&
&
&
جوزف سماحة : تشارف الجولة الأولى من الحرب الأميركية على الإرهاب، على نهايتها. وتوشك الدورة الجديدة من مفاوضات التجارة العالمية على أن تبدأ. سقطت كابول ونجحت الدوحة.
للحرب بُعد كوني مؤكد. والمفاوضات التجارية كونية بالتعريف. القوى الدافعة في الحالة الأولى تكاد تكون نفسها في الثانية. ومثلها مواقع النفوذ الأقل أهمية. وفي حين بدا أن قناة <<الجزيرة>> هي التي <<استضافت>> الحرب، فإن قطر استضافت الاجتماعات.
أي نوع من العلاقة بين حدثين بهذا الحجم؟
لا بد، قبل الإجابة، من ملاحظتين تمهيديتين.
1 شهدت العولمة الاقتصادية اندفاعة كبيرة بعد انتهاء الحرب الباردة. وصاحب ذلك تركز كبير للسلطة العالمية في الولايات المتحدة. أصبح نموذجها الليبرالي البوصلة التي تقود البشر. أسعفها ازدهار التسعينيات في ربط النجاح بتصفية دولة الرعاية، والانقضاض على <<الرأسمالية ذات الوجه الإنساني>>. تأكدت أرجحيتها العلمية والتكنولوجية. اكتسح بثها الثقافي (ما دون الثقافي بالأحرى) المعمورة، فباتت أوروبا، وهي مَن هي، تطالب ب<<استثناء>>. تمّ إحكام الإمساك بالشرق الأوسط بعد حرب الخليج، وبجزء من أوروبا بعد حروب البلقان. وترافق ذلك مع توسع حلف شمال الأطلسي برغم التلعثم الأوروبي عن <<مكوّن خاص>> وسياسة خارجية وأمنية مستقلة. وثبتت الهندسة الأمنية الآسيوية. وتزامن هذا كله مع استخدام ذرائعي لافت لصندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة. وبات ميثاق الأمم المتحدة مثل لائحة المطاعم، تنتقي منها واشنطن ما يعجبها.
وكانت النتيجة أن برز تفاوت كبير بين عالم شديد التداخل وبين الافتقاد إلى مؤسسات سياسية دولية (وإقليمية) تدير شؤونه بحد أدنى من الديموقراطية. لا شيء سوى هذه <<الهوة الديموقراطية>> يوازي، عمقاً، <<الهوة الرقمية>> الشهيرة.
2 في مقابل هذه الحركة التوحيدية، ونتيجة طبيعتها المالية والتجارية، وبحكم رغبتها في القفز فوق الخصوصيات، كان العالم يعيش، في اللحظة نفسها، تذرراً لا سابق له. لم يعد استقطاب الحرب الباردة يلعب دوراً ناظماً. انفجرت نزاعات إتنية، وطائفية، وقومية، ولغوية يصعب حصرها. من كندا، إلى أميركا نفسها، إلى المكسيك، والبرازيل، وأوستراليا، وفرنسا، وإسبانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، وجمهوريات المعسكر الاشتراكي، والاتحاد السوفياتي، ومعظم البلدان العربية، والهند، والصين، والفيليبين، وأندونيسيا، والقارة الأفريقية بأسرها... إلخ. في كل هذه المناطق والبلدان، وأينما نظرنا في العالم، نجد صعوداً مدوياً للهويات على أنواعها، وبعدوانية تطال الأقربين والأبعدين.
إن هذا التشظي، وحده، يدحض أسطورة <<صدام الحضارات>>، لأن الدول المركّبة اجتماعياً، شهدت، كلها، توترات أفضت إلى طلاق سلمي، كما في حالة تشيكيا وسلوفاكيا، أو إلى احترابات دموية. إن عدد الحروب الأهلية ضمن حدود <<السيادات الوطنية>> يفوق بأضعاف عدد الحروب بين الدول وعبر الحدود في العقد الماضي.
إن هاتين <<الميزتين>> المتناقضتين شكلتا سمتي السنوات التي أعقبت سقوط الجدار وحرب الخليج.
لقد كان للعولمة <<رب>> يحميها فلم يجد المتضررون، بعضهم، ردا على ذلك سوى الالتجاء إلى آلهتهم، إلى أصنامهم بالأحرى.
بزغت، في الأعوام الماضية، حركات لمناهضة العولمة. وكان واضحا أنها، في كل بلد وعلى صعيد كوني، أقرب إلى تركيبة هجينة تضم قوى من أقصى اليمين العنصري إلى أقصى اليسار الفوضوي. اليمين أكثر كرهاً للعولمة، أي لأي تواصل، واليسار أكثر كرهاً لمضمونها الليبرالي المناقض لأمميته المفترضة وحس العدالة لديه.
غير أن فرزاً سرعان ما أصاب هذه الحركات. ويمكن الحديث، اليوم، عن تيار يعادي العولمة باسم الانغلاق، وآخر (تعددي) ينتقدها باسم عولمة بديلة وأكثر ديموقراطية.
ويمكن القول، مع قدر من المجازفة، إن أسامة بن لادن يرمز إلى التيار الأول. أما الرمز الأكثر تمثيلاً للتيار الثاني فعلينا أن نذهب إلى المكسيك لنجده: القومندان ماركوس. استفاد الاثنان من العولمة وما أنتجته: حرية الانتقال النسبية، حركة الأموال، سرعة التواصل الإعلامي، إنترنت، تنظيم الشبكات... إلخ، غير أن كل واحد من الاثنين سار في طريق.
عبّر بن لادن عن طرح شديد المحافظة والرجعية في تأكيد الهوية في هذا العالم المضطرب، ضد الآخر، أي آخر، ولمجرد أنه ليس أنا أو نحن. وسعى ماركوس إلى وصل هويته الهندية المجروحة في تشاباس، بآلام الآخرين جميعاً في المكسيك والعالم كله وأميركا الجنوبية خاصة. غرس رجلاه في التربة المحلية وبقي رأسه يراقب حركة الكون (بن لادن فعل العكس).
اختار أسامة العنف العاري ولو ضد المدنيين. وانحاز ماركوس، بعد كفاح مسلح دام ساعات وبرغم توفر الأسلحة، إلى العمل السلمي، الدؤوب. يريد الأول أن يقهر. يريد الثاني أن يُقنع. يعبّر الأول عن نموذج رديء للعولمة: ثقافة العنف السينمائي الأميركي، والذكوري تحديداً. يعبّر الثاني عن نموذج راق: ثقافة الحوار عبر إنترنت. ومن يقل حوار يقل وداعة تستتر الصلابة وراءها.
استنفر الأول الجميع ضده فاحتشدوا. أربك الثاني الخصوم فانشقوا. شُنت حرب على الأول وهي في الطريق إلى تحقيق أهدافها. أما الثاني فاضطر رئيسَ المكسيك إلى استقباله في القصر.
وتشاء الصدف، في اليومين الماضيين، أن يتم الدخول إلى كابول لحظة اقتراب مؤتمر الدوحة من نهايته. ينهار نظام طالبان أمام <<عولمة مسلحة وسعيدة>> تواصل مسيرتها الظافرة. لو كان لها أن تختار أعداءها لما وقعت على من هو <<أفضل>> من بن لادن.
لقد ألحقت العولمة الليبرالية هزيمة بالشق المحافظ من أعدائها في العالم الثالث (أقرانه في البلدان المتقدمة لم يُمَسوا بعد. حتى هنا ثمة تمييز!). قد لا تكون الهزيمة نهائية. غير أنها ترسم، بالحديد والنار، حدود القدرة على الممانعة المنغلقة على نفسها والرافضة الاندراج في سياق مشروع، ولو جنيني، لبناء عالم بديل.
ليس من الجائز أن يُفرض على الآخرين التعرف إلى أنفسهم في هذه الهزيمة. فهم يدركون أنهم مهزومون سلفاً، وأن سبيلهم إلى الخروج من حيث هم لا تختصره المسافة بين المطار والبرجين، ولا تصادره كلمات قليلة مهما حظيت بنسبة مشاهدة واستماع عالية.
إن رهان هؤلاء على تغيير العالم لا تدميره. وهم يدركون أن الموجة التي تجتاح مواقع المقاومة عاتية جداً. ولعل دليلهم على ذلك، فضلاً عن كابول، الدوحة. فلقد تقرر في العاصمة القطرية المضي في النهج الماضي نفسه معزَّزاً بحراسة الذين أسقطوا العاصمة الأفغانية. هناك مَن يعارض النهج والحراسة ويرفض أن يكون في <<فسطاط>> بن لادن، أو <<معسكر الخير>> لصاحبه جورج بوش.(السفير اللبنانية)