سمير عطا الله -امس الاول وقف الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى جانب الرئيس الاميركي جورج بوش في البيت الابيض. كانت هذه ثاني مرة يأتي فيها شيراك الى واشنطن منذ 11 سبتمبر (ايلول) ليعلن ان القوات الفرنسية التي تقاتل الى جانب الاميركيين بلغ عديدها الفي رجل، وهي الى ارتفاع. ولكن برغم كل هذه المظاهر فإن العلاقة الاميركية ـ الفرنسية تمر في ازمة عميقة. كالمعتاد. فالاميركيون يشعرون ان التأييد الفرنسي غير حماسي وغير كاف، وان فرنسا تحاول ان تبدو بعيدة عن المواجهة، فيما تندفع بريطانيا، بل بالاحرى تتقدم الجميع. وبرغم رحلتي شيراك الى نيويورك وواشنطن خلال شهرين، تبدو فرنسا مترددة او متعثرة. وهذا يثير حفيظة الاميركيين ويعيد الى الاذهان توترات العلاقة منذ مجيء الجنرال ديغول الى السلطة العام .1958 فمنذ ذلك الوقت حصل اكثر من اصطدام بين الدولتين، احياناً على المستوى الاستراتيجي، عندما طالبت باريس بخروج مقر الحلف الاطلسي (الناتو) الذي خرجت منه فرنسا ولم تعد اليه الا مع مجيء فرنسوا ميتيران. ووجد الفريقان نفسيهما في حال تصادم ايضاً حيال العلاقة الفرنسية الخاصة مع العراق، وهو امر حسمته بغداد على طريقتها الشهر الماضي عندما رشقت العلاقة بتعابير الطرد. وكانت الساحة الثقافية حلبة صراع رئيسية اخرى. فقد شعرت فرنسا ان الثقافة الفرنسية تنهار امام العولمة الاميركية، فيما شعرت اميركا ان الفرانكوفونية جبهة موحدة لصدّ الاندفاع الانكلوسكسوني حول العالم.
وقد قامت حروب صامتة، او غير معلنة، كثيرة، بين البلدين في معارك السعي الى النفوذ والمحافظة على الوجود التقليدي. وابرز ساحات تلك الحروب في الجزائر، وفي لبنان خلال الحرب الاهلية، وفي افريقيا الناطقة بالفرنسية. وكانت فرنسا ترى شبحاً او اشباحاً اميركيين في كل مواجهة خفية، بينما كانت اميركا ترى شبحاً فرنسياً يلاحقها الى كل مكان لكي يقف في وجهها. وبرغم تغير اساسي في السياسة الفرنسية ايام ميتيران، فإن واشنطن لم تطمئن تماماً الى مشاعر الفرنسيين ومواقفهم. فالمسألة ليست على مستوى العلاقة الرسمية فقط، بل هي الشكوى في مشاعر الفرنسيين انفسهم تجاه المدّ الاميركي. فالصحف والفنون والمسارح والسينما الفرنسية تعامل هذا المد بالسخرية او الازدراء. ويعرب الفرنسيون عن ارتياب في نيات اميركا حيال اوروبا برمتها، كما حدث خلال حرب البلقان.
وسواء كان الاطار الاوروبي ذريعة لفرنسا او هو مانع حقيقي، فإن بريطانيا قررت التحرر منه ومن التزاماته السياسية لكي تشكل مع واشنطن حلفاً يتخطى الضوابط الاوروبية، من العراق الى كوسوفو الى افغانستان. وفيما تأخذ فرنسا في الاعتبار حساباتها الاوروبية، تضع بريطانيا جانباً اي اعتبار إلا التحالف المطلق مع اميركا.
والآن برز عامل آخر في اطار العلاقة الفرنسية ـ الاميركية هو العامل الالماني. اذ الى حين مجيء الهر غيرهارد شرودر، كانت العلاقة الخاصة بين بون (الآن برلين) وباريس في طبقة فوق الطبقات الاخرى. فقد خرجت المانيا (او أُخرجت منذ كلنتون) من العلاقة الاولوية مع واشنطن وحلت مكانها بريطانيا. وهكذا انصرفت باريس وبون الى تمتين العلاقة التي لم تكف عن التقدم منذ المصالحة الشهيرة بين الدولتين في الستينات. الآن يبدو مع شرودر ان هناك متغيرات كثيرة. فالمستشار الالماني يسافر في المواجهة الحالية الى الهند وباكستان. ويقرر ان يرسل 3900 جندي الى افغانستان، خلافاً للتقليد الالماني القائم منذ الحرب. وفي المقابل يبرز تردد الرئيس الفرنسي الذي لم يكلف نفسه اي مهمة اخرى في التحالف خارج العلاقة الثنائية.
يعكس تحليل اخباري في "الهيرالد تريبيون" من باريس (6 نوفمبر 2001) نوعاً من التذمر الاميركي من "التلكؤ" الفرنسي. وترى الصحيفة ان خلف الصمت والابتعاد الفرنسيين عاملين رئيسيين: الاول، الانتخابات الرئاسية المقبلة في الربيع، والثاني مراعاة الجالية المغاربية في فرنسا البالغ عددها 5 ملايين شخص. ومعروف ان المرشحين الرئيسيين حتى الآن، هما شيراك ورئيس وزرائه ليونيل جوسبان.
وقد اصبح الموقف الفرنسي مطروحاً داخل فرنسا ايضاً. ففي خلال مناقشة تلفزيونية بين وزير الخارجية هوبير فيدرين والمفكر برنار ـ هنري ستراوس، ليلة الاحد الماضي، قال الاخير ان طوني بلير يلعب دوراً "افضل" من شيراك وجوسبان. وتساءل لماذا لم يظهر الزعيمان الفرنسيان على شاشات التلفزيون العربية كما فعل بلير من اجل التأكيد على الفارق بين الاسلام الحقيقي وبين الارهاب. واجاب فيدرين بأن بلير قام حقاً بعمل جيد لكنه بالغ في تقدير حجم دوره كما ان الصحافة البريطانية وصفت بعض رحلاته الى العالم العربي بأنها فاشلة.
فيما تحاول بريطانيا والمانيا "تمييز" دورهما بالاقتراب من اميركا، تحاول فرنسا ابقاء الطرقات مفتوحة مع الجميع. فالرئيس شيراك لا يكف عن المطالبة بحل سياسي في افغانستان، كما لا يكف عن التشديد على ضرورة قيام الدولة الفلسطينية في صورة عاجلة، وفي الوقت نفسه فإن القوات الفرنسية المشاركة في العملية الافغانية لا تتعدى كونها قوى استطلاع وتموين، وكل ذلك يثير الاميركيين الذين يرون انفسهم، من ناحية اخرى، محاطين بحليفين لا يتعبان. فالهر شرودر يكاد يخرج من اوروبا من اجل ان يؤكد حماسه لموقف واشنطن. وهو ـ مع وزير خارجيته ـ يقوم بدور غير مسبوق في الشرق الاوسط، في حين ان بلير كان اول من "وعد" بالدولة الفلسطينية.
مرة اخرى تتحول مواجهة اميركا العسكرية مع دولة ما، الى خلاف سياسي مع فرنسا. دولة تشد بالعالم الى الاطلسي، واخرى تشد به الى المتوسط. انه قدر العلاقة بين دولتين تنتمي كل منهما الى تحالف واحد وحضارتين مختلفتين.(الشرق الأوسط اللندنية)
&