة أمام مسؤولياته، وفي الوقت نفسه توجه بشكل غير مباشر إلى المستثمرين مؤكدا أنه إذا وصل الرئاسية سيقود خطة تنقية مالية قاسية وأنه لن يكون رهينة شركة المحررين أو أي مساهم آخر، كما أعرب عن رفضه لفكرة زيادة رأسمال متسرعة تفقد الصحيفة هويتها. قرار فوتورينو لقي ترحيب العاملين في الصحيفة الذين لمحوا إلى إمكانية قبولهم بخطة تسريح لنحو 150 مستخدما بهدف امتصاص العجز الهيكلي للمجموعة، علما بأن ديونها تقلصت بعد بيعها مساهمات في مطبوعات أخرى بقيمة 90 مليون يورو كرست أكثر من نصفها لتسديد الديون.
عودة فوتورينو عن استقالته قد تنقذ المجموعة من وصاية قضائية تكون الأرباح والخسائر معيارها الأول، لكن مانك قد ينجح في التأثير على المجلس وعرقلة هذه العودة لتتراجع سلطة شركة المحررين وتتوقف لوموند عن كونها الاستثناء الأخير في الصحافة الفرنسية، أي عن كونها صحيفة قرارها بيد العاملين فيها. لوموند تعاني صعوبات مالية ولكنها ليست في حالة إفلاس كما يؤكد المحررون لكن القضية قضية صراع نفوذ ومال في المقام الأول. وأزمة لوموند تثير بالطبع شهية المستثمرين الخارجيين وفي مقدمتهم مجموعة quot;بريزاquot; الاسبانية المساهمة بنسبة 15% في مجموعة لوموند والمالكة لعدد من وسائل الإعلام الإسبانية وأهمها صحيفة quot;الباييسquot; الشهيرة، وطبعا هناك مجموعة quot;لاجارديرquot; التي تمتد نشاطاتها من الاتصال إلى الطيران مرورا بالإعلام والتي يعد مالكها آرنو لاجاردير صديقا شخصيا للرئيس الفرنسي. وتسعى المجموعتان على مايبدو إلى رفع مساهمتهما في لوموند عبر شراء نسبة من ديونها التي تستحق أسهما والبالغة 75 مليون يورو، وقد أشارت صحيفة الباييس إلى مباحثات بين الطرفين بهذا الخصوص قوامها أن تلعب quot;لاجارديرquot; دورا في الإدارة والتشغيل فيما تضمن quot;بريزاquot; استقلال الخط التحريري، لاجاردير أكدت عبر متحدث لها حصول تبادل وجهات نظر غير رسمي مع شركة المحررين المساهم الرئيس حول وضع لوموند الحالي وتطورها على المدى القصير والمتوسط، مؤكدا أن الأمر اقتصر على تبادل وجهات النظر. لكن فتح الرأسمال الذي تريده الإدارة المستقيلة وألان مانك يصطدم برفض شركة المحررين التي ستفقد موقعها كمساهم مرجعي إذ إن تحالف العملاقين يعطيهما في النهاية نسبة تفوق 55% في رأسمال quot;لوموندquot; التي اعتاد العاملون فيها على أن يكونوا أصحاب القرار في ما يخص مستقبلهم والتي بات مصيرها بين يدي مجلس الرقابة.
يشار إلى أن عدد العاملين في quot;لوموندquot; بكافة فروعها يصل 1600 مستخدم وأن ديونها بعد بيع جزء من مساهماتها تظل في حدود 90 مليون يورو وأنها تسجل خسائر تشغيلية للسنة السادسة على التوالي بسبب ضعف مواردها الإعلانية وشيخوخة جهاز تحريرها وتكلفة التوزيع الباهظة في فرنسا، علما بأن عدد النسخ التي تطبع يوميا من الصحيفة بلغ 312 ألف نسخة في عام 2006، مقابل نحو 400 ألف نسخة عام 1999.
ولا ينتظر أن تسهم الأزمة الحالية في تحسين توزيع الصحيفة الفرنسية الأكثر شهرة في الخارج، خاصة وأنها فقدت نسبة من قرائها منذ العام 2003 وهؤلاء يوجهون انتقادات بشأن حياديتها. كما ندد صحافيان سابقان فيها عبر كتاب حمل عنوان quot;وجه لوموند الخفيquot; بهيمنة كولومباني وألان مانك منتقدين أن يتقاضى رئيس التحرير 26 ألف يورو كمرتب شهري في مطبوعة تعاني الخسائر، ومنددين بالتوجه التحريري الذي حاد عن هدفه الأساسي استجابة لمصالح اقتصادية نفعية. يشار إلى أن نيكولا ساركوزي كان قد دعا في خطاب له أخيرا إلى منح مزيد من الحرية لرجال الأعمال لكي يطوروا صحيفة تعاني مشاكل مالية كبيرة اليوم، من دون أن يذكر لوموند بالاسم . ويأتي هذا الإعلان في ظل إحساس عام بمحاباة الصحيفة للرئيس الجديد الذي ربطته صداقة مع كولومباني الأمر الذي أدى إلى عدم إعادة انتخابه، لكنه سيطر بشكل كامل لسنوات وله بدوره أصابعه الخفية.
لوموند سارت منذ تأسيسها وفق توجه تحريري أميل إلى يسار الوسط، ميل توجه يساري واضح في بعض القضايا. خطها المعتدل وفتحها أبواب حرية التعبير جذب إليها كبار الصحافيين مثل أندرية فونتين. لكن الزمن يتغير والصحافة المكتوبة تجتاز أزمة اقتصادية تزداد حدة مع انتشار الصحافة الإخبارية الإلكترونية التي هاجر إليها العديد من الأسماء اللامعة في باقي دول العالم، هجرة بدأت حركتها تتضح في فرنسا. فبعد بيير حسكي صحافي ليبراسيون الذي أنشأ موقعا إخباريا، جاء دور رئيس تحرير لوموند الأسبق إدوي بلينيل الذي يعتزم تشغيل 30 من قدماء العاملين في لوموند. وحتى كولومباني يبدو أنه يفكر في إنشاء موقع يقول إنه سيكون مختلفا عما هو موجود في الساحة.
لوموند سارت منذ تأسيسها وفق توجه تحريري أميل إلى يسار الوسط، ميل توجه يساري واضح في بعض القضايا. خطها المعتدل وفتحها أبواب حرية التعبير جذب إليها كبار الصحافيين مثل أندرية فونتين. لكن الزمن يتغير والصحافة المكتوبة تجتاز أزمة اقتصادية تزداد حدة مع انتشار الصحافة الإخبارية الإلكترونية التي هاجر إليها العديد من الأسماء اللامعة في باقي دول العالم، هجرة بدأت حركتها تتضح في فرنسا. فبعد بيير حسكي صحافي ليبراسيون الذي أنشأ موقعا إخباريا، جاء دور رئيس تحرير لوموند الأسبق إدوي بلينيل الذي يعتزم تشغيل 30 من قدماء العاملين في لوموند. وحتى كولومباني يبدو أنه يفكر في إنشاء موقع يقول إنه سيكون مختلفا عما هو موجود في الساحة.
التعليقات