واحد من قوانين السياسة التي قلما يتم الاعتراف بها هو قانون النتائج غير المتوقعة. وهو يعني القيام بشيء على امل التوصل الى نتائج محددة، ولكن ينتهي الامر بنتائج، غير متوقعة عادة. ومع هروب طالبان وحلفائهم "العرب" يبدو ان ذلك هو ما يحدث بالنسبة للحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد الارهاب في أفغانستان.
بدأ المشروع بهدف محدد وهو عقاب عصابة القاعدة لدورها في الهجوم الذي وقع في 11 سبتمبر ضد نيويورك وواشنطن. وبعد شهرين فقط نشاهد عدة تغييرات عميقة في السياسة الخارجية الأميركية، ولا سيما في ما يطلق عليه "قوس الازمات" الاسلامي الممتد من جنوب غرب آسيا الى شمال أفريقيا.
لقد كان هجوم 11 سبتمبر حدثا غير مهم تقريبا في ما يتعلق بتأثيره على توازن القوى العالمي والوضع الدولي القائم. فقد بقيت الولايات المتحدة القوى العظمى الوحيدة بعد تلك الهجمات كما كانت قبلها. كما لم تظهر أي كتلة قوى منافسة يمكن ان تستغل الهجمات لمصلحتها وتحاول اثارة الاضطراب الوضع الدولي القائم. ان التأثيرات الاساسية للهجمات، واكثرها ديمومة هو التأثير النفسي، قد اقنعت الأميركيين، على كل المستويات من الشخص العادي الى صانع القرار، بأن القوة العسكرية للولايات المتحدة لا تحميها بالضرورة من مثل الهجمات الدموية من اعداء مصممين سواء في داخل او خارج الولايات المتحدة. كما اظهرت ايضا ان للولايات المتحدة عددا محدودا للغاية من الاصدقاء الحقيقيين الذين يمكنها الاعتماد عليهم. وفي ما يتعلق بالآخرين فان على الولايات المتحدة الاعتماد على تحالفات تكتيكية معتمدة على مصالح مشتركة مجردة وحسابات سياسية نفعية.
والسؤال هو: كيف يمكن ترجمة ذلك الى تغييرات سياسية محددة من جانب الولايات المتحدة؟
داخليا من المؤكد ان الاحساس الأميركي بقابليته للتعرض لمثل هذه الهجمات سيشجع التوجه السياسي في عدد واسع من القضايا. ومن المرجح ان يفقد ادعاء مرحلة ما بعد الحداثة بأن الغرب بقيادة الولايات المتحدة كان مسؤولا عن كل فعل شرير في العالم، على الاقل في الستة عقود الاخيرة، قيمته في الدوائر الثقافية في نيويورك وداخل الجامعات الأميركية ذات السيطرة اليسارية. فالولايات المتحدة ترى نفسها كضحية ولذا فسيمكنها تنشيط درجة من الطاقة الاخلاقية وراء سياستها الخارجية التي لم تشاهد فرانكلين روزفلت يقود الولايات المتحدة للحرب العالمية الثانية. ويتضح ذلك عندما شاركت تشيلسي كلينتون ابنة الرئيس الاميركي السابق في مسيرة بالاعلام للطلبة الأميركيين في جامعة اوكسفورد، حيث تدرس، تأييدا للحملة في أفغانستان. وقبل جيل شارك ابوها، الذي كان يدرس هو الآخر في جامعة اوكسفورد، في مسيرة لحرق الاعلام الأميركية ضد التدخل الأميركي في فيتنام.
وبخطوة اكثر تحديدا تجد الولايات المتحدة نفسها في موقف مماثل لما كانت عليه في عام 1941 لندن وموسكو، حليفتاها الرئيسيتان في صراع ضد عدو ايديولوجي مشترك. اما في ما يتعلق بالسياسات الاقليمية، فان الولايات المتحدة عادت مرة اخرى الى الخمسينات عندما كانت تركيا وباكستان حليفتاها الرئيسيتان في العالم الاسلامي. وفي عام 1956 تحدث وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون فوستر دالاس عن "الصف الشمالي" المتراس الأميركي القوي ضد الاتحاد السوفياتي خارج حلف شمال الاطلنطي. وكان هذا الصف يضم آنذاك كلا من تركيا وايران وباكستان التي كانت مرتبطة ببريطانيا والولايات المتحدة عن طريق "الحلف المركزي".
انهار الحلف المركزي خلال الاسابيع الاخيرة من حكم الشاه، لكنه عاد الآن الى الحياة في شكل جديد. هناك ايضا بريطانيا التي عادت الى السياسة في المنطقة كحليف رئيسي للولايات المتحدة، كما ان هناك كذلك باكستان كواحدة من العناصر الرئيسية في الاستراتيجية الاقليمية للولايات المتحدة. علاوة على هذه الاطراف هناك تركيا، فهي لم تفتح قواعدها امام القوات الأميركية لأغراض تتعلق بالجانب اللوجستي والعملياتي فحسب، وانما ابدت استعدادها على المشاركة بقوات، كما يجب الا ننسى ان لتركيا نفوذا في أفغانستان بفضل وجود زعيم الحرب الاوزبكي الجنرال عبد الرشيد دوستم، علاوة على ان الضباط الاتراك ساعدوا، في واقع الامر، في كل مراحل استعادة دوستم لمدينة مزار الشريف من قوات حركة طالبان.
وبما ان باكستان فقدت نفوذها في أفغانستان عقب انهيار حركة طالبان، لم يعد في يد اسلام اباد ما يمكن ان تقدمه للولايات المتحدة في ما يتعلق بمستقبل الحكومة الافغانية في كابل. لذا فان تركيا ظهرت كوسيط رئيسي في هذه المهمة الحاسمة.
ولكن ماذا عن ايران، العضو الثالث في "منظمة الحلف المركزي"؟
لم يعد سرا ان رجال الدين الحاكمين في طهران يسعون بشدة لايجاد تقارب مع الولايات المتحدة، لكنهم ليسوا على استعداد بعد لدفع ثمن ذلك كاملا. ففي حديثه امام الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك مطلع هذا الاسبوع، اشار محمد خاتمي مكررا الى ايران بـ"العضو النشط في التحالف الدولي المناهض للارهاب"، كما انه لفت انتباه الأميركيين في عدد من اللقاءات التي اجريت معه الى ان طهران استدعت المئات من اعضاء حرس الثورة من ما يزيد على عشرة دول حيث كانوا يقدمون مساعدات للارهابيين فيها، حسب ادعاء بعض الجهات. كما ان خاتمي اصر كذلك على ان العرب الخمسة الذين زعم "مكتب المباحث الفيدرالي" انهم موجودون في ايران، غادروا الاراضي الإيرانية مسبقا.
ليس من المرجح ان تعود ايران، خصوصا في ظل الحكومة الحالية، الى مؤسسة مثل "منظمة الحلف المركزي"، بيد انه من المؤكد ان خاتمي يدرك تماما ان قواعد لعبة السلطة في المنطقة تغيرت ولم تعد بأية حال كما كانت عليه في السابق. كما ان دول المنطقة كافة تعرف كذلك انه ينبغي ان تعيد النظر في سياساتها بصورة عامة في ظل ميزان القوى الجديد في المنطقة.
كل هذه الاحداث زادت من الاهمية الخاصة لمنطقة آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين، الذي يضم احتياطات هائلة من الطاقة، كما قللت في نفس الوقت من الاهمية النسبية للخليج والشرق الاوسط من زاوية وجهة النظر الطويلة المدى على الاقل. ولأول مرة منذ ما يزيد على عشرين عاما تدخل الولايات المتحدة طرفا في نزاع في المنطقة بدون ان يكون الى جانبها أي من الدول العربية الحليفة لها في المنطقة. علاوة على ذلك، بدأ الكثير من الأميركيين ينظر الى اسرائيل كعقبة وليس كمصدر مساعدة حسبما كان يعتقد في السابق. ثمة نظرة اخرى مشابهة تجاه حلفاء الولايات المتحدة العرب، فالشعور السائد في مختلف انحاء الولايات المتحدة هو ان الأميركيين وقفوا مع حلفائهم العرب عندما احتاجوا اليهم، بيد ان العرب لم يتعاملوا مع الولايات المتحدة بنفس الصورة عندما احتاج الأميركيون لهم اخيرا.
عقب بضعة ايام من هجمات 11 سبتمبر الماضي، عكس رئيس الوزراء البريطاني توني بلير صورة زاهية عندما اشار الى تغييرات قال انها ستحدث بمجرد انتهاء الازمة الراهنة، فقد قال بلير ان "الوضع الدولي تغير تماما"، مضيفا ان لا احد يعرف على وجه التحديد الشكل الجديد الذي سيظهر، اما المؤكد فهو ان الكثير من كبار المسؤولين في الحكومات شرعوا بالفعل في العمل تجاه الشكل الجديد المشار اليه والذي سيبدأ في الظهور خلال الاسابيع او الشهور القليلة المقبلة.(الشرق الأوسط اللندنية)
&