للكاتب: غبريال غرسيه مركيس
ترجمه عن الإسبانية عبد اللطيف بن سالم:
بمناسبة الزيارة التي سيقوم بها رئيس حكومة كولومبيا إلى فرنسا وما ستثيره من نقاشات في الوسط الإعلامي، ننشر هنا ترجمة عربية لمقال كتبه الروائي الكولومبي غبريال غرسيه مركيس (1) مطلع 1990، يسلط فيهالضوء على الوضع المتشابك في كولومبيا، وخصوصا حركة الفارك (القوّات المسلحة الثورية الكولومبية) كدولة داخل دولة، والتي أصبحت في الواجهة الإعلامية بسبب قضية الرهائن ومصيرهم الذي قد يسبب تنازلات دولية ومساومات دبلوماسية لا يرتضيها أحد.
في مطلع شهر أكتوبر كشفت الصحافة عن واحد من أكثر الأسرار التي بقيت طي الكتمان في كولومبيا. أجرى ممثّلون عن الحكومة ولمدّة سنة على الأقلّ محادثات غير رسميّة مع مندوبين عن مهرّبي المخدّرات. المبعوث الرسمي ينفي بينما يؤكّد مندوب المهرّبين صحّة هذا الخبر. الحكومة تعترف بدورها و بدون تعليق بحقيقة هذه المفاوضات.
وكما هو الحال دائمًا بالنسبة إلى هذه الحرب الغامضة في كلّ شيء، أطاحت إماطة اللثام عن هذه المفاوضات فرصة للتأكيد مجدّدًا على الحقيقة التالية : إلى أيّ مدى يمكن لتاريخ هذه الحرب أن ينزع إلى تكرار نفسه نحو العدم، في ظروف افتقد فيها الأمن منذ البداية، والى أي مدى يستطيع ان يثب عاينا بحدّة متجدّدة مفصحا في كل مرّة عن تجلّيات أكثر مأساوية.

أوّل محاولات للتفاوض من تلك التي استقطبت اهتمام الرأي العام تمّت في شهر مايو من سنة 1984 عندما قام بابلو إسكبار غفيريا زعيمquot; كارتل مِدلّينquot; بالاتّصال بألفونسو لوباس ميتشالستون في فندق ببنما قصد إبلاغه نيابة عن كلّ عصابات مهرّبي المخدّرات الكولومبية، جملة من المقترحات شبه رسميّة إلى الرئيس quot;بليساريو بِتنكورquot; يعدون بمقتضاها بالانسحاب من المتاجرة وبتدمير قواعد صنع وتسويق الكوكايين وبعودة رأساميلهم الهائلة من الخارج واستثمارها في الصناعة والتجارة الوطنيّتين مع إخضاعها لكافّة قوانين البلاد. أكثر من ذلك فقد وعدوا مقاسمة الدولة مهمّة تسديد الديون الخارجيّة العويصة، بالمقابل لم يطمعوا ولو في سنّ قرار عفو، بل كلّ ما كانوا يرنون إليه هو أن تتمّ مقاضاتهم في كولومبيا، وألاّ تطبّق في حقّهم اتّفاقيات التسليم التي أمضت عليها الولايات المتّحدة، والتي بدأت تنشط هذه الأيّام بعد سبات دام سنوات عديدة.

كان قرار العفو آنذاك عبارة عن موضة في كولومبيا، وبات مثل قطعة الحلوى يراود بها الرئيس بلساريو بتنكور كلّما أراد ndash;منذ بداية ولايته ndash; الحركات المسلّحة الرابضة بالجبال والأدغال منذ ثلاثة عقود. إذًا، ليس من الغَضاضة في شيء، والحال على ما هو، أن يطالب المهرّبون بدورهم بالاحتماء بمظلّة العفو والنسيان في ظرف أصبح فيه من غير الممكن إلصاق تهم خطيرة بهم في بلد لا يجرؤ فيه غير القليل النادر من أصحاب الثروات على الاعتراف بخطيئتهم الأولى.

في قبوله بارتياح لجملة تلك المقترحات لم يكن الرئيس بِتنكور إلاّ معبّرًا عن نهجه الداعي إلى الحوار. وقتها عاد الوكيل العام للجمهوريّة كارلوس خيمانس غوميز الذي مافتئ منذ سنة يجري محادثات مباشرة وسرّيّة مع المهرّبين قصد إيجاد حلول لتحقيق اتفاق مشرّف، عاد إذًا إلى اللقاء بهم مجدّدًا في بنما. بيد أنّه لم يثبت هذه المرّة إن كانت عودته قد تمّت بإيعاز من الرئيس أم لا، وحتّى إذا ما كان الأمر كذلك فليس هنالك من عيب. لكنّه لم يستطع، مع شديد الأسف، المضيّ قدمًا في مشاوراته. لقد أدانت صحيفة quot;التيامبوquot; بلقاءات 4 جويلية من نفس السنة معلّلة ذلك بتخوّفات الرأي العام من إمكانيّة حصول اتفاق في ذلك الشأن. وقتها اعتقد الرئيس بتنكور أنّه لم يعد في إمكانه سوى التراجع والتكذيب رسميًّا بوجود شيء ما يربطه بهذه القضيّة. والأسوأ هو أنّ الحكومة لم تتّخذ ndash;لا خلال المفاوضات ولا قبلها ولا بعدها ndash; ولو إجراءً واحدًا من شأنه أن يقدّم بديلاً للحوار : لا قرارًا قضائيًّا شاملاً، ولا إجراءً عسكريًّا ولا حتّى وضع خطّة محدّدة بخصوص مكافحة تهريب المخدّرات. وعلى مدى ستّ سنوات فوّتت البلاد، كما يتّضح الآن جليًّا، فرصة رائعة لتجنّب قسط وفير من الفظاعات التي تتألّم من جرائها اليوم.

ثمّة الآن مؤشّرات تبعث على الاعتقاد بأن المفاوضات قد أجهضت بدافع أميركي ولأسباب لا تمّت بصلة إلى تهريب المخدّرات، إنّما كان ذلك نتيجة الخطاب الهذياني المعادي للشيوعيّة للرئيس ريغان. أما الرجل الذي أُنيطت بعهدته مهمّة إفشال المفاوضات هو السفير quot;لويس تامبسquot; أحد أقطاب مجموعة quot;سانْتا فهquot; التابعة لليمين الرّيغاني المناضل. ولقد حلّ هذه الأيّام ببوغوتا وسط ضجّة إعلامية كبيرة حاملاً في حقائبه عبارة صالحة وجاهزة للزمان والمكان) ألا وهي quot; النركو غيرّيا aquot; Narco-guerill وبات من المؤكّد أنّ quot;تامبسquot;، من خلال جمله الأكاديميّة والإيحائيّة يعارض أوهام كلّ حلّ سلمي يتمّ عبر المفاوضات؛ أي أنّه بعبارة أخرى ينوي إلغاء زبدة نشاط حكومة بتنكور. و بالمقابل كان مهووسًا بالتنشيط الفوري للاتفاقية التي وقّعت عليها الحكومة السابقة، والتي تحتوي على البند المجحف القاضي بتسليم الأهالي. لقد لمّح السفير ترامبسََ مشحوذا في ذلك بقدرته الهائلة على التأويل- أنّ الولايات المتّحدة في قراءتها للاتفاقيات قادرة على تبيان أنّ مهرّبي المخدّرات وأفراد العصابات المسلّحة يشكّلون شيئًا واحدًا؛ ألا وهو quot;النركو-غريّاquot; بحيث لم يبق سوى إنزال الجيوش بتعلية الانقضاض على المهرّبين، بينما في الحقيقة يظلّ الهدف من وراء ذالك هو القضاء على حرب الغوّار. بحيث في نهايةالمطاف يغدو الشعب الكولومبي مهدّدًا بأكمله أن عاجلاً أم آجلاً باتّفاقيات التسليم.

هذا هو الانطباع الذي خلّفه لي السفير ترامبس إثر وجبة الغداء التي تناولتها برفقته لحدّ وصوله إلى بوغوتا بساعات قليلة. وقد أكّدت لي الأيّام ذلك عندما تمّ تعيينه في كستاريكا ليصبح أحد الأبطال المتميّزين في قضيّة إيران غايت بتقديمه يد المساعدة إلى العقيد quot;أوليفر نورثquot; في بناء مطار سريّ لفائدة الثورة المضادّة quot;الكونتراquot; النيكاراغويّة. وقد تمّ له ذلك بفضل مرابيح تجارة المخدّرات.
ما زلنا معشر الكولومبيين نتساءل إلى يوم الناس هذا عن الأسباب التي دفعت بالمهرّبين إلى المطالبة بهدنة، وعن مدى مصداقيّة طلبهم. وفي رأيي أنّهم كانوا صادقين في ذلك، والحجّة هي جملتهم الشهيرة التي أطلقوها يومئذ ndash;بصرف النظر عن تبجّحهم الخطابي، وهي: quot;نفضّل قبرًا في كولومبيا على زنزانة في أميركا !quot; ذلك أنّ ما يخشونه هو تطبيق اتّفاقيات الاستجلاب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أعتقد أنّ الأسباب العميقة التي تكمن وراء ذلك هي مخاوفهم الراجعة إلى مستواهم الثقافيّ، والتي ينبغي أن نأخذها بالاعتبار. فأصولهم الاجتماعيّة وكذلك طبيعة منشئهم لا تؤهّلهم البتّة للحياة خارج الوطن، وبالتالي فإنّ كنوزهم الهائلة لا تغنيهم ولا تسمنهم من جوع. إنّهم لا يستطيعون الشعور بالأمان ولا هم يقدرون على استثمار ثرواتهم خارج حدود البلاد. يرفضون الموت في السجن وهم يرقدون على مبالغ فلكية من الأموال كسبوها وعقدوا العزم على تبذيرها أحياء مع أصدقاء العمر. يتخاطبون بعامّية اللفيف ويأكلون وجبات quot;كريّولquot; مطبوخة في قدور خشنة. ما يقض مضجعهم الشيء الذي يفتقدون اليه: الأ وهي مكانة في المجتمع وانطلاقا ما يجب رفضه بشدّة هي الطرق الخاطئة و الحقيرة التي اعتمدوها في الظفر بتلك المكانة عندما فشلت اقتراحاتهم الداعية للمفاوضات.

إن دخول اتفاقيات التسليم في طور النسيان و نبذ المجتمع الكولومبي للمهربين قد وفر لهم فرصة سانحة ومتسعا من الوقت كي يبحثوا عن بدائل جديدة من أجل البقاء على قيد الحياة، وعليه لم يبخلوا عن قناعة في استخدام كل الطرق والوسائل في البحث على تلك البدائل. وأصبحت. فيما بعد قضيتهم quot;موضةquot; فتراهم يتصدرون واجهة الأحداث ويتمتعون بنوع من quot;حالة الرحمةquot; ويحظون بتعاطف شعبي أكيد بسبب ما يقدمونه من خدمات خيرية لفائدة سكان الأحياء القصديرية التي سبق لهم أن قضوا فيها طفولتهم متهمشين. وقد كان ن يكفي وقتها لمن يريد سجنهم ا ن يرسل بشرطي الدّائرة ليأتي بهم موثقين وبكل بساطة. فضلا على أن قسما لا يستهان به من المجتمع الكولومبي ينظر إليهم بعين الفضول وباهتمام هو أقرب منه إلى المجاملة من أي شعور آخر. فكثيرون هم الصحافيون والسياسيون وأصحاب المصانع والمتاجر وحتى الفضوليون البسطاء الذي يؤمون سهراتهم العادية التي تقام باستمرار في ضيعة نابوليس Napoles القريبة من مدينة ميدلّين حيث يرعى بابلو إيسكوبار حديقة حيوانات توجد بها زرافات وأفراس بحر من لحم ودم استجلبت من إفريقيا للترفيه عن الضيوف. وتتصدّر باب الضيعة الخارجي على هيأة نصب تذكاري الطائرة ثنائية المحرّك التي هرّبت شحنة الكوكايين الأولى إلى الولايات المتحدة.

ولم يكتف هؤلاء بالثروة بل أرادوا كذالك الاستلاء على السلطة السياسية متشجّعين في سعيهم برضاء الجميع وعدم مبالاة القضاء. لقد أنتخب إسكوبار نائبا مساعدا بمجلس النواب وكن يشرف على العديد من المؤتمرات حول حقوق الإنسان. أم كارلوس ليهْدر فكان يدير مراقص للشبان دون أن يبالي بالخسائر وهو الذي أقام أيضا نصبا تذكاريا لجون لينّون في مدينة أرميينيا واحدة من أكثر مدن كولومبيا بذخا ورفاه، علاوة على تأسيسه لتنظيم سياسي وإصدار صحيفة ذات توجه قومي يميني متشدّد تطبع باللون الأخضر تيمّنا بلون الحشيش. وأحيانا يحلّ بمجلس النواب محاطا بمسلّحين pistoleros و يقهقه ساخرا ملء شدقيه، ويرى جالسا برجلين ممددتين على مقاعد غرفة النّواب. أما خورخي لويس أتشوه المنتمي لـquot;كارتل مِدلّينquot; وخلبارتو رودرغس أوريخويله وهما الآن عدوّان لدودان فكانا يتجوّلان أين يحلو لهما في شتى أصقاع المعمورة بحثا عن الجياد الأصيلة وعن شركاء أوروبيين لإدارة أعمالهم القانونية. وكلاهما قد سجنا في إسبانيا حيث تم ترحيلهما ليطلق سراحهما من بعد في كولومبيا. في مثل هذه الظروف لم يجرؤ أحد من أصدقائهم السياسيين على تحذيرهم من مغبة التمادي في حملات التصفيات الجسدية، لا لكونها جرائم شنيعة فحسب، بل لأنها تشكل كذلك سياسة حمقاء سوف تجرهم إلى الهاوية أم عاجلا أم آجلا.
عصا الثار الغليظة
إن اغتيال وزير العدل رودريغو لاره بونّيه في شهر أفريل من سنة 1984 مثل أولى الجرائم الكبرى التي اقترفها الكرتيل. وللأسف الشديد لم يكن الرئيس بيتنكور صائبا في ما قام به آنذاك عندما التجأ لأول مرة إلى تطبيق اتفاقية التسليم التي كان يكرهها، ولعله ما يزال يكرهها في خلده. لقد اتخذ عندها ذلك القرار تحت ضغط الاتهامات التي كان يوجهها له الرأي العام بالتراخي، أو بدافع شخصي. لكن ما من شك في أن ذلك القرار قد اتخذ بسبب من غياب الأساليب القانونية الأكثر ردعا وفعالية. ولم يكن ليخطر بذهنه أن استخدام اتفاقية التسليم ستنقلب من قضية مبدئية إلى هراوة للانتقام والثأر.
ولم يطل الانتظار حتى اندلعت دوّامة العنف الجهنمية: ألقي القبض على كارلوس لهدر على إثر وشاية من داخل صفوف المهرّبين وهو يقضي الآن بأميركا حكما عجيبا بالسجن المؤبد و135 سنة إضافية. ثم تم في موفى شهر أكتوبر تسليم عشرين مواطنا كولومبيا وثلاثة أجانب مقيمين بالبلاد. ولم ينف المهربون من جهتهم مشاركتهم المعنوية في الاغتيالات التي بات من العسير حصر عددها باستثناء العملية لتي أودت بحياة وزير العدل لاره بونّيه والتي كانت السبب في اندلاع الحرب بينهم وبين الرأي العام. ما لا يقل عن 800 عضوا من الاتحاد الوطني بما في ذلك خايمه بردو لِيالْ مرشح الاتحاد للانتخابات الرئاسية وقع غدرهم في حملات الاغتيالات الشرسة. وقد شكل الاغتيال الذي لا تمّحي ذكراه لغيّارمو كانو رئيس تحرير صحيفة الـquot;إسبكتادورquot; فاجعة شخصية بالنسبة لي يعسر علي هضمها. مأساة أخرى لا تقلّ حدة هو بطشهم الذي استهدف الصحيفة التي مازلت أدين لها بالجميل لقضاء أجمل سنوات عمري بها كريبورتر. لقد وجد رجال قانون وقضاة يتقاضون مرتبات تمكنهم بالكاد من سد حاجيات العيش بما في ذلك تربية أطفالهم أنفسهم أمام خيارين: إما أن يرهنوا ضمائرهم أو أن يكونوا هدفا للاغتيال. ومما يبعث على الإعجاب والحزن في الآن نفسه هو أن ما لايقل عن الأربعين صحفيا وموظفا قد آثروا الموت على الانصياع إلى أوامرهم.

ما لا يستطيع المرء فهمه هو أن المهرّبين لم يتوقفوا حتى في خضم المجزرة عن عرض مقترحات وسبل للتوصل إلى حل قائم على الحوار بحيث بات عدد محاولاتهم السرية منها أو العلنية لا يحصى. لكن ما أظل متأكدا منه تمام التأكد هو لقائي في نهاية عام1985 بمبعوث عن بابلو إسكوبار في مكسيكو حيث عبر لي عن رغبته في أن تعيد الحكومة النظر في مقترح بنما مقابل إدخال تعديل غير متوقع ويتمثل في استعدادهم لتأجيل إلى ما بعد الاتفاقيات مسألة النظر في البند الذي ظل يشكل دائما حجر عثرة في المفاوضات، أي ذلك الذي يتعلق بقضية الترحيل. وقد فشل هذا التمشي شأنه شأن جميع المحاولات السابقة بالرغم من أن المحكمة العليا قد أعلنت بعد أشهر أن اتفاقيات التسليم تتناقض وروح الدستور، لكن ذلك كله لم يقلل من حدة المعركة. وليس من قبيل المبالغة الاعتقاد بأن الأسباب الكامنة وراء المجزرة قد بلغت درجة من الخطورة بات يخشى معها أن لن يكون بالإمكان أبدا أن يكشف النقاب عن أسرارها الحقيقية للرأي العام.

إنني أعتقد أننا لم نعر ما يكفي من الاهتمام لدرجة التعفن التي بلغتها الأوضاع السياسية والاجتماعية حتى غدت تربة خصبة تتلاءم وثقافة quot;الناركو- ترافيكquot; في كولومبيا العظيمة والشقية التي كابدت قرونا سطوة الإقطاع المتحجر وثلاثة عقود من حرب العصابات تستعص على الحلول ومن تاريخ طافح بحكومات بدون شعب. في سنة 1979 عندما قام الجنرال ا أمار طرّيخوس بزيارة إلى مزارع تربية البقر بمنطقة quot;السينواهquot; الواقعة بالكراييبي التابعة لكولومبيا فوجئ بالعدد الكبير من المدنيين المسلّحين الذين يرافقون أصحاب المزارع. وقد تذكر عندها أن السلفادور قد بدأت على هذا النحو لما كان عقيدا. لم يتمالك نفسه عن الإفصاح بذلك إلى رئيس كولومبيا، خوليو سيسار طرباي الذي أجابه بدون تردّد على لسان وزير الدفاع في حكومته: quot;في كولومبيا نعمل على حفظ الأمن العام و السلم الاجتماعيquot;. لم يكن أمارطرّيخوس مخطئا في كلامه فقد كانت هناك على بعد بضعة أميال من تلك المزارع المزدهرة بالقرب من نهر مغدلينا ميديو الأسطوري حالة على درجة من العفونة قد بلغت ذروتها خلال سنوات قصيرة جرّاء تشييد إمبراطورية موازية للدولة يحكمها quot;الناركو ترافيكquot;.

لقد أصبحت الكيفية التي بدأ على شاكلتها مثل هكذا وضع معروفة تاريخيا، وذلك عندما قامت القوات المسلحة الثورية الكولومبية FARC (2) التي تمثل الجناح العسكري للحزب الشيوعي في غضون الستينات بفتح جبهات عديدة لحرب العصابات في مغدلينا ميديو بهدف الدفاع عن الفلاحين العزل وحمايتهم من بطش ونهم كبار ملاكي الأراضي. لكن نوايا الفارك لم تلبث أن تحولت بكل بساطة إلى وسيلة لتمويل حربهم عبر أعمال الاختطاف والابتزاز والاستيلاء على أموال مربّي المواشي. من الطبيعي إذًا والحالة على ما هي عليه أن يسخط هؤلاء المتضررون نتيجة تفاقم سوء معاملتهم، أن يقوموا بتكوين ميليشيات مسلحة لم تتردد الحكومة في الاعتراف بها بوصفها مجموعات دفاع ذاتي. في ذلك الحين كتب صحافي عند زيارته إلى المنطقة: quot; تعلق الأمر في البداية بتصفية جسدية للشيوعيةquot;، لكن quot;لم تلبث إن طالت أيدي الميليشيات سارقي الدواب و نشازي القرى وحتى المتسولين والمثليينquot; بحيث غدا كل من نجا من مربّي المواشي يجد نفسه مفلسا أو مهددا من طرف تلك العصابات الخارجة عن القانون التي سلّحوها بأيديهم.

دولة في داخل الدولة
النتيجة كانت إن مربيي المواشي المفلسين ربطوا علاقات مع مهربي المخدرات الذين كانوا لهم بالمرصاد ينتظرونبتعطش نشوب أي نزاع جديد كي يتسنى لهم إنفاق فوائض ثرواتهم، ومن صلب هذا التحالف ستظهر إلى الوجود وبالتدقيق على ضفاف ما يسمى اليوم بالمغدلينا ميديو إمبراطورية شاسعة تبلغ مساحتها 50 ألف كلمترا مربعا، وهو ما يعادل ضعف مساحة السلفادور، إمبراطورية مدججة بالسلاح أكثر مما كانت عليه البلاد في سنوات شباب الجنرال طرّيخوص.
كان ذلك يحدث لسنوات عديدة على بعد 300 كلمترا من القصر الرئاسي وعلى مرمى حجر من الثكنة العسكرية. ولم يكن لهذا الأمر أن يغدو علنيا لو لم يرو جندي كان قد فر قبل بضعة أشهر أطوار الحكاية من أولها إلى آخرها.

وبفضل الأموال والتقنيات الجديدة والمهارة وروح الإقدام، إنقلب العنف من نشاط حرفي إلى شأن علمي تجلب من أجله الطواقم شبه-عسكرية وتقام له مدارس لتكوين الحراس يديرها مرتزقة يتم انتدابها من لندن وتل أبيب مقابل كميات هائلة من الذهب الخالص حسبما أقرّ به واحد منهم على الأقل قد أكد أن انتدابه تم بتزكية من سفارة بلاده الأصلية، ويدعى هذا المرتزق يائير كلان الذي غدا ذائع الصيت منذ سنة 1973 عندما قام على رأس فرقة من الكومندوس بتحرير رهائن طائرة مختطفة بمطار اللد. من هذه المدرسة تخرج مجرمون لم يتجاوزا سن المراهقة قد تم تجنيدهم بالضواحي الفقيرة للمدن الكبرى وانبروا ينشرون الموت في شتى أرجاء البلاد ويزرعون الرعب في قلوب الناس. لقد شاءت سخرية الأقدار أن يتحول ما كان مجرد تصور ذهني للثورة لدى الـquot;فارك. quot; إلى وقائع ملموسة على أرض الواقع؛ أي إلى ثورة حقيقية، لكن على عكس ما كانوا يحلمون به: عالم على حدة لا يشتمل على نظام ضمان اجتماعي فحسب بل وكذلك على أجهزة شرطة قانونية تسير وفق أوامر محافظين ونواب منتخبين بطريقة قانونية فضلا عن مشاريع للمساكن الشعبية وللصحة والتربية تتحدى في شكلها ومضمونها وجود الحكومة المركزية. بل وقد بلغ الأمر بقيادتهم الجريئة والمغرورة أن تقدمت بطلب تأشيرة قانونية من أجل بعث تشكيلة سياسية على أقصى أقصى اليمين يتجسد شعارها في صورة هدف بندقية قناصة. أما نحن الكولومبيون فلم نفتح أعيننا على هذا الواقع الأليم إلا بعد فوات الأوان.
فالدولة في داخل الدولة لم تقتصر فقط على سهول نهر مغدلينا الخصبة والمعروفة بحمرة شفق الغروب الرائعة التي ترتعش لها الأفئدة، بل إن سيطرتها قد تمططت وتسربت عبر خلايا الأمة وقد قال ملاحظ على غاية من الذكاء حول واقعنا هذا إن المجتمع الكولومبي بكليته بات مخدرا لا بفعل تعاطي الكوكايين ndash;الذي يبلغ والحق يقال درجة عالية من الخطورة- إنما نتيجة تعاطي مخدرات أكثر انحرافا، ألا وهو السعي وراء الكسب السهل. فالصناعة والتجارة والمصارف والسياسة والصحافة والرياضة والعلوم والفنون، بل قل الدولة ذاتها بما فيها من مؤسسات خاصة وعامة ndash;مع إمكانية حالات استثنائية قليلة جدا- قد تداخلت وتشابكت بطريقة أو بأخرى في نسيج من المصالح القائمة أضحى يخشى أن لا يستطيع أحد تفكيكه. صدق أو لا تصدق، فقد مثل في ظرف ثلاث سنوات ما لايقل عن المائة وسبعين ضابطا من الشرطة والجيش أمام العدالة. وما لايقل عن 25 رجل سياسة محترف ظهرت أسماؤهم في لائحة المنتفعين من المخدرات التي نشرت في الولايات المتحدة. كما تم العثور في حقيبة أحد المهربين على العديد من النسخ لوثائق سرية لمجلس الأمن التابع لامم المتّحدة. وحتى quot;خياناتquot; موظفي الدولة السامين التي ترتكب عبر جهاز الهاتف تسمع وتسجل دون أدب ولا حياء. وعلى إثر مداهمة أمنية لبعض البيوت فوجئ العديد من مواطنينا المحترمين جدّا وهم بصدد إبرامquot; صفقات غير شريفةquot;. ويوما بعد يوم أصبحت تلك الدولة في داخل الدولة كناية عن مارد من الصعب ردعه، متستّر لكنه كلي الحضور، ينسكب عبر كل شيء ويلوث حتى في ماوراء الحدود. ولعل الحكومة نفسها تجهل إلى أي مدى ساهم ذلك الفائض الهائل من الأموال فاقدة الهوية في التخفيف من حدة التوتر الاجتماعي.
ويقدّر ملاحظون شديدو الحذر حجم الاستثمارات المصرّح بها بما قيمته ألف مليون دولارا في العام الواحد. ولن يكون من باب المبالغة أن تكون القيمة الحقيقية لهذه الاستثمارات خمسة أضعاف ما تمّ التصريح به. بيد أن التقارير الصحفية تؤكد أن الرؤساء الثلاثة لشبكات تهريب المخدرات في كولومبيا يرقد كل واحد منهم على ثروة مقدارها 3 الاف مليون دولارا. وليس من المعقول أن تقتصر قدرة شرائية كهذه على التعلق العابر بالاشياء المادّية فقط، بل إنها استهدفت و نجحت في الإبحار في المستنقعات المظلمة للضمير والإرادة الإنسانية. ومهما يكن من أمر فقد اتضح أن امتلاك الأراضي هو ديدنهم وهاجسهم القوّي، وأكثر فأكثر من الأراضي. وقبل أيام قليلة أحيوا حفلا صاخبا بمناسبة اشتراء الهكتار رقم 180000، وكأنني بهم يريدون اشتراء خارطة البلاد بكاملها، بصقورها وبزرقة أنهارها وغدرانها وبلونها الذهبي كي يغدو من المستحيل على أي أحد بعدها أن يجتثهم من المكان الذين أبوا إلا أن يعيشوا فوقه. وسط هذا الواقع الجنوني دوّى صوت لويس كارلوس غلان مرشح الانتخابات الرئاسية مناشدا مرة أخرى التكفير عن خطايانا، كأمل بعيد لم يعد يؤمن به أحد. أما هلاكه الذي جاء على هيأة شبه طقوسية في الساحة العمومية وسط 18 حارسا مدرعا ومدججا بالسلاح فقد وضع الحكومية الكولومبية نهائيا وجها لوجه إمام مسؤولياتها التاريخية المرعبة.

وسوف لن تكون ردة فعل الرئيس برخيليو باركو، بالرغم من تأخرها، أقل حدة وحزما.
وعلى غرار الرئيس بتنكور جاء القرار الذي اتخذه في البداية متمثلا في تنشيط اتفاقيات الجلب المناقضة لروح الدستور، مشجَّعا في ذلك بالإمكانيات الخارقة التي وفرتها له حالة الطوارئ. وقد فوجئ المهربون بهذه الإرادة الحازمة وغير المنتظرة من طرف رئيس عرف باعتداله.

إن عمليات المداهمة الفجئية لقصورهم ومخابرهم المتنقّلة وطائراتهم وبواخرهم و أرشيفاتهم الفضائحية شكلت بالنسبة لهم ضربة على درجة من القسوة يصعب عليهم النهوض بعدها من جديد، وستنعكس حتما على معدل إنتاج وتسويق المخدّرات، بيد أنّ عدوهم الحقيقي يتمثل في طرائقهم التي ستدفع بالنهاية بالأمة قاطبة إلى الوقوف في وجوههم.
ومما يعد مفاجئا لدى الكولومبيين هي قدرتهم المدهشة على التأقلم مع كل شيء؛ مع الخير والشرّ على حد السواء. أضف إلى ذلك طاقتهم على الاحتواء التي تجاري عالم العجائب والغرائب. والبعض منهم ممن يتحلون بقدر عال من الصواب ليسوا واعين بالمرة بأنهم يعيشون في بلد من أخطر البلدان في العالم. وهذا أمر طبيعي بما أن الحياة تواصل مسيرتها اليومية وسط الرعب، بل لعلها أصبحت أغلى بكثير من ذي قبل، لأن البقاء على قيد الحياة قد أصبح في حد ذاته معركة يومية. ألم نر في يوم الأحد،وفي عشية اليوم نفسه الذي شيّع فيه جثمان لويس كارلوس غلان الذي تبلّدت لاغتياله الأوصال، كيف كانت الحشود تطير فرحا وهي تتوافد على الشوارع احتفالا بانتصار المنتخب الوطني لكرة القدم على فريق الإكوادور.
حرب دائمة:
لم يكن الإرهاب المدني ليشكل أبدا سوى عنصر نادر على مدى تاريخ ثقافة العنف الكولومبي. فالقنابل الفتاكة بالأبرياء والتي لا يحصى لها عدد والتهديدات عبر الهاتف قد فاقت في شكلها وفي مضمونها جميع العوامل الأخرى المخلة بتوازن الحياة اليومية. وقد أدت إلى توحيد جميع الناس، أصدقاء وأعداء أمام المصير المجهول الذي ينتظرهم. وحتى أسوأ الاغتيالات فقد كانت ترتكب بحد أدنى من الاخلاق لم يعد يحترمه الإرهاب المدني.

ربما يستطيع المرء أن يعيش بشعور من الهلع مما حدث، لكن لا أحد يستطيع العيش ممزقا بشعور الحيرة مما عسى أن يحدث كانفجار في المدرسة يمزق أجساد أطفاله، أو كأن يُقذف أحدهم بوابل من الرصاص وهو خارج من قاعة السينما، أو عبوة ناسفة توضع لأحدهم في سلة الخضار بينما هو يتجول في السوق، أو أن تفجر به الطائرة في الفضاء، أو أن تسمم العائلة بكليتها بماء الحنفية.
أبدا، لم يكن للإرهاب على طول تاريخ البشرية أن ينتصر ولن يكتب له الانتصار ولو في حرب واحدة من حروبه.
ومن جهته كان الرئيس برخيليو باركو يدرك تمام الإدراك أن الحرب ستكون شعواء، وأنها ستشكل بالنسبة له أصعب وأخطر المهمات خلال ولآيته الرئاسية، وذلك بسبب تعدد الخصوم وانتشارهم وبقائهم على حذر وعلى علم بكل ما يدور داخل مؤسسات السلطة بفضل عملاء و زبانيه سريين يتنصّتون إلى كل ما يقال، ويتلصصون على كل ما يحدث فضلا عن أن الإجراءات التي تتخذها الحكومة لم تكن البتة في مستوى حجم قوة العدو.

لقد اتهمت الولايات المتحدة كولومبيا بالتقصير في الحرب ضد تهريب المخدرات، بينما الكل يعرف بأن كميات المخدرات التي تباع وتشترى في مدنها أكثر بكثير من تلك التي تستهلك عندنا. كما أنهم يواصلون غض الطرف عن المتقاضين من مواطنيهم كلما وضعوا قوائم بأسماء المهربين، في حين أن عددهم كثير في بلد قد استهلك في السنة الماضية ما لا يقل عن 270 طنا من الكوكايين. وعلى أية حال فلقد اتضح في ساعة الحقيقة أن المساعدة التي يقدمونها لكولومبيا لا قيمة لها مقارنة بما تتقاضاه الثورة المضادة في نيكاراغوا، إذ بلغت تلك المساعدات في ظرف ثلاث سنوات قيمة ألفي مليون دولارا بين معلن وغير معلن، ما يحمل على الاعتقاد بأن المساعدة التي تقدم لكولومبيا لن تبلغ أبدا هذا المستوى، فيما يواصل الرئيس بتنكور إصراره ndash;وما من شك في أنه سيظل على موقفه ذلك- على رفض تدخل الجيش الأميركي حتى وإن اقتصر هذا التدخل على مهمة تصفية مهربي المخدرات.

كل ما سبق ذكره يحمل على الاعتقاد بأن الحرب ستكون طويلة الأمد ومدمّرة ودون مستقبل، بل والأسوأ من ذلك أنها ستكون دون بدائل إلا إذا ما برز إلى الوجود بديل فجئي وسعيد من نوع تلك الحماقات المشرقة التي أنقذت كم من مرة أميركا اللاتينية من الاندثار النهائي. إن لم يكن هناك حوار فليكن أي شيء آخر، لكن شريطة أن لا يودي ذلك بحياة أحد. حذار! فإما أن ننهي هذه الحرب التي لا تعرف نهاية أو أنها ستكون هي التي تنهينا وذلك بالقضاء على البلاد. هذا هو مع الأسف الشديد التكهن الوحيد الذي يخامرني كي لا أنهي هذا الخبر بخاتمة مفجعة.

هوامش:
1- اخترنا كتابة اسم العلم حسب النطق الخاص بأمريكا الجنوبية وليس حسب النطق القشتالي المتداول في شبه الجزيرة الإيبيرية
2- القوّات المسلحة الثورية الكولومبية
FARC: Fuerzas Armadas Revolucionarias Colombianas