في بداءة السبعينات جمعتني ندوة الى السيد موسى الصدر والدكتور صبحي الصالح في مديرية الشباب والرياضة على ما اذكر، وكان علي ان اعقد حلقة ارثوذكسية بعدها في شارع المكحول في رأس بيروت، فتوسطتهما في سيارة نقلتنا حيث كنت اقصد. وفيما كنا ندنو من مكان اجتماعي سألتهما: ماذا يقصد القرآن بقوله: "العزة لله ولرسوله وللمسلمين"؟ لم انتظر جوابهما فعلقت هكذا بما كان بيننا من مودة: "افهم ان تكون العزة لله ولا مشكلة عندي ان تكون للرسول واما ان تكون للمسلمين بما يحمل كل مخلوق من خطايا فلست افهم".
كنت قد تلوت الآية خطأ فما ورد في سورة المنافقون هو: "العزة لله ولرسوله وللمؤمنين". والاسلام محض هوية او وجود والايمان حركة وقيام بالله ورجاء ومحبة وسلام. والذين ضعفت عندهم هذه او لم تتوافر ليس لهم عزة. والقرآن نفسه علّم الفرق بين الاسلام والايمان في قوله: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم" (سورة الحجرات، الآية 14).
كذلك ليس كل مولود من اب مسيحي مسيحياً اذ عليه ان يكون "خليقة جديدة" وألاّ يحيا هو بل يحيا المسيح فيه. واذا كان من"الصليبيين" فلا يكون السيد حيا فيه ولكنه يكون قاتلاً. اللقاء والحوار والحب هي بين المؤمن والمؤمن ولا شأن لنا مع الانتساب المجتمعي ومع كوننا نأتي من ارحام النساء. عند المسيحيين لا قيمة للولادة ولكن للولادة الجديدة التي تكون فيها آتياً من الله ومن نعمته.
لذلك كان تقسيم العالم "قسمين قسماً تحت راية الصليب كما قال رأس الكفر بوش وقسماً تحت راية الاسلام" كما عبر عن ذلك الشيخ اسامة بن لادن، كلاماً ليس من الواقع السياسي اذ ليس في الحروب الجارية "راية صليب". ان يرفض الفكر الاسلامي العلمانية لكونها تفصل الدين عن الدولة فهذا له ولكن رجاء ان يعرف ان دولة غربية واحدة لا تضع نفسها تحت راية الصليب ولا يذكر رئيس دولة اوروبية اسم الله في خطاب له رسمي. هذا التقسيم بين راية الصليب وراية الاسلام لم يقنع اية دولة اسلامية دخلت ابواب الحلف مع اميركا ولا يشك احد في اسلامها وهو جزء من دستورها والقرآن مصدر تشريعها او بعض مصدر. وليس الانجيل في دولة غربية واحدة مصدر تشريع لها وان كانت فيه بعض عناصر ساغ استيحاؤها. والشعب وحده مصدر القانون عندهم. وكان سعي الثورة الفرنسية وقانون نابوليون بعدها بقليل ان يبتر العلاقة بين الكنيسة والتشريع ثم بعد هذا جاء فصل الكنيسة عن الدولة. ولكن ربما كان على المسلم العادي - غير المتروض على معرفة الغرب - ان يسعى سعيه ليفك - من ذهنه - العلاقة بين الصليب وجحافل العسكر الغربي ليكون منصفاً لظالمه وينتقي لنفسه دافعاً الى حربه غير ذلك الذي يتكلم عليه اسامة بن لادن.
* * *
ألم يكن هذا الرجل يعرف - لما كان مع الاميركيين في مجانسة تامة - ألم يكن يعرف آنذاك انهم كفار؟ لا بد انه قرأ الفتوى التي صدرت قديماً في الاستانة ان "امة الكفر واحدة" وان الاميركيين والسوفيات ينتمون معاً، اذا اخذنا معياره الفقهي، الى امة الكفر الواحدة؟ ان استعماله لعبارات التحريض لا ينتج منه الا اشعال النار بين المسيحيين والمسلمين في العالم، وقد بدأت تشتعل في باكستان. أنا اعرف ان المسلمين يخوضون الحرب على المشركين ولها قواعدها الفقهية وضوابطها، وأعرف ان الحرب لا تشن على النصارى من حيث هم كذلك وقد ارتبط المسلمون بهم بالعهود العمرية وأمنوهم على صلبانهم وبِيعهم كما ورد في عهد عمر لأهل ايلياء (القدس) الذي غدا نموذج العهود. فكأني بأسامة يوحد بين المسيحيين والمشركين، ولا يمكن ان يتبعه فقيه جدي واحد. واذا كان المسيحيون الحاليون مشركين فالمنطق يقضي بأن يبادوا جميعاً. اني احمّل كل من ذكر الصليب والصليبيين والمسيحيين والنصارى في كلامه على هذه الحرب مسؤولية مباشرة في تعريض المسيحيين لخطر.
أمام التحليل الحضاري الحالي لا تثبت اليوم مقولة دار الاسلام ودار الحرب. لقد تغيرت كلياً. ولا يمكن ان يكون للجهاد تطبيق. من يدعو الىه؟ ضد من يقاد؟ اية قوة عسكرية تجمع الدول الاسلامية؟ بعد اندثار الخلافة من يتكلم باسم المسلمين سياسياً؟ ممن يشتري المسلمون سلاحهم؟ أليس الكلاشنيكوف الذي يحمله الشيخ اسامة من صنع "الكفار"؟
* * *
غير ان اهم ما يضعف طرح اسامة بن لادن وبعض حلفائه الذين نسمعهم على محطات التلفزة انهم لا يدرون ان الأميركيين ليس عندهم حليف غير شارط او غير متحفظ الا بريطانيا العظمى. انا واثق من ان الشعب الاميركي سوف يتضجر من حرب لا علاقة بين وسائلها الهائلة والهدف الذي هو القبض على اسامة وعلى شبكات الارهاب في العالم كما لا علاقة بين الارادة المعلنة في اسقاط صدام وتجويع الشعب العراقي. ثم اعلن وزير الدفاع الاميركي انه لا يهتم كثيراً اليوم لالتقاط اسامة. اذاً ماذا تريدين يا اميركا؟
ان الذكاء الاسلامي الهادئ يبتغى منه في كل بلد ألا تستسلم جماهير المسلمين الى انفعالات لا توصل امة الاسلام الى نصر. انا واثق من ان المسيح والمسيحيين الصادقين يحبون الشعب الأفغاني الفقير الذي لا حيلة له في هذا الوضع. وأكبر دليل على ذلك ان الملايين منه قد غادروا بلدهم قديماً وحديثاً. السؤال هو كيف نحفظ الشعب الافغاني وكيف نمنع هذه الهجمة الشرسة العمياء من ان تنتشر.
ان المسلمين لهم قلوب وأكثرهم قال ان هذه القلوب كانت الى ضحايا الحادي عشر من ايلول والى ذويهم. الذي تناول الموضوع وزكى فاعلي هذه الكارثة يكون قد فقد الحنان الاسلامي وآمن بخرافة قسمة العالم الى صليبيين والى حاملي راية الاسلام.
انها لفرصة ذهبية ولو شاقة ان ينتقل المسلمون من شعورهم بأنهم امة تتراص بالمظلومية الى كونهم امة اخرجها الله بعطفه وكرمه لتخدمه وتتعاون وكل فرد يؤمن بالله وبالقيم ابتغاء تكوين عالم واحد يقوم على العدل للجميع.
* * *
في هذا المنحى سألت المغفور له الشيخ صبحي الصالح مرة اخرى: هل وردت لفظة الاسلام مرة واحدة بمعنى الأمة التي تؤمن بمحمد وذلك على اساس قول القرآن: "ما كان ابراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً" (آل عمران، 67). وقد دعا يوسف ان يتوفاه ربه مسلماً والآيات الشبيهة بذلك كثيرة.
قلت للشيخ لم اعثر على ما يدل على ان المفردة محصورة بأهل محمد. قال: "اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً" (المائدة الآية 3) لا تدع مجالاً للشك. لم اناقش الشيخ الصديق ولكني لم اقتنع ان كلمة الاسلام في الآية هذه وردت بخصوص الدلالة اذ كلنا مسلم لله. الكلام على الصليبيين صرخة استنفار لا تعني شيئاً الا لمن لا يزال اسيراً للقرون الوسطى. واذا كان السيد بوش مقتنعاً بأن الاسلام يعني السلام كما قال في مسجد واشنطن فليعبر عنها، حقيقة، باعادة طائراته الى قواعدها ونحن نتمنى لها عودة سالمة. (النهار اللبنانية)
&