&&&&&&&&&&&&&& د. عبد الحميد الأنصاري *

تذكرنا الطروحات الفكرية والسياسية والدينية حول الاحداث الجارية على الساحة، بحدث مفصلي في التاريخ الاسلامي له ارتباط بالحاضر، حينما قام الخوارج "اول تنظيم ارهابي" بالخروج على الامام علي كرم الله وجهه، الحاكم الراشدي العادل، بحجة انه حكمّ الرجال، ولا حكم إلا لله، ويجب عليه ان يتوب من هذا الذنب او يُقاتَل، وانطلقوا منها الى تكفير المجتمع، واعتبروا كل من خالف رأيهم او سكت وقعد عن الخروج معهم كافراً، وأباحوا تبعا لذلك دماء المسلمين. ومع انهم كانوا اشد الناس تدينا واكثرهم اخلاصا لعقيدتهم وحبا في الفداء والشهادة، وقال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم (يخرج في هذه الامة قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حلوقهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية...).
إلا ان الامام والصحابة رضوان الله عليهم، لم يترددوا في الوقوف ضدهم وتعرية طروحاتهم، ولم يقوموا بتبرير طروحاتهم بمبررات زائفة ومسوغات مضللة، كما يحصل الآن لطروحات الخوارج الجدد، بل قاموا يدا واحدة وحاربوهم وهزموهم شر هزيمة في النهروان (37هـ).
هكذا كانت الامة عندما كانت تسير صُعُدا في المسار الحضاري لتقود البشرية. ولكننا اليوم نجد خوارج عصرنا الجدد، اسعد حظا، اذ يجدون فضائيات تتبنى طروحاتهم، ترددها بلا كلل صباح مساء، تجعلهم نجوما جماهيرية، وتستضيف محللين يبررون ويسوغون افكارهم، وتتطوع رموز دينية بإصدار فتاوى تلزم الوقوف معهم وتعتبر السكوت او القعود عن مناصرتهم اثماً، وتتنادى بالجهاد ضد الصليبية التي تحارب الاسلام، وتسعى جاهدة لتحريض الجماهير العربية ضد انظمتها التي وقفت مع عدوة الاسلام (امريكا).. تماما كمقولات اهل الارهاب ـ ومن المحزن ان يصدق البعض هذا التضليل فيخرج هاتفا بحياة بن لادن ويتورط في عمل أحمق ضد من سموه عدو الاسلام وتكون النتيجة هلاكه ومأساة اسرته، ثم نرجع باللائمة عليه ونترك المحرض الذي دفعه للهاوية ينعم من غير مسؤولية!!
والسؤال ومن منطلق شرعي وعقلي: الجهاد ضد من؟ ومن اجل من؟ ومن يملك هذا الحق؟ هل نترك امر الجهاد لخطباء ووعاظ وسياسيين متشنجين يعلنونها حرباً تدمر الاخضر واليابس ام ذلك من حق ولي الامر وحده؟
هل يملك هؤلاء حق تحريض وشحن الجماهير لتتورط في اعمال تخريبية يروح ضحيتها ابرياء وتضر مصالح الدولة ام يجب تقييد هذا الحق بما لا يضر المصلحة العامة؟
من اعطى الاحزاب السياسية الدينية حق اعلان الجهاد والإضرار بمصالح الامة العليا؟ لقد قام علماء السعودية بواجبهم حينما اعلنوا صراحة انه ليس لاحد ان يفتي بالجهاد إلا ولي الامر ـ هكذا تعلّمنا وهكذا نُعلّم ـ وينبغي على علماء المسلمين في الساحة الاسلامية ان يفعلوا مثل ذلك ويعلنوها صريحة.
هل يمثل طالبان وجها حقيقيا للاسلام يتنادى الناس للدفاع عنه؟ أليس طالبان هو ذات النظام الذي انتقد علماء المسلمين في كثير من المناسبات ـ قبل 11/9 ـ العديد من ممارساته (عثمان ميرغني، "الشرق الاوسط"، 2001/10/24)؟
هل من حق الفضائيات حرية اذاعة طروحات ارهابية دعائية محرضة بحجة "مبدأ الحرية للجميع" تكون نتيجتها شحن المشاهدين روحا عدائية تدفعهم الى حماقات ضارة ام يجب على السلطة ان تتدخل لوضع ضوابط للحرية غير المسؤولة؟
ان الفارق كبير بين اتاحة النقاش لاناس يختلفون في افكار سياسية بطريقة سلمية وترك الميكروفون مفتوحا لجماعات تحمل السلاح وتمارس القتل لنشر افكارها (عبد الرحمن الراشد، "الشرق الاوسط"، 2001/10/17).
والسؤال الحيوي هنا: هل من حق هؤلاء باسم الحرية ان يقودونا ويقودوا مجتمعاتهم الى الهاوية؟
لقد كانت نتيجة هذا الشحن المضلل ان نسبة %83 في استفتاء اجرته احدى القنوات الفضائية اعتبروا بن لادن مجاهداً وليس ارهابياً، وان ما يقوم به من تحريض ضد المصالح الغربية والامريكية جهادا.
هكذا يشوه مفهوم الجهاد ويختطف من قبل الارهابيين، والواجب على علماء المسلمين تصحيح هذا المفهوم واستعادته ممن خطفوه.
لماذا كل هذا التعاطف وكل هذا الدفاع عن خوارج عصرنا؟ وهل تكفي العاطفة العمياء او نزعة مناهضة امريكا المتغطرسة ـ وهي نزعة كما يقول كنعان مكية على يد شخص مثل بن لادن ليست إلا الشكل الاحدث والاكثر خبثا لفكرة احتضنها في الاصل ما يُسمى بمثقفين عرب قوميين وتقدميين تحت مجموعة من التصنيفات مثل مناهضة الامبريالية ـ هل تكفي تفسيرا لجعل الارهابيين ابطالا؟
لقد كان من سوء حظ الخوارج القدماء عدم وجود فضائيات في عصرهم، وقد كانوا ارحم من خوارج عصرنا، اذ استباحوا دماء المسلمين دون الذميين حفظا لذمة بينهم، ولكن خوارجنا استباحوا دماء الجميع.
لقد اخطأ معظم المحللين العرب بربطهم تفجيرات 9/11 بسياسة امريكا في الشرق الاوسط، خطأ مزدوجا:
الاول: لأنهم قدموا اعترافا ضمنيا بمسؤولية اطراف شرق اوسطية، وهذا وان تأكد في ما بعد عبر اضخم عملية تحقيق توصلت الى ادلة اقتنع بها العالم جميعا دون جماعة من اصحابنا وجماهير هنا وهناك تعيش في عزلة عن العالم وتعزز ايضا باعترافات لافراد من القاعدة وزعيمها (وعلى سبيل المثال حيثيات حكم المحكمة الامريكية على الاربعة الذين فجروا السفارتين وتصريحات بن لادن ومساعديه، واعترافات المدمرة كول، واعتراف من قبض عليه في العليا في السعودية).. وزادته تأكيدا مقارنة ملامح وسمات الجريمة الحالية بالجرائم السابقة للقاعدة، إلا ان المحللين العرب وقعوا في خطأ المسارعة بتقديم ادلة الاتهام قبل ان تشير اصابع الاتهام الامريكية الى اية جهة.
الثاني: انهم حين ربطوا التفجيرات بفلسطين، اوحوا بأن المبرر انتقامي، وسرعان ما تلقفه بن لادن ليبرر عمله، وتأكد زيف هذا المبرر من واقع السجل الاجرامي الطويل لتنظيمات الجهاد والقاعدة والذي لم يسجل حادثة ضد اسرائيل.
يقول الامير تركي الفيصل ـ رئيس الاستخبارات السعودية السابق وهو اعلم الناس بسجل بن لادن ـ "اين انت من فلسطين؟ هل قتلت اسرائيليا واحدا؟. هل تبرعت بدولار واحد لتجهيز مجاهد في فلسطين؟ لا والله ذلك بعيد عنك وعن تفكيرك"؟ ("الشرق الاوسط" 10/9)
ولمن اراد التأكد من صحة الادلة مشاهدة الحوار المطول للأمير مع MBC عبر 6 حلقات، نقلت صحيفة "الشرق الاوسط" اجزاء منه (4 ـ 2000/11/8).
ولقد احسن القادة الفلسطينيون حين رفضوا ادعاءات بن لادن وقالوا انه لم يقدم شيئا ولم تكن لهم صلة به (قدومي، "الشرق الاوسط"، 2001/10/15).
انه قميص عثمان يحيا من جديد ليثير الفتنة مجددا، وقد وصف الرئيس مبارك هذا الربط بأنه (تمحّك) من الارهابيين بالاسلام وفلسطين حين اقترب موعد العقاب ("الشرق الاوسط" 10/10/2001).
ويؤكد كذب هذا المبرر والربط ان البرامج المعلنة لتنظيمات الجهاد المختلفة والقاعدة لا تتضمن محاربة اسرائيل، وانما المنظومة الايديولوجية لهذه الجماعات كلها تقوم اولا واخيرا على هدف رئيسي محوري هو:
تكفير المجتمع والدولة بهدف الوصول للحكم لاقامة دولتهم المزعومة، ولما يئسوا بعد سلسلة العمليات الاجرامية في الارض العربية التي ذهب ضحيتها المئات اوعز لهم شيطانهم ان الانظمة العربية صنيعة الغرب، وأميركا حسب زعمهم هي الحامية لهذه الانظمة، فاتفقت كلمتهم على محاربة امريكا في عقر دارها لتخلو الارض العربية يعيثون فيها فسادا.
ولذلك فإن المحاولات التي يلجأ اليها بعض المحللين العرب لتجاوز هذه الايديولوجية بدعاوى ومبررات انما هي تضليل متعمد للمشاهدين ولا هدف له الا التنفيس عن عقد الكراهية والعداء لأمريكا، ودفع الناس لارتكاب حماقات ضدها، هم اول من يتنصلون من مسؤوليتها ساعة الجد.
إذن ما هي المبررات؟ هل هي الفقر ام القهر السياسي ام الجهل؟ يستعرض الدكتور الرميحي المبررات الثلاثة، فيقول اما الفقر فقد يكون صحيحا جزئيا في حالات استثنائية الا ان الملاحظ ان بعض الاشخاص المنخرطين في العمل الارهابي وكثيرا من قادته جاءوا من شعوب تعيش في بحبوحة من العيش، اما القهر السياسي فقد يكون صحيحا في بعض المجتمعات العربية، الا ان هناك هامشا من الحرية يضيق او يتسع في معظم الدول العربية، كما ان هناك بلدانا في العالم الاسلامي لا يتمتع اهلها بأي مساحة من الحرية والمشاركة، ورغم ذلك لم تلجأ هذه الشعوب او بعضها الى ما لجأ اليه منفذو تفجيرات 11/9، اضافة الى ان هذه التنظيمات ومن خلال كتاباتهم واعلاناتهم ليست لديهم اية اشارات تجاه (الحرية)، ولا تشكل الحرية مطلبا من مطالبهم الحيوية، اما الجهل فإن النظرة المتأنية تثبت أن الفاعلين يعرفون الكثير والكثير من التقنيات الحديثة المعقدة، درسا وممارسة ناهيك عن القدرة على التنظيم والتخفي.
وبعد:
اذا لم تصلح المبررات السابقة تفسيرا للظاهرة الارهابية فما هي الاسباب والمبررات؟ في تصوري ان النفس الانسانية وبخاصة المسلمة السوية، تنفر من الارهاب ولكن الافكار الارهابية تجد بيئتها الخصبة والمواتية عندما تسود المجتمعات ثقافة متعصبة يتجرعها الناس تجرعا، فتكثر حالات تكفير المخالفين ـ دينيا ـ وتخوين المعارضين ـ سياسيا ـ وتحريض الجماهير اعلاميا.
وتتلقفها نفوس قلقة قاست ويلات وسيئات تربية وتنشئة غير سوية، وتغرس غرسا في عقول عانت من تعليم مغلق لا مجال فيه لتعدد في الآراء والاتجاهات.
لننظر في مناهج تعليمنا ولنقوّم اساليب تنشئتنا ولنراجع نوعية تثقيفنا وأداء اعلامنا، تلك هي البدايات الصحيحة لمكافحة ثقافة الارهاب، ولا اجد خيرا مما كتبه عثمان الرواف ("الشرق الاوسط" 23/10/2001) من ان هناك ضرورة كبيرة في العالم الاسلامي لمخاطبة الجماهير بصراحة وموضوعية وبلغة العقل لا القلب، ويتحمل المثقفون المسؤولية الاولى قبل القادة السياسيين. من ناحية اخرى فإن المثقفين الذين يلعبون على عواطف الجماهير لكسب ودها يخونون امانة المسؤولية ويخونون الامة الاسلامية تماما. (عن "الشرق الاوسط" اللندنية).
* عميد كلية الشريعة والقانون ـ جامعة قطر
&
&