إن الرجل الحازم في ضبط الأمن وزيراً للداخلية كان ينفذ ضوابط إسلامية واضحة لا مجال للاختلاف عليها حفظاً لأرواح الناس وأعراضهم وأموالهم في بلد هو الوحيد الذي يتعامل مع النص الإسلامي في كل شؤون حياته في موقع القيادة الأولى، ملكاً عُرف بخادم الحرمين قد أصبح يتعامل مع مفاهيم أخرى للأمن لا تكيف ضوابطها نصوص معروفة سلفاً لأن أمن الإطار الوطني ومثله الأمن الاقتصادي محاطان بأمن العلاقات عربية ودولية حيث رياح المصالح محلية وعربية ودولية وحدها ما تستجد به نصوص تبتكرها متغيرات الساحة العالمية.. وقد عاصر خادم الحرمين الملك فهد زوابع مخيفة لتوجهات تلك الرياح ولكنه بأناة متمرسة استطاع أن يحافظ على الثوابت السعودية وأن يعطي عهده إضافات كبيرة لا يمكن إنكارها. إذا كنت في المقال الأول قد فضلت استعراض مرحلة بناء أساسيات التنمية وتأهيل بلد البداوة والقرية في عصر طفرة النفط كي يتجه نحو موقع حضاري مرموق بين أمم أخرى بعضها في العالم العربي قد عرف التعليم الجامعي قبل بداية القرن العشرين في حين أن المملكة لم تكن قد تعرفت بعد على التعليم الابتدائي، فإنني بتلك البداية أردت الإشارة بوضوح إلى أن الملك فهد في مسؤوليته التاريخية لم يتعامل مع أمانة ركود تخلفي كما في الصومال مثلاً ولكنه اضطلع بأمانة الدفاع عن مكتسبات حضارية لعب هو شخصياً دوراً بارزاً ومعروفاً في مرحلة التأهيل لها، بمعنى أن وزير المعارف الذي كبرت في عهده المدرسة الابتدائية لتكون مرحلة متوسطة تحلم بالوصول إلى المستوى الجامعي، فإنه هو نفسه الذي قاد الدفاع عن سلامة كثافة الحضور العلمي الجامعي ومراكز البحوث، ومواقع الصناعات وتعدد التوظيف الاقتصادي لانتاج النفط وابتكار أسلوب لم يحدث عند آخرين حين مارس توزيع الثروة الفائضة على الناس عبر قروض، بدون أرباح في مجالات الزراعة والعقار والصناعة.. إنه وطن "له قيمة" خارطة لا تعرف انثيالات الرمال، وتمدد سلاسل الصخور، ولكنها لوحة تضافرت جهود جيلين أو ثلاثة كي ترسم عليها ملامح جمال أخاذة لقدرة إنسان خارقة في تغيير ذلك الجمود البارد إلى صخب ساخن من اندفاعات الحياة.. هذا الرجل الذي احتضن رعاية أمانة بمثل هذا الحجم كان يفيض "أبوة" في تعامله مع كل فئات الناس وبالذات مع من يمكن أن نقول عنهم أصحاب وجهات نظر مع الدولة.. لم يمارس ما يعرف بإرهاب الدولة وهو ما تفننت به دول عربية كثيرة في تدبير عمليات الاغتيال والإبادات العائلية، فقد فتح حواراً مع كل أصحاب وجهات نظر مختلفة معه أو مع الدولة لكي تصبح المملكة بلداً يتحرك بضمير واحد وإن اختلفت وجهات النظر ولم تعرف المجتمعات الغربية تجمعات ما يعرف بالمعارضة المهاجرة مثلما هو حال عدد من الدول العربية في مقدمتها العراق وأذكر ذات مرة أن المسعري نظم مظاهرة عند مدخل فندق الدورشستر حيث كان يقام حفل لتكريم مسؤول سعودي كبير وعند الدخول تفحصت في وجوه ذلك العدد الذي لا يتجاوز العشرين ولشد ما أذهلني انهم جميعاً من جالية عمالية آسيوية في لندن جاهزة لمثل هذه الحالات.. وعندما اندلعت حرب الخليج وقبيلها نشط في الداخل بعض المتطرفين في الإرجاف بأن القوات الأجنبية تدنس الحرمين حتى بلغ الأمر إلى التخاطب معنا في "الرياض" عبر الفاكس بمثل تلك الاعتراضات.. فلم يملأ الرجل السجون منهم ولكنه أدار الحوار مع من هو قابل للحوار الأمر الذي جعل المملكة وفي مناسبات أخرى البلد الوحيد تقريباً الذي لم يتعرض لأي مصادمات دموية، وأسماء معينة أرادت شق الصف الوطني أو استغلال التسامح إذا قيل إنها سجنت للتحقيق فلا يجرؤ أحد أن يبرهن على تصفية فردية أو عائلية مثلما عند الآخرين.. وبمناسبة الحديث عن حرب الخليج فإنها مناسبة هامة لكي نتعرف على جانب أخلاقي عند الملك فهد ـ وآخر عند صدام حسين.. الملك فهد تعامل مع جار وصديق وأخ عروبي ومسلم بكل ما تتطلبه الثقة من اطمئنان وبكل أيضاً ما يتوقع من وجود شعور بالعرفان بالجميل لدى الطرف الآخر حين تم انقاذه من الغرق في أهوار الفاو بفعل تفوق الجيش الإيراني، لكن ما حدث هو ذلك النوع من الغدر الذي مارسه صدام حسين وكان مفاجئاً ومذهلاً جعل الملك فهد ينتظر قبل اتخاذ أي قرار لمدة تزيد عن اليومين رغم اقتراب الجيش العراقي من الحدود السعودية لأنه لم يتصور أن يكون هناك عقوق في مثل ذلك الحجم، وغدر في مثل ذلك المستوى. هذا الجانب الأخلاقي ينعكس أيضاً على موقف سياسي آخر حيث كان مشروع الأمير فهد للسلام هو خطوة مبكرة لصياغة تصور عربي يطالب بحقوق الفلسطينيين عبر مشروع سعودي دولي، وعندما مرت أحداث مختلفة متباينة منها الخطوات الدراماتيكية التي أدت إلى سلام منفرد لبعض الدول العربية في ذروة خلافات تصاعدت آنذاك، ثم ما لبث الموقف العربي أن تقارب متضامناً في سنوات لاحقة نجد أن المملكة ما زالت الدولة الأبعد عن فتح أي نافذة لإسرائيل والدولة الأكثر إلحاحاً في المطالبة بحقوق الفلسطينيين وهي أيضاً الدولة الأكثر استهدافاً للسببين السابقين من حملات الإعلام الصهيوني في الغرب.(الرياض السعودية)