القاهرة&- إيلاف: اعتاد المثقفون المصريون أن تكون قرارات المصادرة قبل معرض القاهرة الدولي للكتاب ، الذي يعقد عادة في يناير من كل عام ، وذلك للحئول دون عرض تلك المطبوعات (المقرر مصادرتها) في المعرض الذي يشهد حضوراً شعبياً مصرياً وعربياً كبيراً ، فقد قرر مجمع البحوث الإسلامية منع مجموعة
حيدر حيدر
&قصصية للكاتب السورى حيدر حيدر من التداول وقال المجمع ان "كتاب "الومض" للكاتب السورى يتحدث عن العبيد وحكاية البشر والقصص الماجنة البعيدة كل البعد عن قيم الإسلام.".
جدير بالذكر أن "الومض" مجموعة قصصية كتبها حيدر حيدر فى الفترة بين عامى 1968 و1970 وأعيد طبعها ثلاث مرات قبل ذلك.
وكان الأزهر قد صادر من قبل رواية وليمة لأعشاب البحر "لنفس الكاتب" منذ عام بعد أن شن حزب العمل المصرى هجوماً حاداً عليها واتهم الكاتب بالإساءة إلى الإسلام والرواية بالخروج عن الآداب.. وهو الأمر الذى تطور إلى قيام طلبة جامعة الأزهر بمظاهرات حاشدة أعقبها مصادرة الرواية وتجميد نشاط حزب العمل.
وقد قرر مجمع البحوث الإسلامية فى نفس الجلسة التى قرر فيها مصادرة "الومض" منع تداول كتاب "فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين" للكاتب خليل عبد الكريم وكتاب "إماطة اللثام" والذى يتعرض لقضية الكفر وحكم قتل الكفار وقتالهم والمرتدين والممتنعين عن إقامة الشرع وكذلك كتاب "ليالى بيشاور" ولتعارضه مع مذهب أهل السنة حسب نص تقرير المجمع.
&
وفيما يلى نص القصة ، كما أوردها موقع "الممنوع" ، والتى تحمل المجموعة عنوانها وهى "الومض":

أتجه الآن نحو مكان ما. فى رأسى نشوة صغيرة عابرة تملكتنى غبَّ ارتمائى على أرصفة هذه المدينة. نشوة غائمة تشبه فرحاً وشيك الطيران. المدينة رائعة. سماء ربيعية مزدهرة بالغيم الأبيض والغيم الرمادى، وخلاله يضئ قمر فى فضاء عذب.
على الأرض يسير الناس بهدوء، يبدون محايدين ومجانيين. العداء القديم لقامات الحجر القائمة على أكتاف الشوارع خامد الآن. عرفت ذلك من الدندنات العفوية الخارجة من بين شفتي .
فى الفضاء بشائر مطر، توحى بسلام متوقع، واخضرار يتوج هامات الشجر يتلألأ مصقولاً وأكثر اخضراراً مما هو.
لا . للا. لا . للا..
ترنيمة تخرج. تسرح عبر هذا العالم المتواشج. عالمى.
هل قلت بأننى أقصد مكاناً ما؟ ربما. وربما لا أقصد أيما مكان محدد. ما أشعره أن المكان يتجه نحوى، وأنا أسرع نحو غبطة متوقعة تحمل رنيناً مزمناً فى نفسى التى أزمنت تعاستها. ذلك الاتجاه يبدو لى رائعاً، مغطى، أخاف كشفه.
لست أدرى، ومن زمن بعيد، لماذا أخاف أن تجلى الأحداث. ذلك مايسبب لى نوعاً من الهلع الخاص الموصول بتجارب الإحباط التى مرت.
كان أبى يقول لى وأنا طفل: لم أر فى حياتى يوماً أبيض. وبحدسى الطفولى القديم وذاكرتى التى تختزن رائحة العطب الكونى فى الإنسان، أدركت فيما بعد أن عمر الفرح ليس طويلاً.
إذن! لتظل الأشياء كامنة من بداياتها وراء حدود العقل اليقظ، فربما أضيف للحظة الوجد المشتعلة فى نفسى الآن، بصيص أكثر من الزمن المفرح. تررم.. للا.. ترللى..
أثب فى الهواء قاطفاً غصناً أخضر وأنا أسير خبباً. أسير على أرصفة مدينة وقور، الحياة فيها مقننة والسلوك بمقدار رصين. على الشرفة المقابلة فتاة طويلة القامة، تلبس كنزة بيضاء ثدياها نافران، وجهها تحت الضوء بلون الياسمين: فتاة عذبة. قلت وأنا أعبر الرصيف. فتلتُ الغصن الأخضر بين أناملى، ثم مرّغته على خدى، فأحسست رطوبته البحرية. تمنيت خطفاً لو أتمرجح فوق مروج الاخضرار الساحلية القديمة التى غادرتها منذ أبد طفولى لن يعود.
لا. ابتعدى رجاء يا تذكارات محزنة وقاسية. الفرح مقبل الآن وأنا سيد اللحظة.
رفعت النغمات لتغطى ويهمى النسيان، أشرعت يدى فى هبة ريح مرحبتنى وأنا أنعطف فى الشارع. مسحت عمود كهرباء بأصابعى المفتوحة ثم مرغتها على جسد غيضة ياسمين غافية فوق سياج دار أنيقة. دخل الاخضرار مرة أخرى، منسرباً من رؤوس أناملى. استوطنت القلب أفراح قديمة راحت تفيق فى روابى النفس: بحار خضر، وجزر بعيدة منفية طحالبها خضراء ونوارسها تصيح بصوت أخضر، أطفال يلبسون ثياباً خضراء، يمشون وراء نعش مجلل بكفن أخضر. فى ذلك النعش توسد أب لم تكن أيامه خضراء.
لا .. لى .. للا..
هل تستطيع أن تكون محايداً؟ أود أن أكون محايداً الآن. انسكب فى لمعة الفرح الصغيرة المومضة، وأسلمها تاج عمرى. أسير محايداً فى غبطة من الزمن الصغير المدهش. أعوم فوق الأرصفة، فوق شر المدينة. أدندن، أثب، أصافح الأوراق، وحديد الأعمدة والجدران، وأراقب الفتيات لأول مرة بعبور لا إثم فيه. وفى هذه اللحظة المبرقة أشعر بمجد الحرية يخترم مسام نفسى.
كل اللحظات لكم وهذه الهنيهة من الإسراء لى. هأنذا أدعها تتخلل كيانى رامياً بينها وبين العالم سداً من النسيان واللامبالاة.
سبحان من أسرى بنفسه من البؤس إلى الحبور على خيط من الغفلة والحلم.
الزمن مخدَّر الآن، يستلقى فى الخارج، غافياً فى مكان لا أعرفه. ربما كان فى العطفة التالية وربما فى المكان الذى أرنو إليه لكنه طلع منى الآن كبرق حل فى الأشياء: أيايا ..تم ..تتم ..تم.
غرفة نائسة الضوء، ستارتها حمراء وأرضها مفروشة بجلد طرى أبيض، وسرير واسع، فُرشت عليه بطانية مخططة بالأبيض والأحمر وامرأة، وحلم. ومنذ قديم الزمان يحدث ذلك، لست ذاكر متى، ولا كيف ولماذا الأشياء تمشى خطوة ثم تتوقف.
نبحر فى سفن غريبة، وفى عرض البحار تتصدع السفن، تتسرب المياه، ويشيل الهلع. الغرفة تقترب وصوت المدفأة يغرغر. موسيقى كئيبة، تصدح وداعاً لرجل مسافر، والمرأة متكئة تمضغ دخاناً وهى تتأمل الخيوط الدقيقة الرمادية التى تتلاشى. هو العمر يمضى هنا فى غرفة سرية صامتة، والكلمات لا يُجهر بها لرجل غريب نحبه بصمت .
عالمان أنا وهى بالأسرار، والعطب الذى لا يبوح، وبيننا وبين الزمن معاهدة وتوقيت. لكن البوح يجى متأخراً بعد ذوبان الصبوة. بعد أن تصبح الكلمات كخلايا نحل هُجرت.
بثوبها الحريرى الشفاف تستلقى، مرفقها الأبيض على الوسادة البيضاء، وراحة كفها تسند وجهاً فى عذوبة المطر الخريفى. لست حزينة ولا فرحة تعوم فوق سطوح العالم بقلبها الثلجى، ووحيدة تحلم بالفرح.
خزانة الثياب مفتوحة، وحقائب الأشياء الصغيرة مبعثرة، تلمع تحت الضوء الخافت، وكتب منتظمة صفحاتها لمَّا تقطع.
جسد مرمرى معجون بالحليب والدم، داخل ثوب كشاف. رؤى ودخان، ورجل مسافر، ثم غريب، وامرأة عذراء تنام طى بكارتها النفسية.
- أنت وحدك يابنية؟
- أنا امرأة.
- يقول الناس ذلك.
- وأنت؟
- لم أجرب بعد.
- طويلاً ستنتظر، وعندما يبكى الحجر تجرب.
- ثمة وقت.
- تُمضى العمر بالأحلام.
- يقول الشرق والخوف ذلك.
- أنا لا أخاف. مايخطر لى أفعله.
- طفلة جميلة وكاذبة.
- جبان.
- وأنت قطة سيامية تنوء وتحلم بدفء الفرو.
- الكلمات العذبة لا تطعم نساء (تضحك).
- المرأة وطن منهوب.
- تتقدم خطوة ثم ترتعش (تضحك أعلى).
- قبلك جربت نساء.
- كيف رأيتهن؟
- يعطين رجلاً آخر.
- أنت أنانى تقطن داخل جلدك.
- أرغب امرأة تقبل بعد الشهوة.
- أحلامك مريضة.
- أرغب امرأة مغامرة.
- راوح مكانك.
- لماذا تخافين الخيانة.
- ولماذا أخون؟
- لأن رجلاً آخر يقطن جلدك.
- أنت تخون؟
- ومن الذى لا يخون.
- ما طعم الخيانة؟
- ثأر عذب مسكر. فيه كشف وندم.
- الرجال قذرون شهوانيون.
- والنساء أطهر من مريم المجدلية.
- لو أن الإنسان لا ينمو.
- لو ندخل بوابة الجحيم.
- أنت رجل شقى.
- وأنت امرأة سعيدة.
- ملعونان نحن.
- لندخل تحت عتبة اللعنة.
ليس عدلاً أن تنام فى فراش رجل غائب، مع امرأة ما تزال عذريتها النفسية مصانة، غير أن الذهن يسبق ذلك. وبين الطرفين الممدودين بصمت، تحت غطاء خوف السنين، وتخطى اللحظة الشفافة، يمتد وشج خائن يلمع كالومض، ويحدث الفعل. وتسأل: هذا القتال اللعين بين الذهن والفعل متى ينتهى؟
- أترحل معى أيها الرجل الغريب؟
- أرحل.
- هلم.
نهجر الناس والأطفال والأزواج الجرحى. نمضى إلى البرارى والجزر الوحشية نفعل ونغنى ونبكى. نحس زلزلة الأرض ودوارها تحتنا. نصعد تلالاً غضارية ونرتمى فى وديان سحيقة وعرة. ننحشر معاً فى مغاور قديمة عنكبها الزمن ثم نصرخ كالوحوش فى مجد النشوة المشتعلة. وبعدها نموت بلا طقوس ولا حزن فوق أديم الأرض.
غير أن لمعان الأشياء المصنوعة بإتقان هو التحول والغرف التى تشبه الصناديق المقفلة تعوض عن مغاور الجن المهجورة.
هكذا حدثت اليقظة على خيط من السقوط المغفل، وبدا لمعان الأشياء المصنوعة وغرف الصناديق المقفلة، أوشحة وهمية للبكارة التى تمزقت فى السر، وبعيداً عن الرجال المسافرين كانت الخيانة تنام بهدوء خال من الإثم. صاح صوت الزوج القاسى: من أنت؟
أجبتها: الرجل الغريب.
قال: ماذا تريد؟
قلت: أريدك أيتها المرأة الصغيرة.
شالت عينا الزوج المعلقتان فى السقف: أنا لا أعرفك!
قلت لها: جئتك فى الأحلام يوماً.
انعقد غضب الزوج فى عينيها: أنت غريب!
همست لها: أنا رجل المسرات والصبوة الخائفة.
صرخ الرجل المطعون فى الظهر: الفرح مسافر.
قلت: أنا الفرح!
نَدَه الصوتان معاً: غادر. غادر. الغرباء لا يطئون بيوت الرجال المسافرين.
سلام أيتها المرأة الفاضلة.
هو هناك. فى العطفة، وفى كل عطفة، فى الرأس والرحم مقبل ومدبر، خارج من الأرصفة ومن أعمدة الكهرباء، من السقف ومن الشرفات المعتمة. ساتر المطر، ومغط وجه القمر بضبابة غبارية.
جاثم بينى وبينها على بوابة اللحظة، كفارس قتيل يحمى ظعينته بعد الموت، قائم كجسد محنط. لكن من الذى يتقدم ليهزه؟
عاد إلى الآن. وأنا ما أزال أسير، بعد أن انعطفت ملفوفاً داخل عباءة صمتى.
أسمع صوت الخطوات فقط ورنين الصمت، وأرى هراوة الحارس الليلى تتأرجح على جنبه، وهو يهز جسده الراغب فى النوم.
هى ذى الحواجز الحجرية عادت لتنتصب أشباحاً من القسوة والتحدى فوق جميع الأرصفة. جميع النوافذ مغلقة والريح ماعادت تهب.
سنفير. بافير. كرنتينا. شملون. ترللى. النساء والفضيلة، النساء المكسوات جيداً بالأحذية والفساتين الزهرية، والفساتين تغطى البكارة بصناديق من أسمنت، وصناديق الأسمنت تمنع الخيانة، والخيانة تتم بصمت، والصمت لا يبوح، والشرق حكاية دنِّ الزيت المغلق وفى هذا الدن: شملون. جبل. حفرة. معطف. شارع. نبيذ. ليل. نحيب. رقص. غبار وشهوات تُحتضر. مجرات، وشموس تسقط فى مستنقعات الشرق، وأنا وحيد أسوح عبر العالم بذهن منحط, أبحث عن شمس حارة لا تسقط .
&