سامي دورليان&:يُعد هنري كيسنيجر أحد أهم رجال السياسة الاميركيين في القرن العشرين وأكثرهم دهاءً. فبعد أن عمل في الحقل الاكاديمي مختصاً في شؤون اوروبا مؤتمر فيينا (1815)، انتقل الى الحقل السياسي ليعيّن على رأس مجلس الأمن القومي - هذا المجلس الذي يحدد مجمل الاعمال الديبلوماسية والعسكرية للولايات المتحدة ويشرف عليها - وذلك طوال العهد الاول للرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون اي بين عامي 1969 و.1973 أما في العهد الثاني غير المكتمل بسبب تداعيات فضيحة ووترغيت (1972) وتحديداً التهديد بالعزل Impeachement الذي أدى بالرئيس نيكسون الى الاستقالة عام ،1974 فقد شغل هنري كيسينجر منصب وزير الخارجية، مع الحفاظ على موقعه في قيادة مجلس الأمن القومي، وقد استمر فيهما حتى كانون الثاني من العام ،1977 تاريخ نهاية عهد الرئيس جيرالد فورد.
تكمن اهمية المناصب التي شغلها كيسينجر خلال مسيرته السياسية وتالياً خطورتها في انها أمّنت له حضوراً طليعياً في معظم، إن لم يكن كل، المسائل المتعلقة بسياسات الولايات المتحدة الاميركية المنتهجة بين عامي 1969 و1977 على الصعيد الخارجي. نذكر منها تلك التي تتعلق بالهند-الصينية ومسؤولية كيسينجر (ونيكسون) في اطالة امد الحرب في فيتنام وعليها وتوسيع رقعتها لتشمل كل من كمبوديا ولاووس. كما نذكر اغتيال أليندي في التشيلي وعلاقة منفذي الاغتيال بالاجهزة الاميركية وعلى رأسها كيسينجر، بالاضافة الى محاولة اغتيال الرئيس القبرصي الكاهن مكاريوس ومشاركة الاميركيين في التخطيط له، ولا ننسى بالطبع احداث بنغلادش وتيمور الشرقية وغيرها من المسائل التي قاربها كريستوفر هيتشنز، الكاتب والصحافي ذو الاصل البريطاني، في "كتابه القنبلة"، على حد تعبير صحيفة "الواشنطن بوست"، "جرائم السيد كيسينجر "الذي نقله الى الفرنسية جان-مارك جاكو والصادر عن دار سان سيمون في أيار .2001
&
البدايات
إذا كان كيسينجر قد تسلّم مهماته في أوائل عام 1969 كمستشار للأمن القومي، فان بوادر مساره السياسي بدأت تلوح في خريف 1968 اذ كان له الدور المحوري في تعطيل مفاوضات سلام فيتنام المنعقدة في باريس. هذا التعطيل اسقط مبادرة الرئيس ليندون جونسون "السلمية" واسقط معها وقف القصف الذي اعلنه في 31 تشرين الاول، وذلك قبل اسبوع واحد من موعد الانتخابات الرئاسية التي كان من أبرز المرشحين فيها ليندون جونسون نفسه وريتشارد نيكسون.
في موازاة مفاوضات السلام في باريس التي وصلت حينذاك الى مراحل متقدمة، كانت تجري محادثات سرية بين نيكسون ومعاونيه من جهة وقادة عسكريين من فيتنام الجنوبية من جهة اخرى غايتها حضّ الاخيرين على الانسحاب من المفاوضات بغية إفشال جونسون في الانتخابات، ذلك ان "رئيس جمهوري في البيت الابيض خير لهم من آخر ديموقراطي"، الامر الذي حصل فعلاً. وهكذا فقد كانت اطالة امد الحرب شرطاً اساسياً لوصول نيكسون الى سدّة الرئاسة، وهي اطالة لا ضرورة لها، إذ أدّت في نهاية المطاف الى مئات آلاف القتلى وملايين الجرحى. اما دور كيسينجر المحوري في تعطيل المفاوضات، فيكمن في تبنيه دوراً مزدوجاً. ففيما كان مفاوضو الرئيس جونسون في باريس وعلى رأسهم أفريل هاريمان يعتبرون كيسينجر واحداً منهم، كان الاخير من موقعه هذا مصدر معلومات ونصائح وتحذيرات لريتشارد نيكسون ومعاونيه وكان أيضاً أول من حذّر نيكسون من وقف مبرمج للقصف اواسط أيلول .1968
بهذا الدور المزدوج استطاع كيسينجر ان يؤمن لنفسه في اوساط القادة الجمهوريين مكانة خولته ان يعيّن مستشاراً للامن القومي، هذا الموقع الذي لم يكن ليصل اليه لولا ارتكابه جريمة تعطيل المفاوضات واطالة امد الحرب.
&
الحلقة الاولى
لا شك في ان حرب فيتنام كانت من افظع الحروب التي عرفها تاريخ البشرية الحديث. فخلال السنين الاربعة من عهد نيكسون الاول، قُدّر مجموعة المتفجرات الثقيلة التي ألقيت على الهند-الصينية بـ4.5 ملايين طن اي ما يفوق ضعف مجموع القذائف الملقاة خلال الحرب العالمية الثانية الذي ب2.044 مليوني طن (ص75). لن نتطرّق لتفاصيل مجريات الاحداث في الهند-الصينية التي عرضها كريستوفر هيتشنز باسهاب، لكننا سنشير الى مسألتي عملية "سبيدي إكسبرس" وتصريح الجنرال تلفورد تايلور.
أطلق اسم "سبيدي إكسبرس" على العملية التي حضر لها في الفترة الانتقالية بين عهدي جونسون ونيكسون، وكانت تهدف الى "حرب شاملة على البنى التحتية لعصيان الفيتكونغ" على حدّ تعبير الجنرال كرايتون آدامس. بالفعل، أدت هذه العملية الى "تنظيف" لا بل تطهير مقاطعة كيين هوا في دلتا ميكونغ طوال ستة اشهر راح ضحيته آلاف المدنيين من نساء واطفال وعجزة، ولم تنجُ الغابات والادغال أيضاً من هذا التطهير بحجة انها كانت تؤوي المتمردين العصاة. رافق هذه العملية ما اصطلح على تسميته "قصف الميلاد" كما رافقتها "وجبة قصف" تتكون من غارات حملت رموزها الاسماء الآتية: "الفطور"، "الغداء" "العصرونية"، "العشاء" و"التحلية"، وذلك على الحدود الكمبودية لتوسيع رقعة الحرب. كل هذا يشكل حتماً جرائم حرب يستوجب احالة المسوول عنها، أي كيسينجر وفريقه، على المحكمة الدولية.
بهذا الصدد احسن هيتشنز في الاستشهاد بالجنرال تلفورد تايلور، القاضي السابق للولايات المتحدة في محاكمة نورمبرغ وواضع كتاب "نورمبرغ وفيتنام"، والذي صرّح عام 1971 انه اذا كانت مبادئ نورمبرغ وطوكيو (المتعلقة بمجرمي الحرب اليابانيين) كونية وتطبّق على رجال الدولة وبيروقراطيي الولايات المتحدة الذين ابتكروا حرب فيتنام، فيصبح من الضروري ان يلقى هؤلاء المصير نفسه الذي لاقاه مجرم الحرب الياباني الجنرال ياماشيتا طومويوكي، ألا وهو الموت شنقاً معصوب العينين (ص51).
&
الحجة الواهية
"كيف يمكن بلداً ما أن يجنح نحو الشيوعية بسبب لا مسؤولية شعبه؟"، بهذا التساؤل اوجد كيسينجر مبرراً لكل ما سوف يخطط له لاطاحة سلفادور أليندي الاشتراكي الذي وصل بالطرق السلمية الى سدّة الرئاسة في التشيلي، احد اهم معاقل الديموقراطية التعددية في اميركا الجنوبية آنذاك. كل شيء بدأ عندما عُقدت سلسلة اجتماعات في واشنطن بعد مرور أحد عشر يوماً على فوز أليندي وهدفت الى "تقرير مصير الديموقراطية التشيلية". اولى محاولات اطاحة أليندي كانت التخطيط لازاحة الجنرال رنيه شنايدر، العنيد والمتشبّث في حرصه على عدم اقحام الجيش في شؤون السلطة السياسية، وذلك قبل تسلّم أليندي مهماته علّ هذه الازاحة (والتي كانت في الحقيقة اغتيالاً) تجعل الكونغرس التشيلي يعيد النظر في أليندي ويحرمه من ترؤّس البلاد. الاغتيال حصل فعلاً بعد محاولتين فاشلتين قامت بهما شبكة بقيادة الجنرال التشيلي كاميلو فالانزويلا.
اما شبكة روبرتو فيو فقد قامت بالمحاولة الثالثة الناجحة، علماً ان هاتين الشبكتين تشكلان فرعي شبكة واحدة مسمّاة "الممرّ رقم2" وضعتها ومولتها الاجهزة الاميركية. لم يمنع هذا الاغتيال أليندي من تسلم مهماته وحكم البلاد طوال ثلاث سنوات دُبّرت خلالها خطة اغتياله التي نفذها الجنرال اوغيستو بينوشيه في 11 أيلول 1973 إثر انقلاب أرسى أحد أعتى الانظمة الديكتاتورية في العالم كما بنى شبكة عالمية فاشية لاغتيال الاحرار ومن بينهم المعارض التشيلي اورلاندو ليتوليه عام 1976 في واشنطن الى جانب مواطن اميركي يدعى روني موفيت، مما شكل وصمة عار على جبين كيسينجر مستشار الامن القومي ووزير الخارجية منذ أوائل 1973 والمشرف على كل هذه "الطبخة".
ولعل أهم ما ورد في مقاربة كريستوفر هيتشنز للوضع التشيلي ذكره المقارنة التي اقامها صديقه بيتر كورنبلوه بين مذكرة المحادثات التي جرت بين كيسينجر وبينوشيه في سانتياغو التشيلي قبل يوم من الخطاب الذي ألقاه الاول امام منظمة الدول الاميركية والقسم الثالث من مذكرات كيسينجر "سنوات التجديد" (Years of renewal) حيث ان التناقض بين مضمون النصين جلي الوضوح. ففيما يظهر كيسينجر في مذكراته ساعياً الى تشجيع بينوشيه على المضي قدماً نحو المزيد من الديموقراطية، يبدو كيسينجر نفسه في مذكرة المحادثات متفهماً لا بل مؤيداً لمواقف بينوشيه الاستبدادية وسيرته بحجة واهية مفادها ان الاخير نجح في "قلب حكومة ذات ميل شيوعي".
&
التصريح المضحك، المجزرة، الابادة
لم تنحصر "جرائم السيد كيسينجر" في الهند-الصينية والتشيلي فحسب بل تعدتهما لتشمل كل من قبرص وبنغلادش وتيمور الشرقية. اما بالنسبة الى قبرص، فقد اشرف كيسينجر على رسم خطة ابعاد (اغتيال) الرئيس الكاهن مكاريوس والتي كانت وضعتها اجهزة النظام الديكتاتوري في اليونان في اواسط .1974 نجح الانقلاب في ابعاد مكاريوس إلا انه تسبب بردّ فعل تركي ترجم باجتياح قسم مهم من الجزيرة ادى الى تقسيمها. وكل هذا بمباركة الاميركيين انفسهم وكيسينجر نفسه وذلك لأن الاجتياح تزامن مع انهيار النظام الديكتاتوري في اليونان. بهذا الصدد يذكر هيتشنز حادثة لافتة هي اللقاء الذي جمع نائب وزير الخارجية الصيني كياو غونهوا وكيسينجر حيث اقدم الاخير على تصريح مضحك مفاده ان السوفيات هم الذين حضوا الاتراك على الاجتياح، مما يعطي الاجتياح نفسه فرادة كونه مبادرة سوفياتية بقيادة جيش من حلف شمال الاطلسي بتمويل ومساعدة اميركيين! (ص126).
&
ملاحظات لا بدّ منها
بعد إلقاء الضوء على أبرز مفاصل الكتاب، نجد انفسنا مضطرين، ومن موقعنا المتواضع، الى توجيه بعض الملاحظات الى الكاتب كريستوفر هيتشنز.
اولاً ومن حيث الشكل، لا يعير هيتشنز الاهمية اللازمة للمراجع التي استند اليها في دراسته، اذ انه لم يقرنها بملاحظات في اسفل الصحفات ولا بهوامش في آخر الفصول او الكتاب، مما أثر سلباً على الطابع العلمي لبحث الكاتب رغم جديته وعمقه.
ثانياً، لا يأتي الكاتب على ذكر دور كيسينجر في مذكرة الاتفاق بين الولايات المتحدة واسرائيل في ايلول 1975 الموقعة من كل من ايغال آلون، نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية اسرائىل وهنري كيسينجر وزير خارجية الولايات المتحدة والتي يعطي فيها كيسينجر اسرائىل "حق النقض"، كما يقول الصحافي كزافييه بارون، في موضوع حضور كل مشترك جديد لم يكن حاضراً في المرحلة الاولى، اي في مؤتمر السلام الاسرائيلي - العربي الذي عقد في جنيف في كانون الاول .1973
وهكذا استطاع كيسينجر ان يتخلص من الفلسطينيين ومن الاوروبيين أيضاً إذ انه كان يودّ ابعادهما عن المؤتمر وعن "جهود السلام". اما اسرائيل فلم يطلب منها اي مقابل، اي لم يطلب منها الانسحاب من الاراضي المحتلة منذ 5 حزيران 1967 او الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. وبهذه المذكرة اقام كيسينجر حاجزاً منيعاً امام فتح مفاوضات السلام في الشرق الادنى، ولم يهدم هذا الحاجز إلا بعد ثلاث عشرة سنة اي عند الاعلانات الاميركية عن فتح الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية في كانون الاول .1988 كان الاجدر بهيتشنز ان يشير الى كل هذا خصوصاً ان الحاجز الذي استمر طوال المدة الآنفة الذكر ترافق مع عدد من الاحداث الكبيرة،& نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، الحرب الاسرائيلية - العربية الخامسة (1982) وتداعياتها وبدايات الانتفاضة الاولى وما رافقهما من مئات آلاف القتلى والجرحى.
ثالثاً، لا يتطرق هيتشنز الى مسألة مهمة شكلت حجر الزاوية لسياسة كيسينجر الخارجية في الشرق الاوسط، الا وهي موقفه من القضية الفلسطينية. وفي هذه المسألة، يرى المؤرخ هنري لورنس في كتابه "سلام وحرب في الشرق الاوسط" ان سياسة كيسينجر مبنية على رفض الاعتراف بمطالب الفلسطينيين وحقوقهم لأن المقاومة الفلسطينية تشكل في نظره قوة عدائية للولايات المتحدة وباعتبار انه بامكان السلام في الشرق الاوسط ان يتحقق بين الدول العربية واسرائىل بدون الحاجة الى حلّ القضية الفلسطينية. الا يعتبر هيتشنز ان تصفية القضية الفلسطينية (وتالياً عدم الاعتراف بالفلسطينيين كشعب) جريمة بحدّ ذاتها؟
رابعاً، لا مكان للبنان بين "جرائم السيد كيسينجر". بالفعل لم يأت هيتشنز على ذكر لبنان إلا مرتين وعلى نحو عرضي وسريع عوضاً عن تخصيص فصل كامل من الكتاب لهذا الملف. وكما يرى الاستاذ جهاد الزين في مقالته "مبالغات ام مشروع جدي للمحاكمة"، فإن "مقولة تآمر كيسينجر لفرط لبنان او فرط الدولة اللبنانية عام 1975 كانت احدى المقولات الاكثر رواجاً واثارة في الادبيات السياسية اللبنانية" فتستوجب تالياً التفاتة من هيتشنز. (النهار اللبنانية)
&