&
&
&
اقتحم جورج بوش البيت المن زجاج للأمم المتحدة في نيويورك بواحدة من قلاعه الحربية الطائرة <<ب 52>>، وألقى خطابه بكلمات زنة الواحدة منها كما القذيفة سبعة أطنان!
ومن على المنبر الفخم، وأمام الحشد المبهور من المرهبين والعاجزين والمشبوهين، وجّه جورج بوش، وبلهجة الآمر الناهي، المانح المانع، المنتقم، الجبار، المعطي، المذل، إنذاراته إلى المقصّر والمتردد، فضلاً عن المتواطئ والمنافق، بأنه يكاد يعرف ما في الصدور، ويقرأ ما تبطنه النوايا..
كان على وشك أن يعلن أن له قدرات مماثلة أو قد تفوق قدرات <<الله>> سبحانه وتعالى: ترى هل يملك غيره أن يقرر للكون مصيره، بدوله وشعوبه والأفراد، في أي أرض كانوا، وسواء أكانوا مؤمنين يسلمون مصيرهم لله عز وجل، أو ملحدين وكفرة لا يؤمنون إلا بما يلمسونه ويرونه رأي العين، وهل أكثر مما رأوا ويرون من آثار الفعل الأميركي في أفغانستان... أو حتى في فلسطين؟!
لقد وفّر له أسامة بن لادن الذريعة لإعلان وضع اليد على العالم، بقوة الأمر الواقع معززة بأختام الشرعية الدولية التي تمثلها هذه المؤسسة الأمم المتحدة التي كانت ذات يوم ملجأ المظلومين والمضطهدين وحائط مبكاهم على حقوقهم التي نهبها وينهبها <<الأقوياء>> من المستعمرين أعداء الشعوب.
وقت جورج بوش ضيق، ولا يتسع لمناقشة التفاصيل: فلتحدد كل دولة وكل جهة موقعها وهل هي في <<فسطاط الإرهاب>> بقيادة بن لادن، أم في <<فسطاط إرهاب الإرهاب>> بقيادة ابن بوش...
على هذا فأي مقاومة وكل مقاومة إرهاب، وقد انتهى عصر الكفاح المسلح، ودعاوى التحرر، لا فرق في ذلك بين المكافحين للتسليم بوجودهم وحقهم في أرضهم في فلسطين، أو بين المجاهدين لحماية حقهم في أرضهم في لبنان تحت راية <<حزب الله>> ومَن يناصرهم ويعضدهم ويشد من أزرهم.
وقت جورج بوش ضيق، لا يتسع للقاء مع ياسر عرفات الذي قصد بمظلمته إلى نيويورك وفيها كل التفاصيل عن الاتفاقات التي خُرقت والتنازلات التي أُهرقت، والدماء التي أُريقت، والمستوطنات التي التهمت نصف أراضي السلطة، التي هي نصف النصف من أراضي الضفة الغربية (وغزة) التي هي ربع النصف من أراضي فلسطين التاريخية..
لكن وقت مستشارة بوش للأمن القومي يتسع لإعلان الحيثيات المبررة للحكم المبرم: <<لن تسلم واشنطن ولن تقبل منطق بيروت القائل بأن <<حزب الله>> ليس منظمة إرهابية... ذلك لأن الأمر يتصل بأمن إسرائيل، وإسرائيل جزء من المجتمع الدولي ومن الاقتصاد الدولي>>.
مَن يُرهب إسرائيل يُرهب أميركا، ومَن يُرهب أميركا يُرهب العالم، فكيف لا يكون <<حزب الله>> إرهابياً، وكيف تكابر بيروت فترفض اعتقاله وتسليمه ل<<العدالة بلا حدود>> كي تقتص منه فتجعل منه عبرة لمن يعتبر في فلسطين كما في أي بلد يستشعر أهله الظلم فيفكرون بالثورة أو بمقاومة الاحتلال أو الحاكم الظالم؟!
? ? ?
المسرح خالٍ، والفراغ يغري، والخوف حليف ممتاز للقوة الأميركية المطلقة وفي مختلف المجالات: في السياسة كما في الاقتصاد، وفي التجارة كما في المواجهات العسكرية..
وهكذا اندفع جورج بوش يخوض من موقع <<الضحية>> الآن!! حروبه جميعاً: في منظمة التجارة العالمية حيث يمكن تطويع الصين، بعد روسيا، وتحجيم الاتحاد الأوروبي ولو بالاشتباك المباشر حول الزراعة وحماية الصادرات الزراعية والبيئة، وإذلال فقراء العالم الثالث بتحويلهم إلى مجرد مستهلكين للمنتجات الأميركية، لا يستطيعون تصنيع الدواء إلا بإجازة باهظة الثمن ولو ماتوا جميعاً.
أما في مجال تأمين الحماية المطلقة لإسرائيل فتكفي كلمة غامضة عن <<دولة>> لفلسطين ما، في بطن دولة إسرائيل، لإعادة العرب إلى <<بيت الطاعة>> خانعين... وهذا ما تحقق بالفعل، إذ بعد إشارة بوش العابرة، والتي لا تلزمه بشيء، حول دولة فلسطين مع أو في أو ضمن دولة إسرائيل، لم تعد <<سياسة أميركا الفلسطينية تدفع العاقل إلى الجنون>>، بل أعادت <<المجنون>> إلى <<دائرة العقل>> فإذا بالعديد من العرب يشكرون ويمتدحون ويبتهلون إلى الله بأن يحمي جورج بوش ويكلأه بعين رعايته!
? ? ?
المسرح خال.. ودخان أفغانستان المحترقة، بشراً وأرضاً وبيوتاً من تراب وحافلات كانت تحمل طالبي النجاة فتحولت إلى قبور من حديد، ينتشر في آفاق الدنيا جميعاً، وصدى القصف المدمر لأسباب الحياة فيها يتردد مدوياً في أرجاء العالم القديم، فيوقظ القوميات والعناصر والأنساب المنسية والحروب الأهلية المعلقة..
والدوحة، العاصمة الجميلة لتلك المحطة الفضائية التي أنبتت دولة عظمى، تتحول إلى مركز للقرار الكوني، فيتلاقى في أفياء فندقها الذي على شكل هرم، ممثلو 143 دولة هم الأعضاء في منظمة التجارة الدولية ليقرروا في هدوء لا يفسده شغب المخربين كما في سياتل الأميركية كل ما يتصل بإبقاء الفقراء فقراء إلى الأبد، وكل ما يضمن تعاظم ثروات الأغنياء.
إنه المؤتمر النقيض لمؤتمر باندونغ، طيّب الله ثراه، حيث تلاقى الفقراء قبل ست وأربعين سنة، ليقولوا: <<نحن هنا، ولا نقبل بأن يتجاهلنا الأقوياء، من مستعمرينا السابقين (أو اللاحقين) بعد اليوم، وسنحفظ ثرواتنا الوطنية لكي يكون لنا قرارنا في شؤوننا، ولكي نؤكد استقلالنا بحماية مصالحنا>>..
... والوزير رئيس الوفد الإسرائيلي يغادر المؤتمر قبل اختتامه في الدوحة، لأسباب أمنية، ولكنه يطمئن من يعنيهم الأمر، بأن <<المكتبين الإسرائيليين في كل من الدولتين العربيتين قطر وعمان، على قيد الحياة، وهما يتنفسان>>، مكذباً الشائعات المغرضة التي رُوِّجت حول إغلاقهما، إعلاناً بتضامن قطر (وعمان) مع شعب فلسطين في انتفاضته المباركة!
? ? ?
لم يسبق لأي <<جبار عنيد>> أن خاطب العالم بهذه اللغة الآمرة الناضحة بالاحتقار، حتى أن جورج بوش يستحق لقب <<الإرهابي الأعظم>> بعد خطابه أمام <<برلمانه الرديف>> ممثلاً بالأمم المتحدة، و<<حكومته التنفيذية>> الكونية ممثلة بمجلس الأمن الدولي المنبثق عنها.
لقد ذهب ليعلن أمر العمليات: فأفغانستان هي المعركة الأولى في سلسلة من الحروب التي قد تشمل العديد من الدول (العربية بالدرجة الأولى) والمنظمات والهيئات وصولاً إلى الجمعيات الخيرية.
... ومعظم الرسميين العرب يتصرفون على طريقة <<كاد المريب أن يقول خذوني>>، مع ثقتهم المطلقة بأن جورج بوش لن يحاسبهم على إرهابهم لشعوبهم، بل هو يمسكهم من خطيئتهم هذه ليجرهم إلى حروبه الإرهابية الخاصة ضد العالم كله، وسلاحه <<القانون>> ممثلاً بالقرار 1373!
وبحسبة بسيطة سيجد هؤلاء الرسميون العرب أنفسهم إلى جانب إسرائيل وفي صفها، إذ أن مسلك جورج بوش قد أسقط آخر الحدود أو الفواصل بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فإذا هما واحد في فلسطين كما في لبنان (وسوريا)، وفي كل أرض عربية أخرى.
إرهاب الدولة هو إرهاب الدولة، وإسرائيل رائدة فيه.
وياسر عرفات لا يطلب أكثر من الإشراف على وقف إطلاق النار.
ليطلب! مَن سيسمع مثل هذه الدعوة، بينما قذائف ال<<ب 52>> تملأ العالم حرائق ودوياً ورعباً من هذا الجبار الأميركي الذي فوّض إلى نفسه صلاحيات الآلهة أجمعين؟!(السفير اللبنانية)
&