&
&
&
جوزف سماحة : عندما ننظر إلى تنظيم القاعدة نشاهد في مرآة متحطمة صورة عن طموحات متحطمة. هناك من تراءى له، ذات مرة، أن في الإمكان جمع الثروة السعودية، والتخطيط المصري، والاندفاعة السورية، والنضالية الفلسطينية، والخيال اللبناني، والبراءة الخليجية، وشوق الانتماء المغاربي، والعناد العراقي، وسوى ذلك، في مشروع واحد أو، على الأقل، متجه نحو الوحدة.
وهناك من تراءى له، ذات مرة، أن في الإمكان مخاطبة سكان كينيا وتنزانيا في أفريقيا واستمالتهم، وتشكيل سند قوي لشعب أفغانستان المسلم، ورفع التحدي في وجه حكام باكستان الموالين، منذ عقود، لشتى أنواع التحالفات الغربية.
وهناك من تراءى له، ذات مرة، أن في الإمكان مخاطبة الجاليات العربية والإسلامية في دنيا الاغتراب من أجل تنظيمها، والحفاظ على روابطها بقضايا بلادها، وتحويلها إلى قوى ضغط حيث هي، والاستفادة القصوى مما تختزنه من علوم وثروات وتجارب حيث تقيم من أجل أن تساهم في نهضة بلدانها.
وهناك من تراءى له، ذات مرة، أن قضايا المنطقة مترابطة بدءاً من فلسطين، مروراً بالآثار الكارثية للتجزئة، وصولاً إلى ضرورات التحرر والديموقراطية والتنمية. وأن الأمة العربية، إذا توافقت على مشروع سياسي، يمكنها أن تكون القلب النابض لعالم إسلامي واسع يشكل رصيداً استراتيجياً لها وتشكل له سنداً ثميناً بحيث يمكنهما، معاً، أن يلعبا دوراً مميزاً في دول العالم الثالث أو دول الجنوب.
لا بل، يمكن القول، إنه بين 56 و67 كان ما تراءى للعرب يبدو في متناول اليد وأن هذه الأمة التي ظهرت حديثاً على مسرح الأحداث العالمية، مستقلة، ستتخذ مكاناً ملائماً لها ولطاقاتها.
غير أن هذا الطموح انكسر بفعل العدوان أولاً والقصور ثانياً. وما زلنا نعيش، منذ ثلاثة عقود، انهيارات لا يوقفها انتصار من هنا أو إنجاز من هناك.
وجاءت أحداث 11 أيلول، وقبلها إلى حد ما حرب الخليج الثانية، لترفع في وجوه العرب ما يسمح لهم بأن يشاهدوا حالتهم مطبوعة عليه.
أصبحت السعودية ابن لادن، ومصر أيمن الظواهري، والخليج سليمان أبو غيث، وبلدان المغرب زكريا الموسوي، ولبنان زياد الجراح، وناب عن كل بلد شخص أو مجموعة أشخاص.
وباتت الصلة، بأفريقيا مثلاً، كناية عن تفجيرات تأخذ عشرات المواطنين بجريرة بضعة أميركيين. وأصبح الوجود العربي في أفغانستان صنواً لشكل صعب التصور من التخلف. أما الجاليات فأصبحت شللاً سرية تزرع الرعب حولها وتخلط بين المذنب والبريء وتعجز عن إقامة حد أدنى من التواصل مع عالم سنعيش فيه ومعه إلى الأبد.
أما في قضية فلسطين فيتم التعويض عن بناء موازين القوى اللازمة لحسمها لصالحنا بأعمال استعراضية قد لا تفيدها إن لم تكن مضرة بها. وفي هذا الوقت ينتظر العراق ما سيحل به في المراحل اللاحقة من هذه المواجهة.
وبدل تجنيد الملايين، وتعبئتهم، وتحريك الكتل الهامدة، وزجها في السياسة، ودفعها إلى الإمساك بمصالحها وطرح المعضلات الحقيقية التي تواجهها الأمة، يتم تنظيم أفراد قلائل من أجل أن ينوبوا عن شعوبهم بحل مشكلات صعبة جداً أثبتنا، حتى الآن، عجزنا عن طرح الأسئلة الأولية في ما يخصها. ناهيك عن تقديم أجوبة.
إن هذه الإنابة، وهي عمل تشويهي بامتياز، لا يمكنها أن تعبّر عن نفسها إلا بما شاهدناه في نيويورك وواشنطن. وهي، إذ تدل على أن شيئاً ما ما زال حياً فهي لا تفعل سوى القول إن حشرجة ما تعتمل في هذه الجثة. غير أن الحشرجة لا تعني أن الجثة جسد حي أو قابل، في الشروط الراهنة، لحياة سوية.
لقد شهدت منطقتنا سجالات عديدة. وهناك من أفنى حياته يرفض النزعة <<الخرابوية>> التي تعتقد بأن التدمير فعل عظيم، وأن أملاً كبيراً يقف عند منعطف <<الخراب الجميل>>. ومع ذلك فليس أسهل، باسم إحباط مقيم، من السقوط في الفخ مرة أخرى، ومن الاعتقاد بأن في إمكاننا بناء عمارة النهضة العربية بأنقاض البرجين الأميركيين.
إن النزعة <<الخرابوية>> ضد السياسة تماماً، هذا إذا كان معنى
السياسة العمل من أجل حياة أفضل. أما إذا تملكت <<الرؤيوية>> الأفكار وتجذر الاعتقاد بأن تغيير العالم وتغيير موقعنا فيه مرهونان بأعمال استثنائية تنقلها الشاشات فهذا يعني أننا نواصل الانحدار. غير أن مأساوية هذا الانحدار تصبح في انعدام وعينا له، أكثر من ذلك. إن انعدام الوعي يكاد يكون أفضل من الوعي الذي يُراد له أن يسيطر ما دام يدعونا إلى الفرح العارم في اللحظة نفسها التي يتضح فيها كم أن القعر الذي أصبحنا فيه عميق.
يجب أن نعترف بأن الشعوب العربية تكاد تكون مستقيلة من السياسة. هذا ليس ذنبها. إنه مسؤولية النظم الحاكمة، والنخب الكسولة، وجذرية المشاريع الأجنبية المعادية. والعودة عن هذه الاستقالة لا يمكنها أن تتم عبر طريق مختصرة، فهذه الطريق خدعة برغم روعة المشهد الذي تتيحه لبرهة. فعندما انقشع الغبار عن البرجين شاهد البعض ركام الهيبة الأميركية في حين أن ما ظهر فعلاً هو ركام القدرة العربية.
لقد تمّ تجويف الوضع العربي على امتداد عقود. ولذا فإن استعادة المبادرة، بدءاً بوقف الانهيار المتمادي، جهد جبار يلزمه تراكم صبور ودؤوب ومديد. ولنا، في لبنان، تجربة توضح كم أن استئناف قدر من الحيوية صعب بعد امتحانات الحروب الأهلية. وما يصح على لبنان يصح، أكثر، على كل بلد عربي وعلى المنطقة كلها. وربما كانت الانتفاضة الفلسطينية، في بعض جوانبها، استثناء يثبت القاعدة. والقاعدة، هنا، هي غير تلك التي تحيلنا إلى المسخ الذي يعبّر، رغم كل شيء، عن طموحات كانت لدينا وما زالت دفينة فينا. إن قدراً كبيراً من الخجل، لحظة الانبهار بابن لادن، ضروري. فهذا الكائن هو الابن الشرعي لفشلنا أكثر بكثير مما هو <<ربيب>> سابق للمخابرات المركزية الأميركية وللسياسات الأميركية. ليس صحيحاً أنه نجح حيث لم ننجح. الصحيح أنه <<نجح>> لأننا لم ننجح. وليس من حقنا، بعد عقود الهزائم، أن ننتظر مكافأة. ولكن من واجبنا ألا نعتبر إنجازاً ما هو، في الحقيقة، تنفيس عن الاحتقان التاريخي الذي نعيشه، وهو احتقان لا تنفع معه خطابات رجل الكهف.(السفير اللبنانية)