في البدء، يجدر الاعتذار لقراء (إيلاف) عن تأخري في إرسال المقال الشهري لسببين: أولهما.. ان تداعيات أمطار جدة أحدثت في نفسي جرحا غائرا جعلني أعاف القلم وأعاف الكتابة عن تلك التداعيات حتى لا تتمادى أوجاعي.. وبطبيعة الحال فإن الكتابة خارج هذا الموضوع ndash; في ذلك الوقت ndash; كان يمكن أن تفسر بأنها استهتار بالحدث أو بمشاعر المتضررين والمكلومين.
وهو ما لا يمكن أن أقبله جملة وتفصيلا.. ولم يخرجني من تلك الحالة سوى البيان التاريخي لخادم الحرمين الشريفين الذي أعلن فيه عن تشكيل لجنة تقصي الحقائق بكل تفاصيله وحيثياته التي نزلت بردا وسلاما على جراح جدة وأهلها التي آلمت كل مواطن سعودي، أما السبب الثاني.. فتمثل في واجبات مؤتمر الأدباء الثالث وإطلاق القنوات الجديدة للتلفزيون السعودي.
ولقد تابعت في الصحافة والمنتديات ردود الفعل والملاحظات التي واكبت هذه المناسبات والمناشط بكل اهتمام وتقدير لأصحابها وكوادرها الذين أكرموا الوزارة بمبادرات قيمة وبناءة، فأحببت عرفانا بالجميل أن تكون محور نقاشنا اليوم.
لفتني في صحيفة (عكاظ) بتاريخ 22-12-2009 مقال الكاتب حمود أبو طالب (ليست واحدة ولا اثنتين.. بل أربع).. وكان كاتبنا العزيز موفقا ndash; كعادته ndash; في قراءة إطلاق قنوات القرآن الكريم والسنة النبوية والاقتصادية بحكم المركز الديني والاقتصادي الذي تتمتع به المملكة.
وكان مما جاء في مقاله عن القناة الثقافية ما يلي: quot;إن الشأن الثقافي في المملكة لم يعد ذلك الغائب أو الهامشي أو البعيد عن الساحة العربية، بل أصبح كبير التأثير فيها، وقد تجاوز بعضه الحدود العربية إلى العالمية، كما أن للمثقفين السعوديين تطلعات كثيرة لا بد أن تكون القناة قادرة على الاهتمام بها كمنبر حر راق لكل الأطياف والأفكار والرؤى quot;.. وإنني أتفق مع الكاتب في تأثير المثقف السعودي ونتاجه الإبداعي عربيا ومحليا وعالميا، وفي الحقيقة إن هذا التأثير هو الدافع الأهم لإطلاق القناة الثقافية وفق مضمون يمثل المثقف السعودي ويعبر عن آماله.. و في الوقت نفسه يتفاعل مع المشهد الثقافي العربي.
ومن اللازم هنا أن أشير إلى ما كتبه الكاتب القدير د. عبد الله مناع في صحيفة (الجزيرة) بتاريخ 20-12-2009 قال فيه : quot; إن (الثقافة) في مفهومها الخاص والعام.. هي (المسرح)، والسينما والتشكيل والتصوير والنحت والآثار.. وهي النصوص القصصية والروائية، وهي الشعر والموسيقى في أعلى تجلياتها، وهي الغناء في أرقى صوره.. وهي الندوات والحوارات الثقافية حول القضايا الإنسانية المعاصرة، وهي من بعد أخبار وقصص حياة كل هؤلاء المبدعين في مختلف حقولها. فهل ستستطيع قناتنا الثقافية الجديدة أن تقدم كل هذا أو بعضه؟quot; وهنا فليسمح لي أخي (المناع) بأن أرد على سؤاله بسؤال: ولم لا ؟!
أعلنت مرارا عن الثوابت التي أؤمن بها، والتي أعتقد أنها تمثل إجماع المواطنين السعوديين : الإسلام.. أمن الدولة ونظامها ورمزها.. الوحدة الوطنية.. والحوار، ومن وجهة نظري، أرى أن هذه الثوابت تعزز الحرية ولا تعيقها أو تكبلها، وأختلف صراحة مع كل من يتعذر بهذه الثوابت من أجل قمع التنوع ورفض الاختلاف في سبيل الأحادية والانعزال، إذًا.. فالقناة الثقافية تتحرك في كل فضاءات الثقافة بكل ثقة ودون تهيب بمركبة الثوابت ومنظورها.
وتنطلق القناة الثقافية، في عصر يتمتع فيه المثقف السعودي والمثقف العربي بنشاط متقد وحيوي أتاحه تطور علم الاتصال ووسائله الذي تجاوز مسألة التواصل إلى مرحلة التفاعل وصناعة المشهد الثقافي نفسه دون أدنى اعتبار للرؤية التقليدية التي تحاول عرقلة المثقف وشحذ القيود على ساحته ومشهده.

ورغم كل ذلك، أو في مقابله، تعاني شريحة واسعة من المثقفين ndash; في رأيي المتواضع ndash; من الحيرة أو التساؤل حول مقدار quot;التأثيرquot; و quot;الجماهيريةquot; التي تتمتع بها بعد أن زاحمتها في المكانة مواقع أخرى لم تكن تتمتع سابقا بمكانة اليوم في وجدان المتلقي والمجتمع كموقع quot;الفنانquot; أو quot;لاعب الكرةquot; أو quot;الداعيةquot; أو quot;الناشط quot; أو quot;رجل الأعمالquot; مع تمييزي للفوارق المعنوية والأدبية بين كل تلك المواقع.

هذه المواقع الجديدة، زاحمت المثقف إلى درجة التهام حصة كبيرة من مكانته ونجوميته التي وصلت إلى ذروتها في الربعين الثاني والثالث من القرن العشرين ثم بدأت في الانحسار، وإن كانت العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تتحمل النصيب الأكبر من هذا التراجع، فإن المثقف نفسه، يتحمل النصيب الأهم.
أول جوانب هذه المسؤولية، يتمثل في نخبوية الخطاب الثقافي في عمومه العربي وخصوصه السعودي، وأصبح المتلقي أو المجتمع ndash; أي غاية الخطاب الثقافي ndash; محل اهتمام هذا الخطاب بحكم المنطق والبيئة والتاريخ.. وفي الوقت نفسه.. محل نقمته.. بحكم التجاهل أو اللا مبالاة بعطاءات المثقف ونتاجه من قبل مجتمعه..
ثاني جوانب المسؤولية، تتجسد في الخلط بين البحث عن quot; التأثيرquot; والبحث عن quot;الجماهيريةquot;، وهنا يحق التساؤل عن مطلب المثقف في صناعة مجد شخصي وتحقيق الأهداف الخاصة عبر الجماهيرية، أو التأثير بمنجز وطني من أجل المصلحة العامة كما يعرف (المثقف) زكي نجيب محمود :quot; المثقف شخص يحمل في ذهنه أفكارا من إبداعه هو أو من إبداع سواه، ويعتقد أن تلك الأفكار جديرة بأن تجد طريقها إلى التطبيق في حياة الناس، فيكرس جهده لتحقيق هذا الأملquot;.
أما ثالث جوانب المسؤولية، فتتناول تلك العلاقة المعقدة والشائكة بين (المثقف) و(السياسي) في العالم العربي، فهناك من يتهم بعض الساسة بالعمل على تدجين المثقفين ومشهدهم، وهناك من يتهم بعض المثقفين بالتدليس على السياسيين وصناع القرار، وبين مطمع التدجين وتهمة التدليس.. لم يخسر إلا المثقف!
ورابع جوانب المسؤولية التي لا يمكن تجاهلها، حالة الاحتكاك المتواتر والمتوتر بين بعض المثقفين وبين الخطاب الديني، والتي يراها البعض تجديدا لهذا الخطاب، ويراها بعض أصحاب الخطاب استهدافا لهم ولموضوع خطابهم، ومرة أخرى.. لا يخسر إلا المثقف بسبب حساسية هذه النقطة بالنسبة للمجتمعات، بغض النظر عن الصواب والخطأ في تلك التصورات.
يتوازى كل ما سبق، مع ظهور مفكرين وباحثين بشروا بنهاية المثقف أو موته، وشكوى مستمرة من تدني معدلات القراءة في العالم العربي، ونواح لا ينقطع من تعاظم موجة الانحطاط والتسطيح التي طالت الفنون والذوق العام.. والتي أحيلت تارة على سطوة المعايير التجارية والربحية، وتارة أخرى على التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي غيرت إلى درجة كبيرة النسيج الاجتماعي والثقافي في المدينة العربية وما أحدثته تلك التحولات من عوارض ومن مظاهر.

إذًا.. فالمشهد الثقافي السعودي ndash; مثله مثل غيره ndash; يتأثر بالمحيط العربي ويؤثر فيه، لذا كان من اللازم أن تنطلق الثقافية وهي تراعي كل هذه الجوانب وتحاول معالجتها أو مناقشتها وفق المعايير التالية:

- إذا كانت الثقافية ستمثل المشهد الثقافي ومثقفيه، فالسؤال المطروح : تمثله أمام من ؟ والجواب.. أنها تمثله أمام مجتمعه السعودي الخاص ومحيطه العربي العام.
- وإذا كانت الثقافية ستمثل المشهد الثقافي السعودي، يعني بالضرورة، أن تمثله كما هو، بحسناته للحفاظ عليها، وعلاته من أجل معالجتها، بعيدا عن منطق الفوقية والشوفينية والمثالية.

- وحين نتحدث عن المشهد الثقافي السعودي، فمن الطبيعي أن نلاحظ ونراعي أن جيل الشباب يمثل الشريحة الأكبر من هذا المشهد.. وبالتالي فإن فريق العمل في الثقافية لا بد أن يتألف غالبيته من هذه الشريحة، وأن يركز على مخاطبتها بأدواتها ولغتها وأساليبها التي تعتمد على الإبهار البصري والتقني شكلا والتعبير عن همومها مضمونا، وحديثنا عن الشباب يوازيه حديث مماثل عن المرأة.
- وإذا كانت الثقافية تطمح إلى التعبير عن المثقف السعودي فمن اللازم أن تعبر عن طموحه وآماله كمثقف وأن تجسد حلمه كوسيلة هو موضوعها ومحورها.
- وإذا كانت الثقافية معنية بموضوع المثقف، فمن هو هذا المثقف ؟ باختصار.. هو المثقف الذي يبحث عن التأثير ndash; لا الجماهيرية - من أجل وطن أفضل.. ولا يتحقق هذا التأثير إلا بـ quot; تسويق quot; الخطاب الثقافي اعتمادا على معايير المحيط والمجتمع .. وفق الاحتياجات والتطلعات.. وليس بالضرورة.. وفق الرغبات.
- كما أن هذا المثقف، موضوع الثقافية، لا ينحصر في الأديب والمفكر والمحلل السياسي، ولكن يتعداه إلى كافة تجليات الثقافة ومناشط الحياة بتدرج مدروس.. وتوسع منطقي.
- وإذا كانت الثقافية تبحث عن المثقف، ضمير المجتمع، فمن الأولى، أن تكون هي، ضمير هذا المثقف الذي تبحث عنه.
- وإذا كانت تطمح في الإبحار والتعمق في فضاء الثقافة الواسع، فأي مدرسة ستتبنى.. وأي منهج ستتبع.. وهل هي وسيلة لتيار دون آخر.. أو فئة دون أخرى؟ وهنا يجدر التذكير، بأن الثقافية من غاياتها، أن تعبر عن مبادرة الحوار الوطني التي أطلقها خام الحرمين الشريفين منذ سنوات، وبالتالي.. فإن الثقافية تسير على منهج الحوار.. ومبدأ التنوع.. ووفق هذا المنهج وهذا المبدأ.. ليس هناك مجال للوصاية أو التفرد أو ادعاء امتلاك الحقيقة ومصادرتها.
وهنا أعود إلى كلمة خادم الحرمين في افتتاح الحوار الوطني الأول والتي منها : quot; أسلوب الإقناع ومخاطبة العقل أفضل من أسلوب المنع والحجب.. اختلاف الآراء وتعدد تنوع الاتجاهات وتعدد المذاهب أمر واقعي في حياتنا وطبيعة من طبائع الناس.. الحاجة أصبحت ماسة وملحة لأن نفكر سويا في أساليب جديدة لحماية ديننا ومواطنينا في إطار حوار هادئ ومنطق سليم يرتكز على تبيان الحجة واحترام الرأي الآخر وإتاحة الفرصة لتبادل الرأي والمناقشة quot;.
-وإذا أرادت الثقافية أن تتبنى شعارا ، فلن تجد أفضل من كلمة خادم الحرمين في افتتاح جامعة (كاوست) حين قال : quot;العلم والإيمان لا يمكن أن يكونا خصمين إلا في النفوس المريضة... لقد تعرضت الإنسانية لهجوم عنيف من المتطرفين الذين يرفعون لغة الكراهية، ويخشون الحوار، ويسعون للهدم، ولا يمكننا أن نواجههم إلا إذا أقمنا التعايش محل النزاع، والمحبة محل الأحقاد، والصداقة محل الصدامquot;.

وأود أن أثني هنا على اقتراح أخي (المناع) في مقاله المشار إليه حول الكفاءات المطلوبة من أجل الثقافية : quot; هذه القناة الثقافية الجديدة يمكن التغلب عليها (بشرياً) بابتعاث نخبة منتقاة من الخريجين الموهوبين إعلامياً وفنياً إلى فرنسا وإنكلترا.. في دورات تدريبية تأهيلية لستة أشهر أو أكثر، كما يمكن دعم هذه القناة ثقافياً وأدبياً وفنياً بثلاثة أو خمسة من المثقفين المستنيرين المعروفين بتوجههم الإعلامي عامة، والإذاعي والتلفزيوني خاصة ليكونوا (عقل) هذه القناة و(قلبها).. (روحها) المتفتحة و(وجدانها) الفنانquot;.
واضيف على ما قاله إنه من أهداف القنوات الجديدة على وجه العموم استقطاب الكفاءات السعودية المهاجرة أو المسافرة في الفضاء العربي الواسع حتى يستثمرها الوطن وتستثمره، وكذلك ضخ دماء جديدة إلى المشهد الإعلامي السعودي من المثقفين والموهوبين وخريجي كليات الإعلام في المملكة.
وعودة إلى ما كتبه د. حمود أبو طالب الذي تحدث في مقاله المشار إليه عن quot;غصب1quot; و quot;غصب2quot; وتمنيه طي أوراق الماضي الصفراء، وفي اليوم نفسه أي 22-12-2009 كتبت الكاتبة المتميزة أمل زاهد في صحيفة (الوطن) مقالها المعنون بـ quot; قناة للطقس يا معالي الوزيرquot; أمنية مماثلة بأن تعتمد القنوات الجديدة على البرامج الحوارية وإثراء التعددية حتى لا تصبح القنوات الجديدة غصب7 وغصب8!
والحديث عن غصب1 وغصب2 لا يخلو من مبالغة، إذا كان القصد ضعف المادة التلفزيونية بدليل نجاح العديد من الأعمال والبرامج التي عرضت بالتلفزيون السعودي في الماضي ورسوخها في أذهان المشاهدين حتى اليوم، ولعل هذه التسمية التي لا تخلو من الطرافة والمأسوية تعود إلى محدودية الخيارات أمام المشاهد ماضيا.
أما اليوم.. فالمتلقي هو صاحب القرار في تحديد ما يريد وما لا يريد من بين 800 أو 1000 فضائية عربية ولا يمكن أن quot;يغصبهquot; أحد على مشاهدة قناة أو عدم مشاهدتها سوى بمنطق الجودة والمنافسة، وهذا ما تسعى إليه باقة التلفزيون السعودي الجديدة حتى تصبح الباقة المفضلة للأسرة السعودية بمختلف شرائحها واهتماماتها دون إغفال تلبية العالم الإسلامي بقناتي القرآن الكريم والسنة النبوية، والانفتاح على المحيط الثقافي سعوديا وعربيا من خلال الثقافية، وإنني آمل مع أخي (أبو طالب) أن تستبدل سريعا الأوراق الصفراء الباهتة بأوراق خضراء وحيوية، أما اقتراح قناة الطقس للكاتبة (زاهد)، فلعلنا نستعيض منه موقتا بالعمل على تطوير نشرة الأحوال الجوية في قنواتنا الحالية إلى أن تنضج الظروف الثقافية والاجتماعية لمثل هكذا قناة.

ختاما، سأتفهم من يظنون أن الرؤية السابقة تغلبت فيها نبرة quot;الشاعرquot; على نبرة quot;الوزيرquot;، أو طغت عليها معالم quot;الحلمquot; بدلا من معالم quot;الواقعquot;، ولا أرى في ذلك بأسا، مع توضيح أنني أتحدث عن مستقبل يبنى بالعمل التراكمي والدؤوب ويخضع للصواب والخطأ، ولعل الأحلام والمشاعر تعيننا على الصبر من أجل تجاوز الصعاب والعراقيل.
بعد أيام أستكمل الحديث عن ردود الفعل حول مؤتمر الأدباء وتحديدا مقالات د. عبد الله مناع وعابد خزندار وناصر الصرامي وغيرهم.. فإلى اللقاء.
bull; وزير الثقافة والإعلام.