&&&&&&&&&&&&&&& حسونة المصباحي *
وسط هذا المشهد الثقافي العربي الكئيب، المليء بالضغائن والاحقاد والمؤامرات والاكاذيب اصبح كل شيء جائزا بما في ذلك تجاهل بل ودفن المبدعين الحقيقيين وهم أحياء يرزقون. وأعني بالمبدعين الحقيقيين اولئك الذين اختاروا ان يكتبوا في الظل، بعيدا عن الاضواء المبهرة، وعن المهرجانات التي تستهوي اصحاب المواهب الفقيرة، وعن وسائل الاشهار والدعاية الرخيصة.
اولئك الصامتون الهادئون، المنبسطوا لأسارير لأن قلوبهم بيضاء، الرافضون للانخراط في تلك الالاعيب القذرة التي شوهت وجه الثقافة العربية، وقتلت كل ما هو جميل وانساني فيها، وصديقي العراقي الاشوري صموئيل شمعون الذي اعرفه منذ عشرين عاما هو من هؤلاء، المبدعين، وعن جدارة. فقبل سنوات طويلة فاجأنا بديوان شعري جميل سماه "Old Boy" وفيه رسم بحذق وشاعرية رفيعة طفولته السعيدة في "الحبانية"، مسقط رأسه، والتي كانت تتعايش فيها اقليات متعددة، آشوريون وايرانيون وتركمان ومسلمون منسيون. وبالرغم من الاعجاب الشديد الذي اثاره هذا الديوان الصغير، اللذيذ، لدى العارفين بفن الشعر ولدى أرفع متذوقيه، فان صاحبه ظل متواريا عن الانظار، متحاشيا الخوض في التفاصيل، فان ألححت عليه، فرّ الى السينما، حبه الاول والاخير، قائلا: أمنيتي أن أكون سينمائيا.. أما الشعر فليس من خاصيتي!".
المفاجأة الثانية حدثت عندما نشر صموئيل شمعون في بعض الدوريات العربية فصولا من سيرته الذاتية مختارا لها عنوان "الحنين الى الزمن الانكليزي". ففي هذه الفصول التي يرصد ببراعة فائقة، وباسلوب أخاذ، وبلغة بديعة، اطوار طفولته باسرارها ومباهجها، آلامها وفواجعها، تمكن صموئيل شمعون من ان يقنع اصدقاءه المذهولين امام جمال نصه، بانه ناثر من الصنف الرفيع حتى وان اوحى لهم احيانا بسخريته المعروفة انه يكنّ احتقارا كبيرا لقواعد النحو والصرف والمحسنات البلاغية.
وخلال السنوات الاخيرة، وبمساعدة زوجته الانكليزية مارغريت أوبانك، بعث صموئيل شمعون للوجود مجلة متخصصة في ترجمة الادب العربي الى لغة شكسبير، وبالرغم من الصعوبات المادية التي لا تزال تعترضها حتى هذه الساعة، فان هذه المجلة التي تحمل اسم "بانيبال" تمكنت من نقل صورة جيدة عن الانتاج الادبي من العالم العربي راهنا، قصة وشعر ورواية ومقالا.. بل انها اصبحت مرجعا اساسيا في هذا المجال. معنى ذلك ان صموئيل شمعون انجز مشروعا ثقافيا لم تتوصل المؤسسات الرسمية، بما فيها تلك التابعة للجامعة العربية والى المنظمة العربية للثقافة والعلوم الى انجازه.
ولم أتفاجأ حين قرأت ان الصحافي عبد الله الجفري لا يعرف صموئيل شمعون، بل انه يستغرب (وبطريقة لا تخلو من العنصرية) كيف يتمكن انسان يحمل مثل هذا الاسم في ان يكتب بالعربية منتقدا روايته "أيام معها". لم أتفاجأ لأن السيد عبد الله الجفري يسلك دروبا اخرى، فهو يحب السير والكتابة تحت الاضواء الساطعة. وهو يميل الى السهولة والمجاملات مثل الكثير من الكتاب العرب، معتقدا ان ذلك يمكن ان يحقق له الشهرة المبتغاة. وهو يمضي وقته في امتداح اصحاب المواهب الفقيرة من الشاعرات تحديدا مفتتحا مقالته اليومية بأبيات غالبا ما تكون سخيفة، لا علاقة لها بالشعر، لا من قريب ولا من بعيد. وهو على ما يبدو، قارئ جد سطحي، يكتفي بالفتات، ويعرض عن كل ما هو عميق من "الاغذية الروحية" كما يسمي ذلك اندريه جيد.
والمؤسف ان الوقت لم يعد كافيا لكي يتدارك السيد عبد الله الجفري كل ما فقد .. وخير ما يفعله هو ان يتواضع ولو قليلا، وان يعلم ان الدنيا لا زالت بخير ولو كره الكارهون. وانها قادرة على ان تنجب مبدعين جيدين من أمثال صموئيل شمعون، قادرين على ان يعيدوا للثقافة العربية اشراقتها التي فقدتها بسبب أناس من أمثال الجفري.
حسونة المصباحي: كاتب تونسي مقيم في ميونيخ.