&
بعد مضي اكثر من شهر على الحملة العسكرية الامــريكية ضد افغانستـــان (بدأت في 7/10) ظهرت على السطح آراء عدة حاولت تقييم ما تم خلال تلك الفترة. وفي حدود متابعتي وجدت ان اغلب تلك الآراء يتراوح بين الحكم السلبي والحذر الذي لا يبدي اطمئنانا كافيا الى سير الامور، سواء لانه لم تتحقق نتائج ملموسة خلال الفترة التي انقضت، أو لان شهر رمضان قادم وهناك دعوات قوية لوقف قصف المناطق الافغانية والناس صيام، ام لان الشتاء قد لاحت بوادره والثلوج بدأت في الهبوط، على نحو من شأنه ان يعوق أي انتشار محتمل على الارض.
ولست اشك في ان الرئيس الامريكي جورج بوش يواجه موقفا بالغ الحرج لم يواجهه من قبل اي رئيس امريكي آخر، وذلك بسبب المشكلات الضخمة والعويصة التي تفجرت في وجه ادارته خلال السنة الاولى من توليه السلطة، بدءا بالكساد الاقتصادي وانتهاء بالرعب الذي اتسع من جراء ظهور الجمرة الخبيثة في الولايات المتحدة، ومرورا بالصدمة الهائلة التي ترتبت على هجوم 11 سبتمبر (ايلول) الماضي، وهي عوامل ثلاثة نقلت الى المواطن الامريكي مشاعر لم يألفها في حياته، بل لم تعرفها الولايات المتحدة في تاريخها، خاصة "الرعب" الذي تراجعت الى جواره مشاعر الاحباط الناشئة عن الكساد الاقتصادي، الذي يمكن احتماله والعيش في ظله بصورة نسبية، اما الرعب فهو ما لا يمكن ان يحتمله المواطن الامريكي طويلا، لاسباب تتعلق بظروف الامان المختلطة بالوفرة التي عاش فيها، والتي عدها نموذجا ونمطا هو الاعلى والارقى في العالم.
ليس سهلا ذلك الشعور بالخوف في الولايات المتحدة، فقد كان عنصرا ضاغطا على رئيسها، اضطره للتوسع في احتياطات الامن على حساب بعض الحريات المدنية، وهو ما الجأ الى انشاء وزارة للامن الداخلي، لاول مرة في التاريخ الامريكي، تعمل جنبا الى جنب مع شبكة مكتب التحقيقات الفيدرالي الهائلة، اضافة الى المخابرات المركزية، التي بدأت بعض دوائرها العمل داخل البلاد، وهي التي كانت تمارس عملها الاساسي في الخارج. ليس ذلك فحسب، وانما لاول مرة ايضا في التاريخ الامريكي كلفت طائرة "الاواكس" والطائرات المقاتلة القاذفة بنشر مظلة فوق المدن الامريكية، تماما كما تنشرها الان في شمال وجنوب العراق. كذلك لاول مرة تم استدعاء وحدات من الحرس الوطني التي كلفت بالقيام بواجبات الرصد والدفاع داخل الولايات الامريكية، وهي التي لم تكن تستدعى الا لوقف المظاهرات العنيفة أو الصراعات العرقية الجسيمة (مثل التي وقعت في الستينيات) أو الكوارث الطبيعية، ولا تنس الهستيريا التي تجتاح الولايات المتحدة بسبب احتمالات وجود بكتيريا الجمرة الخبيثة في الرسائل البريدية، التي تعد بمئات الملايين، الامر الذي يهدد بالشلل كل مرفق البريد، مع ما يستصحبه ذلك من تأثيرات اقتصادية واجتماعية ونفسية بعيدة المدى.
قرأت مقولة لاحد المفكرين الالمان ذكر فيها انه اذا حدث وقامت طائرة اخرى واحدة بالانقضاض على أي مكان في نيويورك وواشنطن، فان الرئيس الامريكي الذي يتمتع الان بثقة 91% من مواطنيه، سيبحث على الفور عن عمل له في شركة "ماكدونالدز". ورغم ما في التشبيه من سخرية مرة، الا ان القول بأن أي صدمة قوية اخرى داخل الولايات المتحدة ستنهي المستقبل السياسي للرئيس بوش امر لا شك فيه.
الإشكال الذي تواجهه الحملة العسكرية الامريكية في افغانستان لا يقل خطورة عن احداث الداخل. واذا كانت احداث الداخل قد هزت الاطمئنان والثقة لدى المواطن الامريكي، فان حملة الخارج التي لم تحقق ايا من اهدافها المعلنة بعد مضي اكثر من شهر، من شأنها ان تهز الاطمئنان والثقة في كفاءة وقدرة اداء الدولة الامريكية، الامر الذي من شأنه ـ اذا استمرت ـ ان يكون له صداه القوي في موازين القوى الدولية.
التعليقات القائمة على الاداء العسكري في افغانستان تتزايد في الصحف الامريكية، فالسناتور الجمهوري جون ماكين، والمحلل الصحافي روبرت كاجان، قالا صراحة ان الولايات المتحدة تخسر الكثير اذا استمر الاداء على الوتيرة الراهنة، وحذرا من الاعتماد على الضربات الجوية وحدها، ومن التردد في تبني الخيار البري. لكن الكاتب المعروف ويليام فاف، وزبيجنيو بريجنسكي (مستشار الامن القومي الاسبق) يعتبران ان الخطر الذي يتهدد المجهود الحربي الامريكي عائد بالدرجة الاولى الى ان الادارة حادت تماما عن اهدافها الاصلية المتمثلة في القضاء على تنظيم "القاعدة". في هذا الصدد قال بريجينسكي: "عندما بدأنا كنا نتجه الى القضاء على "القاعدة" ومعاقبة طالبان، اما الان فيبدو اننا منخرطون في الحرب الاهلية الافغانية، حتى اصبح هذا هدفا في حد ذاته تقريبا، وربما يكون ذلك مستنقعا".
وليام فاف ذهب الى ابعد، فكتب يقول ان "ما بدأ كحرب امريكية ضد الارهاب اصبح حربا ضد افغانستان"، وقال ان "اعتبار افغانستان بديلا عن الارهاب ليس ظلما فحسب، ولكنه يحول السياسة الامريكية عن وجهتها الاصلية والمقصودة الى امر بسيط يمكن التوجه اليه". واضاف ان "افغانستان اصبحت بديلا عن الارهاب لانه يمكن استهدافها عسكريا، اما الارهاب فوضعه مختلف واكثر صعوبة، وهذه الحرب الاخيرة ضد الارهاب ممكنة من الناحية العملية، لكن وسائلها تختلف، حيث لا يعتمد فيها على الجيوش وانما على اجهزة الشرطة والاستخبارات التي بوسعها ان تقتفي اثر الارهابيين وتقوم بتفكيك شبكاتهم".
مايكل كلير، الخبير الامريكي في شؤون الصراعات الدولية، اتفق مع هذا التقويم، وذكر ان ما يدور في افغانستان حربان مختلفتان رغم انهما تدوران على ارض واحدة، واعتبر ان شن هاتين الحربين في آن واحد يجعل من المتعذر النصر فيهما، فالحرب ضد تنظيم "القاعدة" هي التي تحظى بالاجماع الدولي، وينبغي ان تصبح حربا بوليسية دولية لتفكيك قواعد الارهاب في آسيا واوروبا والولايات المتحدة، وهذه الحملة الدولية لا تحركها سوى اجهزة الشرطة والاستخبارات، اما الحملة التي تشن ضد افغانستان الان والتي لا طائل من ورائها فلا تدعمها سوى بريطانيا وحدها.
دعا اكثر المعلقين الامريكيين الى وقف الحرب خلال شهر رمضان حتى لا تبدو الولايات المتحدة وكأنها تحارب الاسلام وتقتل المسلمين في صيامهم، الامر الذي يساعد على ترويج المقولات التي رددها بن لادن في رسائله، غير ان ويليام فاف يعتقد انه من الصعوبة بمكان ان تغير الادارة الامريكية مقاربتها للحرب الان، لاسباب عدة منها انها تريد ارضاء الكونجرس ووسائل الاعلام، رغم انها واثقة ان الحرب البرية يمكن ان تؤدي الى القضاء على بن لادن وجماعته، وهو ما يعني ان الادارة اصبحت فاقدة الاهتمام بحل سياسي، واسيرة تسرعها في بدء الحرب حتى قبل ان تتضح ابعادها كاملة.
في هذا الجو القلق لم يكن غريبا ان تبث وكالة الانباء الفرنسية في ذكرى مرور شهر على الحملة تقريرا من باريس تقول فيه ان الولايات المتحدة "تواصل حملة عسكرية غير واضحة الاهداف من دون ان يكون لديها حل يتضمن تغييرا سياسيا بديلا في افغانستان، واضعة مع ذلك نصب عينيها ضرورة تحقيق نجاح في وقت سريع"، ونقلت عن مدير المعهد الدبلوماسي والدفاعي في باريس فرانسوا جيريه قوله: "ان الوضع بالغ الدقة، فالامريكيون لا يملكون هدفا واضحا للحرب، لكنهم يجدون انفسهم في وضع يفرض عليهم تحقيق نصر ما".
اضافت الوكالة الفرنسية في تقريرها انه على الرغم من ان سلاح الجو الامريكي حطم ما امكن من البنى التحتية لقوات حركة طالبان، الا انه يبدو غير قادر على تمهيد الطريق امام انتصار حاسم لتحالف الشمال.
ونقلت عن محلل قريب من الاوساط العسكرية الفرنسية، رفض ذكر اسمه، قوله ان الامريكيين يلعبون الان ورقة الرهانات، مضيفا انهم يمارسون تكتيك "مربعات الموت" في اشارة الى استخدامهم قاذفات "بي ـ 52" التي تقضي على الحياة في المناطق التي تستهدفها، ويفترض بعمليات القصف هذه ان تفتح الطريق امام هجوم بري لكن مقاتلي "تحالف الشمال" الذي يضم هجينا من اثنيات مختلفة يبدو وكأنه يفتقر الى الحماس الكافي للقيام بذلك، واكد المحلل ان هذا التحالف الذي هزمته "طالبان" مرارا يخاف من المخاطرة في مناطق البشتون الذين يشكلون الغالبية في افغانستان.
وبات الوقت يشكل عاملا ملحا، اذ سيزيد الشتاء من صعوبة عمليات القصف المحددة وبالتالي سيكون من شبه المستحيل على الجنود التحرك وسط ظروف مناخية صعبة. واعتبر المحلل ان في "هذه الظروف" يبقى امام الامريكيين ايام معدودة كي يحاولوا تنفيذ رهانهم وتحقيق نجاح مهم لكن الخبراء يشككون في فرص الولايات المتحدة في تحقيق ضربة حاسمة وسريعة تؤدي الى سقوط "طالبان" وتحييد بن لادن.
وأضافت الوكالة في تقريرها ان بارتيليمي كورمان، من معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس، ذكر "اننا نتجه الى الانزلاق في مستنقع"، واضاف ان مقاتلي تحالف الشمال لا يستطيعون تحقيق شيء وحدهم ولا يوجد عدد كاف من جنود الولايات المتحدة في المنطقة.
القاسم المشترك بين هذه الآراء انها تعبر عن القلق واهتزاز الثقة في تحقيق الاهداف المرصودة، لذلك فلا مفاجأة في نتائج استطلاعات المحامي العام التي جرت مؤخرا، واشارت الى التراجع في نسبة المؤيدين للحرب، وتزايد الداعين الى وقفها. فطبقا لما نشرته "الواشنطن بوست" في 7/11، فان مؤيدي الحرب في فرنسا كانت نسبتهم 60% حين بدأت في 7/10، لكن هذه النسبة تراجعت الى 51% في 7/11، اما في المانيا فان معارضي الحرب الداعين الى وقفها نسبتهم الآن 65%، وهؤلاء وصلت نسبتهم في اسبانيا الى 69%.
اذا كان ذلك قد حدث بالنسبة للرأي العام الاوروبي، فما بالك به في العالم العربي والاسلامي؟ اجابة السؤال عبر عنها الى حد كبير رسم كاريكاتوري من اربع صور متتالية نشرته صحيفة "الوفد" القاهرية في اول يوم للشهر الثاني من القصف (8/11)، في الاولى ظهرت قلة من الجنود الامريكيين الذين وقفوا وسط الصحراء الافغانية منتفخين ومدججين بالسلاح وقد امسك كبيرهم بمكبر للصوت ومضى يقول من خلاله مهددا ومتوعدا: سلم نفسك يا بن لادن، المكان كله محاصر، وفي الثانية ظهر الرجل المنتفخ ذاته مواصلا تهديده: الافضل ان تسلم نفسك والا فلن نرحمك، في الصورة الثالثة بدا الرجل مهزوزا وعلى وجهه علامات الاعياء وقد غير من لهجته قائلا: سلم نفسك يا رجل لقد قصرت رقبتنا، اما في الصورة الرابعة فقد ظهر وجه الرجل والعرق يتصبب منه بينما تمدد احد رفاقه على الارض، وفي هذه المرة كان يقول متوسلا: اخي المؤمن، اختي المؤمنة، ابحثوا معنا عن بن لادن، ساعدونا عمر الله بيوتكم وسترها معكم.
ترى ماذا سيقول الرجل اذا ما طالت الحرب شهرا آخر؟(الشرق الأوسط اللندنية)
&