&&&&&&&&&&&&&&&&&&& وضاح شرارة

خلفت حوادث 11 ايلول (سبتمبر) في صفوف مناهضي العولمة وحركاتهم تردداً واضطراباً لم يتستر عليه بعض هؤلاء المناهضين الناشطين. فالتنديد المستميت والمرسل بما ينسب الي انتشار الانتاج والاستهلاك والتسويق والتمويل في أرجاء الأرض، علي معايير مشتركة وواحدة، بدا (التنديد) مكافئاً لما تنطوي عليه المجزرة الاميركية ، علي أرض الولايات المتحدة الاميركية، من ادانة وعنف فظيعين. وبدا كأن نسبة الشرور والكوارث كلها الي السوق الرأسمالية الطليقة من القيود (الوطنية أي السياسية والاجتماعية) علي التجارة وعلي انتقال الأموال، تسوغ أعمال القتل العمياء والجماعية، وتلقي تبعتها والمسؤولية عنها علي عاتق ضحاياها وهويتهم الاجتماعية (وهم من سبع وسبعين هوية وطنية مختلفة).
فذهب أحد ناشطي مناهضة العولمة الفرنسيين الي ان تعليل العمليات الانتحارية بـ الامبريالية الاميركية ، وحملها علي نتيجة غير مباشرة من نتائجها، تعليل وحمل بذيئان . ويذهب الناشط نفسه الي أن ربط الحادثة بـ الفراديس الضريبية والمالية، ولو كان من بعض وجوهه صحيحاً، تحريض غير مجدٍ. ولا يعود التحريض هذا علي مناهضة العولمة، والسعي في تقييد شططها بواسطة ضوابط قانونية (ضريبية) وسياسية بغير التوريط المعنوي والسياسي فيما لا ناقة لحركات المناهضة هذه فيه ولا جمل .
ومن وجه آخر، ينبه ناشط ثان الي ان الاعمال الانتحارية والارهابية ردت الاعتبار الي الدولة، والي فعلها (السياسي) في الحياة العامة. وهذا ما كان بدا أن الدولة استقالت منه، ودعتها حركات الاحتجاج الي استعادته، ومباشرته في الاطار الوطني. وعودة الدولة عن استقالتها، واستعادتها بعض ما تركته من فعلها وقرارها السياسيين، هما من بنود برنامج تقييد السوق الجامحة ومطاليب البرنامج هذا وحركاته. ولا شك في أن أخذ السياستين الاميركية والأوروبية (الاتحادية) ببعض بنود التقييد هذه يضعف شوكة المنطق الثوري و الانقلابي ، وغلبته علي مناهضة العولمة من قمة اقتصادية الي قمة أخري علي رغم تنويه بعض المقيمين علي المناهضة، وأشكالها السابقة، بآلاف المتظاهرين الذين توافدوا الي مدينتي لييج وجنيف، بعد 11 أيلول، وجددوا العهد علي مقاومة الجماح الرأسمالي.
ومهما كان من شأن المناهضة العالمية، ومصيرها الي قوة وتجدد أو الي ضعف، يستوقف المراقب اقدام مثقفين سياسيين عرب في هذا الوقت، وهو وقت ترجح نظر، علي إعلان انضمامهم الي مناهضة العولمة، وولادة محاولتهم استنفار الفئات كافة(...) واطلاق حركة قاعدية متميزة ، في هذا المضمار (بيان الولادة في صحيفتي النهار و السفير البيروتيتين، في 3 تشرين الأول/ اكتوبر الجاري). وأصحاب البيان، وهم عشرات من الكتاب والصحافيين والناشطين السياسيين المحترفين ، من لبنان ومصر خصوصاً، يركبون قطار مناهضة العولمة، أو هم يحجزون تذكرة مقعد في القطار، من غير مفاصلة أو مناقشة تتناول شروط الرحلة، أو وجهتها، أو تكلفتها، أو اجتماع المسافرين. فكل هذا يرجئه البيان الي الممارسة . وعلي هذه الممارسة أن تتكفل بأعباء بلورة معالم الحركة القاعدية المتميزة و رؤاها ، و بلورة فهم وخطاب عربي متميزين يسهمان، بدورهما، في اطلاق حركة عربية مناهضة للعولمة تنطلق من الواقع العربي .
وفي انتظار أمواج البلورة الآتية، والمحتكمة الي الممارسة (وأول غيثها البليل: مؤتمر عربي دولي، إطار عربي دائم للتنسيق وتبادل المعلومات، لجنة متابعة، ورش عمل، مؤتمر عربي، مهرجان احتجاجي، مسيرة نحو الجنوب وتجمع عند الحدود يبقي البيان عنوانه عند بوابة فاطمة سراً...) احتكاماً متواضعاً و قاعدياً ، ينصرف أصحاب البيان التأسيسي الي رسم رؤية عامة . وتردد الرؤية العامة أصداء بعض بيانات الأممية الثالثة في المرحلة الأخيرة من الرأسمالية وأزمتها القاتلة (في 1929). ولا ينقصها غير الاطروحة التروتسكية، في تقهقر قوي الانتاج العالمية، وضمُورها، واشتياقها المحموم الي قوي اجتماعية وسياسية تتولي تحريرها من عقال الأزمة الرأسمالية وقمقمها. وهي قوي جاهزة، أو طور الجهوز حال تشكيل لجنة المتابعة، وعقد ورش العمل، وعقد مؤتمر عربي، وإقامة مهرجان احتجاجي، والعودة من المسيرة المنطلقة نحو الجنوب والمتجمعة عند الحدود.
فـ فرض السوق كآلية وحيدة ، و تمركز رأس المال ، و انهيار الانتاج في القطاعات الأساسية ، وزيادة المديونية العامة ، و تعميم البطالة ، وارتفاع نسبة الأمية، وازدياد التفاوت في توزيع الثروات وتمركزها - وكل ذلك بفعل منظومة العولمة وتقدم سيادتها - يردد أصداء تحليل بوخارين، رفيق لينين المقرب، لـ الامبريالية .
وفي كل مرة تعزم الطلائع السياسية اليسارية الثورية علي بعث نفسها من الرماد، أو علي المصادمة الرأسية مع القوي الحاكمة والمسيطرة، تعمد الي إحياء نظرية الافقار (الرأسمالي) ، المطلق أو النسبي بحسب الظرف. ولا تعلُّق للوقائع بالأمر ولا مدخل لها فيه. فسبق للحزب الشيوعي الفرنسي أن شخَّص إفقاراً مطلقاً ، أصاب علي زعمه الطبقة العاملة والطبقات الكادحة الحليفة ، في النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين. وكانذلك إبان الانقلاب الفوردي، وتعاظم دور التوزيع والضمانات الاجتماعية والعمالة التامة، وزيادة الانتاجية، في تجديد الدورات الاقتصادية. ويوضع الكلام علي آلية السوق في مجتمعات تغلب المقايضة.
فالمقالة الاقتصادية في هذا المعرض والسياق مقالة دعاوية وظيفية وجهازية (ترمي الي انشاء جهاز، أو الي وصل أجزاء أجهزة متفرقة). وينبغي ألا تحمل علي غير هذا الوجه أو هذا المحمل. ويقتصر تحديث المقالة الدعوية هذه علي كبكبة حوادث قريبة، أو مصطلح جديد (مثل حقوق الانسان في البيان العتيد)، علي النواة القديمة والثابتة ( آلية السوق، تمركز، تخلع، تفاوت...). فنواة المقالة جاهزة. وهي تصلح لكل المضامير والمقاصد والخطط، الدعاوية والتنظيمية والنشاطية. ولا داعي يدعو حتي الي وصف راهن. فما سبق قوله في الاستعمارين القديم والجديد، وفي نمو التخلف ، لا بأس بتكراره، علي رغم تجارب الاتحاد السوفياتي العظيم ، والدول الاستقلالية و الوطنية ، و الانقطاع من الرأسمالية و الطريق اللارأسمالي الي الاشتراكية . فهذه كلها، ومعظم موقعي البيان التأسيسي من محازبي هذه التجارب القدامي ومتقاعدي حروبها الفتيان واليافعين، لم يبق منها ظل أو طيف، ولم تخلف جرحاً طفيفاً في لغة البيان أو نبرته.
فإذا التفت القارئ الي إلماحات البيان الحديثة والراهنة وقع ربما علي وظيفة الجهاز في المقالة المناهضة للعولمة علي زعمها (ويطرح البيان من ايماءاته المبهمة أخص بنود الحركات المناهضة للعولمة مثل الضريبة علي انتقال الأموال الحارة والمضاربة، وإلغاء ديون العالم الثالث، والتقد بمواثيق البيئة، وحماية الزراعات الغذائية...). فسياسات العولمة، علي زعم البيان، تسعر الصراع العسكري . ويحصي البيان ميادين التسعير ، فإذا بها العراق والصومال وأوروبا الشرقية و قلب المنطقة العربية .
وعراق بعث السيد صدام حسين وعشيرته بريء، علي هذا، من المصارعة العسكرية، داخلاً (المنازعات الدامية منذ 1958 الي حملة الأنفال علي أكراد والعراق في أواخر العقد التاسع) وخارجاً (في الخليج). وتبرئة السلطة العراقية من تبعات الصراع العسكري ، الداخلي والخارجي، عود علي رواية تاريخية تنازع سذاجتُها كذبَها، وتلقي مقاليد الفهم بين أيدي محترفي التضليل وموظفيه الأمنيين . والجمع بين العراق والصومال في رزمة واحدة إلغاز قد لا يفك إلا بحمل الاضطراب الصومالي علي ضلوع السادة معمر القذافي وحسن الترابي وأسامة بن لادن (من طريق سودان السيد الترابي يومها، في 1993) فيه، وفي اقتتال أسياد حربه وحرب عشائره.
فالثلاثة أرادوا الثأر للعراق المسلم والعربي غداة عدوانه وهزيمته. فكانت المجاعة الصومالية ميداناً منتخباً. وهذه المجاعة ترتبت علي انهيار نظام سوفياتي ، شأن مثيله وشبيهه في عدن، علي الضفة الثانية من البحر الأحمر، والحبشة ويوغوسلافيا. ولعل هذا، أي تداعي الأنظمة السوفياتية في الهزيع الأخير من عمر سلطنة ساحقة، هو السبب في ما يضمره أصحاب الرؤية العامة من ضغينة علي العولمة ، وهو السبب في تحريض ثأري بعيد من مقالات معارضة العولمة، ومن إيحاءاتها التقنية، في حال، و الشعرية واللعوب (الموسيقي، المسرح، القيافة، الاختلاط الجنسي والعرقي) في حال أخري.
فالسلطنة السوفياتية والحزبية الشيوعية أدخلت المجتمعات التي استولت عليها في حكمها وسلطانها من باب التدمير والتبديد، الماديين والمعنوين. وأخرج انهيارها هذه المجتمعات من الباب نفسه. وعلي قدر تماسك المجتمعات الداخلي، والتاريخي، كان ثمن الخروج باهظاً أو أقل إبهاظاً. فوسع بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر وشرق ألمانيا، علي أنحاء مختلفة، تصفية التركة الحزبية الشيوعية من غير حروب داخلية. ويدخل البيان اللامتعولم و اللارأسمالي البلدان والمجتمعات هذه في باب الصومال والعراق، مغفلاً عدن (و بقايا الحرب فيها) والحبشة، ومطرحاً إياهما من إحصائه الدقيق والثاقب.
ويدرج أصحاب البيان سقوط الاستبداد السوفياتي و النظام العالمي الجديد (المولود بمناسبة العدوان علي العراق ، وليس علي الكويت ورد القوات العراقية عنها) و النظام الشرق أوسطي و الشراكة الأوروبية المتوسطية في عقد واحد وسبحة واحدة. وهذه المرة ينقل الجهاز (أو نواته الطرية العود والغليظة اللغة) سلاحه من الكتف العراقية (والفلسطينية يومها، في 1990- 1991، وربما اليوم كذلك، في 2000- 2001) الي الكتف السورية ربما.
فكل ما يعرِّض الداخل القومي الي رياح العالم ومبادلاته وتداوله موصوم بوصمة قوي العولمة الرأسمالية ومرجعياتها ، علي قول البيان. ولا ينجو من الوصمة وعارها إلا حقوق الانسان . وهذه الحقوق تنسبها السلطة السورية، شأن العراقية والليبية والصومالية...، الي العولمة ، وتنزلها منها منزلة سلاحها الأمضي والأرذل. ونقاد العولمة السياديون، علي ما يسمون أنفسهم بأوروبا، ينكرون تقدم حقوق الانسان علي المواطن ودولته و حقوقهما .
فقد يكون الإلماح الي هذه الحقوق، في معرض وسياق لا محل لها فيهما، من بقايا لغة رتيبة اعتادت ان تستضيف مياهها الآسنة القشور التي يرميها العصر فيها، من غير تمييز. والبيان من أولاد العصر ، ومن سمات عصرنا ، علي حسب أسلاف هذا البيان من البيانات الحزبية والجبهوية والمؤتمرية والكونفرانسية والمركزية التي غيرت وجه التاريخ وهزت العالم.
فهو قرينة من قرائن متكاثرة علي تخلي بعض النخب الثقافية السياسية العربية عن عقلانية مبدئية كانت تملي عليها تناول العصر من غير اختصاره في صراع الشيطان والخير. فمعظم اصحاب البيان وموقعيه هم من شيوعيين او ماركسيين أو تقدميين سابقين او ثابتين. وعلي هذا يفترض المرء فيهم انتباهاً الي كثرة العوامل الفاعلة في حال مجتمعات برمتها مثل المجتمعات العربية. ويفترض فيهم بعض الدراية بالوسائط التي تتوسط الخروج من الحال القائمة الي الحال المرجوة، وبعض العناية بوصف الأحوال التي يُدعي الي الخروج منها، وبعض التشخيص لركائز هذا الخروج (ووسائطه كذلك).
والواضح ان هذا الافتراض لم يبق ذا موضوع، ولا يسعه التعويل علي العقلانية المبدئية التي ربما ورثها التقدميون فيما ورثوا. فمثال النظر الذي ينتصب اليوم، من غير منافسة منافس، هو المثال الإسلامي ، الخميني أو الحزب اللهي أو الجهادي أو الحماس... ويقوم هذا المثال علي اثنينية قاطعة تنفي الخليط والوسائط والتركيب مما تتناول، وممن تتناول نظراً وعملاً. وتنفي السياسةَ منه كذلك، وتنكص بالرأي واللغة الي مرتبة ادني من الإيديولوجية وتسويغها وجمعها وتأليفها بين عوامل مختلفة. ويفضي التحريض الثأري الي شعائرية فقيرة (التجمع عند الحدود في خاتمة المؤتمرات الموعودة) هي أقرب الي أعمال السحر ومحاكاتها. فلا يبقي إلا النفي الخالص والمدمر والمباشر مثالاً للعمل ونهجاً. فينتهي التقدميون العرب، أو هذا الشطر منهم، الي الانحناء أمام التيارات المدمرة التي تجتاح معظم المجتمعات العربية والإسلامية، والتسليم لها بالغلبة، وهم يرطنون لغتهم الاقتصادية السابقة، ويحسبون انهم يسهمون بـ علمهم في معركة مشتركة بينهم وبين من ينضمون إليهم. فيرفعون كل تبعة عن السياسات التي افضت الي الحال التي عليها المجتمعات العربية اليوم، وعن اصحاب هذه السياسات، وتواطؤ المجتمعات علي القبول بها، ويماشونهم في انكفائهم، وتسويفهم الأبدي، وتحجرهم علي سوء تدبيرهم وتسلطهم وجهلهم. فلا يأنف التقدميون هؤلاء من التحالف مع اهل النزعات الي التدمير الذاتي والانتحار الجمعي بذريعة مقاومة العولمة الأميركية و شياطينها . (عن "الحياة" اللندنية)


كاتب لبناني.

&&