&
&
اذا كانت الضحية الاولى للحرب هي الحقيقة، كما يقول المثل الشهير، فإن الضحية الثانية ربما تكون الادراك السليم. وهو ما يؤكده تقدم العديد من العقلاء هذه الايام، بآراء ومشاريع تتعارض مع الادراك السليم.
فالسناتور جون مكين يعتبر عادة احد الشخصيات الهامة في المجال السياسي الاميركي. فهو من ابطال حرب فيتنام ويعتبره العديد احد اعضاء مجلس الشيوخ الاميركي القليلين الذين يفهمون طبيعة الصراعات العسكرية. وبالرغم من كل ذلك فقد نشر مقالة يدافع فيها عن غزو شامل لأفغانستان مع الاحتفاظ بها الى ان يتم تأسيس نظام ديمقراطي فيها.
ولو ان السناتور القى نظرة على الخريطة لاكتشف بعض الصعوبات التي سيواجهها اقتراحه: من اين سينطلق الغزو؟ فأفغانستان دولة مغلقة لا تطل على بحار ولذلك فلا يمكن غزوها من البحر.
وباكستان لا تدخل في الحساب لان المناطق المتاخمة لأفغانستان التي يعيش فيها اغلبية من البشتون معادية لأية عمليات عسكرية اميركية، ويمكن ان تجر أي قوة اميركية لحرب انتقامية داخل باكستان نفسها. كما ان ايران بعيدة عن هذا الاحتمال لأسباب معروفة وواضحة. وبالنسبة للصين، فإن حدودها القصيرة للغاية مع افغانستان هي واحدة من اكثر المناطق الوعرة التي يصعب الوصول اليها في العالم. وماذا عن الغزو من تاجيكستان واوزبكستان وتركمانستان؟ المشكلة هي ان المناطق الافغانية المتاخمة لتلك البلاد إما واقعة تحت سيطرة التحالف الشمالي المعارض لطالبان. او يمكن ان تسقط في ايديهم بسرعة. هل ستحارب الولايات المتحدة التحالف الشمالي في اطار خطة غزو افغانستان.
كما على السناتور ان يتذكر ان افغانستان اكبر من فيتنام مرتين، و60 مرة اكبر من كوسوفو. لقد حشد الناتو قوة قوامها 50 الف جندي لغزو كوسوفو. وحتى اذا وضعنا في الحسبان ان الجيش الصربي كان افضل تسليحا وتدريبا من طالبان، فإن الفرق في الحجم يبقى عاملا مهما. ان الولايات المتحدة، لكي تغزو وتسيطر على افغانستان، في حاجة الى قوة ربما يصل حجمها الى 600 ألف على الاقل. ويمثل ذلك ثلث القدرة العسكرية الاميركية، حتى في ظل عملية تعبئة عالية. اضف الى ذلك حقيقة ان كل جندي في ميدان المعركة في حاجة الى ثلاثة رجال او نساء للدعم، ولذا فأنت في حاجة لتعبئة قوة تقترب من مليوني جندي.
وحتى مع مساعدة كل الدول الاعضاء في الناتو ـ وهو الامر غير المؤكد ـ فستجد الولايات المتحدة من الصعوبة بمكان تعبئة القوة المطلوبة.
الا ان ذلك لا يعني ان الولايات المتحدة لا يمكنها، اذا رغبت، تعبئة كل هذه القوة، لغزو أفغانستان والاحتفاظ بها لأطول وقت ممكن. وليس لدينا شك ان الولايات المتحدة كان يمكنها الانتصار في حرب فيتنام لو لم تتعرض لضغوط من الحركات المعارضة للحرب في الداخل.
السؤال هو ما اذا كان غزو والاحتفاظ بأفغانتسان هو هدف يستحق المغامرة من وجهة نظر المصالح الاميركية. اجابتنا هي لا مؤكدة. ان بعض شركات النفط الاميركية ربما ترغب في السيطرة على افغانستان، وفي الوقت الذي بدأت فيه باكستان تعود الى المدار الاميركي مرة اخرى، تستخدم افغانستان كطريق لخط انابيب لنقل نفط حوض بحر قزوين الى المحيط الهندي. ولكن مصالح شركات النفط ليست هي ذاتها المصالح الوطنية، كما يعرف اي تلميذ مهتم بالتاريخ.
ان مقارنة السناتور مكين لهذه الحرب بحرب تحرير الكويت خاطئة. ففي ذلك الوقت كان كل جيران العراق، ما عدا ايران، اعضاء ناشطين في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، كما ان الولايات المتحدة كانت تستطيع شن هجمات من الخليج والبحر المتوسط في الوقت الذي ستستخدم فيه قواعد في تركيا، وهي عضو في الناتو.
الاختلاف الثاني الاكثر أهمية يكمن في انتفاء الرغبة في القتال لدى الجنود العراقيين، اذ ان هذا هو السبب في استمرار المواجهة الارضية لمدة 100 ساعة اشتمل جزء كبير منها على قتل قوات التحالف للجنود العراقيين الفارين في ما عرف بـ"طريق الموت السريع". الجزء الرئيسي من قوات طالبان، التي تشمل الكثير من المتطوعين من باكستان بالاضافة الى "الافغان العرب" التابعين لابن لادن (حوالي 2000 مقاتل)، سيقاتلون فقط عندما يدركون انه لا خيار امامهم. وليس هناك بالطبع وجه مقارنة بين حجم هذه القوات وعدد القوات الاميركية، بيد ان بوسع هذه القوات، رغم عددها المحدود، ان تسبب ازعاجا مستمرا للقوات الاميركية فترة طويلة.
يجب ان يتذكر الرئيس جورج بوش باستمرار انه لن يكون مثل الاسكندر الاكبر في افغانستان، فمهمة الولايات المتحدة تتلخص باختصار في جلب مجموعة من المجرمين المشتبه فيهم للعدالة.
والسؤال الآن هو: اين يختبئ المجرمون المشتبه فيهم؟ أي شخص لديه معرفة محدودة بأفغانستان يعرف جيدا ان هناك بضعة اماكن فقط يمكن ان يختبئ فيها بن لادن وشركاؤه. فهؤلاء لا يمكن ان يختبئوا في المناطق التي تشكل فيها مجموعات التاجيك والاوزبك والهزارة والتركمان العرقية اغلبية، فكل هذه المجموعات لديها عداء دموي مع بن لادن بسبب تورطه في سلسلة من المجازر الدموية في مزار الشريف، بالاضافة الى ضلوعه في عدد من الاغتيالات التي كان آخر ضحاياها القائد العسكري احمد شاه مسعود قبل شهرين على وجه التحديد. كما ان هذه المناطق تشكل نصف اراضي افغانستان من حيث المساحة.
لا يمكن كذلك ان يختبئ بن لادن وشركاؤه في المحافظات المجاورة لايران، اذ ليس بوسعهم الفرار الى هناك اذا دعت الضرورة، فملالي ايران يكرهون الولايات المتحدة، لكنهم في نفس الوقت لا يحبون بن لادن.
بن لادن وشركاؤه في حاجة الى ان يكونوا في موقع بالقرب من باكستان لكي يتمكنوا من الهروب اليها اذا دعت الحاجة، ففي باكستان لهم الكثير من المؤيدين حتى داخل الجيش والاجهزة الامنية التي من المحتمل ان تقدم لهم مساعدة في الهروب والاختفاء تماما عن الانظار. ويحتفظ بن لادن وشركاؤه بعلاقات جيدة مع قبائل "افريدي" التي تسيطر تماما على منطقة تقع بين باكستان وافغانستان.
يجب ان نستبعد جلال اباد وقندهار وغزني كأماكن محتملة لاختفاء هؤلاء، اذ ان في هذه المناطق الكثير ممن هم على استعداد لبيعهم لقاء أي عروض مالية مغرية. كما لا تحتوي هذه الاماكن على مناطق جبلية ولا تعتبر بالتالي مكانا افضل للاختباء والفرار من التعقب والمتابعة.
لذا فإن انسب الاماكن لاختباء بن لادن وعصابته هي منطقة "سافيد كوه" (الجبل الابيض) الافغانية القريبة من الحدود مع باكستان، كما انها منطقة يعرفونها جيدا بحكم تأسيس اولى قواعدهم فيها حيث اقاموا علاقات خاصة بما في ذلك صلات زواج ومصاهرة مع عدد من الزعماء المحليين.
تحتوي المنطقة على محافظتي "باكتيكا" و"باكتيا"، وتساوي اقل من 5 في المائة من مساحة افغانستان. ربما لا يكون بن لادن ومجموعته هناك في الوقت الراهن، بل من شبه المؤكد انهم ليسوا هناك، اذ ان بن لادن يعمل الآن كوزير للدفاع لدى حركة طالبان، فيما يعتبر ذراعه الايمن، ايمن الظواهري، بمثابة وزير داخليتها الواقعي. وعندما يضيق الخناق، فإن هذا هو الموقع الذي سينتهون اليه. استراتيجية هؤلاء تقوم على افتراض ان الولايات المتحدة ستشعر بالتعب ازاء هذا الوضع وتتوصل الى توقيع اتفاق متعجل لوقف اطلاق النار مع طالبان مثلما حدث مع العراق عام 1991.
بدلا عن التخطيط لغزو شامل، فإن الولايات المتحدة في حاجة الى استخدام بعض التكتيكات التي تستخدمها الشرطة في تعقب المجرمين الخطرين، وفي هذه الحالة ليست هنالك حاجة الى رامبو بقدر ما هناك حاجة الى دون كورليون، الذي يعرف كيف يقدم عرضا من الصعب رفضه. اما اذا لم يكن دون كورليون موجودا، فمن الممكن اللجوء الى شيرلوك هولمز الذي يشتم رائحة المجرم وهو في مخبئه.(الشرق الأوسط اللندنية)
&