&
&
الأفغان ملومون. ليس الشعب الافغاني هو المقصود باللوم. فهذا الشعب نفسه ضحية صراعات سياسية بين القيادات المختلفة سياسيا. المقتتلة عسكريا. إنما الملوم هو هذه القيادات (بدون استثناء).
هذه القيادات ملومة لأنها (فرطت) ـ الى درجة السفه والفجيعة ـ في فرصة تاريخية سياسية نادرة، تهيأت لها بعد انسحاب الجيش السوفيتي ـ مهزوما ـ من بلادها، في اعقاب كفاح طويل ومرير ومُعجب، فهذا الكفاح اظهر قيادات لم يكن لها هذا الوزن قبل الاحتلال. وكان يتعين على هذه القيادات: ان تعي عظمة هذه (النعمة)، وان تقدر ـ بعقلانية كاملة ـ هذا (المكسب) الضخم الواقعي الفريد. وان تحوّل هذا الوعي والتقدير والحساب الى استراتيجية نابهة صادقة متدرجة تبني بها الدولة، وتقيم بها مجتمعا متآلفا آمنا يكدح ـ بسرعة ـ لتحصيل حظوظه الكريمة والمشبعة من هذه الحياة، ابتغاء تعويض ما فاته من هذه الحظوظ.. وما فاته كثير جد كثير.
ولكن هذه الفرصة ضاعت بسبب فقدان الرؤية، والتناحر الملتهب، وتقديم ما هو (حزبي)، على ما هو (وطني)، بل على ما هو (اسلامي) ـ بالمعنى المنهجي المصلحي الجامع لهذا التعبير ـ. وهذه القيادات ملومة لانها لم تحسن الاصغاء الى (النصح)، بل بدا وكأن هذه القيادات متورطة ابدا في ازمة (رفض النصح)، والاعراض المتعمد عنه، ومقاومة مضامينه ومقاصده بثبات واطراد!
فقد نُصحت ـ في ازمنة زمنية متعاقبة ـ بما يلي:
1 ـ نصحت بأن امامها خيارات اربعة أ ـ خيار تفتيت افغانستان، وهو خيار خطر محفوف بعواقب مهلكة لا يتصور حقيقة آثارها حتى اولئك الذي يميلون الى خيار التفتيت: يأسا من الواقع القائم الكئيب، ب ـ وخيار الانفراد بالسلطة، وهو خيار تكتنفه صعوبات بالغة توشك ان تجعله مستحيلا في ظل الموازين المختلفة والتباين العرقي، واسهامات كافة الاطراف في حرب التحرير، وهي اطراف ترى ان من حقها ان يكون لها نصيب في أي صيغة او مكسب "!!" سياسي، جـ ـ خيار الاستمرار في الحرب الاهلية وهو خيار سيؤدي في النهاية الى حرمان الجميع مما يطمح اليه الجميع، د ـ وخيار توطين النفس، وترويض (الجموح السياسي) على قبول (المكاسب النسبية). ونقطة البدء في الاخذ بهذا الخيار هي: تحرير العقل، وغسل الارادة من (وهم المكاسب المطلقة).. والمراد بالنسبية هو التعايش السياسي من خلال صيغة واقعية قوامها: النسبية: نسبية الوحدة أو الوفاق.. ونسبية الفرص في السياسة والحكم.. ونسبية التدرج الزمني في تحقيق الاهداف الذاتية، والاهداف الوطنية العامة، هـ ـ وخيار ايجاد (العدو البديل) وتوجيه السهام كافة اليه. والعدو البديل هو (التخلف).. وليس سرا من الاسرار ان يقال: ان افغانستان بلد يفتقر الى مقادير هائلة من الحاجات الضرورية، وفرص النمو والتقدم في مجالات: الامن والاستقرار، والتعليم، والغذاء، والصحة، والحياة، والمأوى، والمواصلات، والادارة. ومن ثم، فان (المجد السياسي) الحقيقي في بلد كأفغانستان، يتمثل في (المباراة المفتوحة) من اجل تقديم الخدمات للناس بصورتيها: الفورية الناجزة، والطويلة المدى. وما لم يُقاوَم هذا العدو بجهود مشتركة، وتُنْقَه البلاد من امراضه، فإن الصراع السياسي يكون على ركام او حطام، ليس من العقل، ولا من الواقعية: التورط في ادارته، وتحمل المسؤولية الكاملة عنه دون الآخرين.
ولكن قيادات الفصائل الافغانية لم تصغ الى النصح.
2 ـ ونصحت هذه القيادات بأن اصرارها على الاحتراب والاقتتال والصراع المجنون سيهيئ الظروف لظهور (طرف ثالث) يستفيد من حالة الانهاك التي تبوء بها الاطراف المتصارعة، يستفيد من ذلك، ويخطف الحكم او الدولة من المتحاربين اجمعين.. ولقد ظهر هذا الطرف الثالث وهو (حركة طالبان). ومصطلح الطرف الثالث لا يقصد به (السقف النهائي) لتوالد البدائل. بل هو رمز للتداعيات والبدائل المحتملة، وإلا فإن الباب مفتوح ـ دون حراس ـ لظهور طرف رابع، وسابع، وعاشر الخ.
3 ـ وجاءت طالبان، فنُصحت بأن تنزل الى عالم الواقع لانها محاطة بواقع محلي واقليمي ودولي لا يسمح لها بالتحليق مع المثاليات المفرطة في تطبيق الاسلام. ولذا فواجب عليها ان تتواضع جدا وهي تتعامل مع القريب والبعيد، والا تهلك نفسها في سبيل مثالية وهمية لم يوجبها عليها الاسلام. لكن طالبان ـ وقد خالفت السنة في الاعتدال ـ اذلت نفسها بتحمل ما لا تطيق.. ونصحت طالبان بأنها تقع في خطأ جسيم، بل قاتل اذا ظنت انها ستظفر بمكاسب سياسية مطلقة ذلك ان سبب خيبة الفصائل التي سبقتها في الحكم هو: الاصرار على المكاسب المطلقة. وما وقع لتلك الفصائل سيقع لطالبان اذا هي مشت في الطريق الخاطئ. ونصحت بأن من اول مسؤولياتها التي يجب ان تباشرها بلا تردد ولا تسويف: ان تنفض يدها من الارهاب جملة واحدة، وبحزم ووضوح لا يعرفان المجاملة، وهي لا تستطيع ان تفعل ذلك الا بموقف فكري سياسي يناهض الارهاب ويتبرأ منه، وإلا باجراءات عملية تصدق الموقف المعلن بوقائع محسوسة على الارض. وذلك لئلا تكون (بؤرة) للارهاب والعنف. فالارهاب لا يمكن ان يكون عملا شرعيا ـ ولو القى معاذيره ـ. ثم ان الارهاب يجر على افغانستان ما لا تطيق.. ونُصحت بأن (الاخلاص) ـ على افتراض وجوده ـ لا يكفي وحده لادارة الدولة، ولا سيما ان افغانستان تعد من اشد الدول تخلفا في شتى المجالات، بمعنى ان هناك مسؤولية مضاعفة تجاه ادارة الدولة على نحو مخطط وسليم.. ونُصحت بأن تتعلم، وان يكون علمها راسخاً بان تطبيق الاسلام لا يطيق غلوا ولا تشددا، ولا يحتمل تزمتا ولا تنطعا، إذ الاسلام هو منهج الاعتدال واليسر. فلا يصح ـ بحال ـ: ان يكتنف تطبيقه: غلو او تشدد، او تنكيس للاوليات او نظرة تضّيق سعته وطلاقته وسماحته.
ولكن طالبان لم تصغ الى (النصح). بل ربما لم تطلع عليه في "الشرق الأوسط" و"المسلمون".. وعدم الاطلاع يضاعف تبعة التقصير ولا ينفيها. لان من الف باء السياسة: ان يفتح من يهمه الامر عينيه كلتيهما على كل ما يتناول شؤونه واحوال بلده.
ومهما يكن من سابق الاحوال، فانه قد جرى في افغانستان ما جرى ـ نتيجة للغباوة والانتهازية والتقصير والاحتراب ـ بل لا يزال يجري. وهي كلها سياقات وازمات اوردت افغانستان الى المهلكة التي هي فيها الآن.
فما المخرج؟
المخرج هو:
1 ـ الاتفاق او عقد الاجماع على الاسس الثلاثة الكبرى للوحدة الوطنية وهي: وحدة التراب الافغاني.. والاسلام.. واعتبار التنوع العرقي والمذهبي واعطاء هذا التنوع فرصه العادلة والكاملة في كل شيء، في ظل أساس وحدة التراب.. وأساس الاسلام.
2 ـ استقلال القرار الافغاني. فدور الاطراف الخارجية ينبغي ان يكون (عنصرا مساندا) لا ملغيا للقرار الافغاني، ولا ممليا له. وتتوكد اهمية استقلال القرار الافغاني بالنظر الى ان من اعمق اسباب الازمة الافغانية: التدخلات الخارجية الانانية والاستفزازية: الاقليمية والدولية. فالاستدعاء المتبادل ـ من قبل الفصائل الافغانية ـ للتدخلات الاجنبية جعل افغانستان مصطرعا للمنافسات السياسية والاستراتيجية الحادة، على الصعيدين: الاقليمي والدولي.. وهذا جزء من الازمة، واستبقاؤه يزيدها تعقيدا.
3 ـ تحديد معايير موضوعية لاختيار الاشخاص الذين يتولون الامور العامة.
4 ـ وضع خطوط عامة للسياستين: الداخلية والخارجية.
5 ـ تكوين حكومة مؤقتة صحيحة التمثيل.
6 ـ عقد مؤتمر وطني عام تنبثق منه القواعد او المقومات الخمسة الآنفة.
7 ـ خلط ذلك كله ـ في الاجراء والتوقيت ـ بخطة تنمية شاملة تشعر الافغانيين جميعا بأن الامر جد لا هزل فيه، وبأن التزامهم بتلك المقومات له مردود مادي وحقيقي وسريع، على انفسهم وزوجاتهم واولادهم وبيوتهم ومدارسهم ومزارعهم وأسواقهم.
وبغير هذا، تظل الازمة قائمة، او انها تحل بطريقة تسكينية قصيرة النظر، يختلط فيها ما هو موضوعي صحيح، بما هو ايديولوجي خائب .. مثلا: من الاستغلال السيئ جدا لظروف افغانستان: تقديم حلول هي ذاتها ازمة او كارثة. فتركيا تدعو الى ان (نجاة) افغانستان تمثُل في تقليد (النموذج العلماني التركي).. وكأن هذا النموذج قد كفل لتركيا التقدم العظيم المتوازن. وكأنه قد حمى تركيا من الزلازل والصراعات الداخلية. ثم انه طرح جاهل ـ منهجيا وموضوعيا ـ بالسوابق واللواحق. بمعنى ان (الحلول المتطرفة) لم تنجح في افغانستان. فقد فرض الملك السابق محمد ظاهر شاه العلمانية على افغانستان، اي على شعب مسلم، ففتح بذلك ابواب ردود الفعل المتطرف.. وجاء النظام الشيوعي ليحاول نسخ الاسلام من تلك البلاد، فاصطدم برسوخ الاسلام وقوة مقاومته.. ثم جاءت طالبان بغلوها وتنطعها ومراهقتها السياسية فخابت.. ومن هنا يتبين ان قضية الهوية ـ في افغانستان ـ لا تحل بالعلمانية، ولا بالشيوعية، ولا بالتنطع الديني. وانما تحل وتحسم بالاسلام الذي دعا اليه الامام العظيم ابو حنيفة، وسائر ائمة التوسط والاعتدال، في الاعتقاد والفهم والعمل والسلوك والعلاقة بالاخر (الشرق الأوسط اللندنية)