&
-4-
&
قصَد قاسم شاطئ دجلة كعادته حين يود التأمل العميق في أمر عميق . . فهناك أمضى يوماً يمسد الرمل حالماً بذراع حسيبة البيضاء عندما رآها ذات فجر أبيض، وهناك كان يكمل النقص في أذنه من غرين الشاطئ و يتمرآى في البرك، وعلى الرمل أيضاً أبدع الـخط القاسمي وعلى الحصى قرر الفرار من الجيش وعدم الاشتراك في الحرب، وتأكد من قناعته في أن يُقتَل خير من أن يَقتُل، وهناك حدثني عن ذلك قبل أن يعدموه وسط ساحة القرية، والى هناك يتجه الآن ليفكر في رسم.. وطني يرتق به ما تفتق في علاقته مع أبيه، وعند مروره بحقول الذرة رأى أخاه سعدياً ومجموعة أولاد يتقافزون بين رماح القصب فصاح بهِ "ماذا تفعل هنا ؟" فرد سعدي بجوابه المعتاد: "ألعب" وأمره بالذهاب إلى البيت ثم مضى بلا استعداد للاستماع إلى رد أخيه أو للتأكد من تنفيذه لأمره، فلم يعد خافياً على أحد سلوكه بعد أن رآه أكثر من شخص في القرية وهو يرفع ذيل حمارة على كتفه ـ في وادٍ أو في حقل مشمراً عن دشداشته، محتضناً قفا الدابة وهي تفتح فكها وتغلقه بآلية ورغو لعابها يسيل، فيما تصفع شموس ظهيرات الصيف زاوية رأسه ولا يبالي بها ولا بكلام الناس أو كلام أخوته وضربهم له وربطهم إيـاه أياماً على جذع النخلة في جنوب الدار وتهديد أبيه له بالذبح، فقد ظل يخرج "للعب" مع الأولاد في الأودية و الأدغال وأخاديد الجبل وأركان البيوت المتهدمة. حين يأتي سعدي لزيارتنا، كنت أنظر إليه طويلاً لأطابق ما أسمعه عنه مع هيئته فأجده إنساناً عادياً مثل كل الناس لولا الزاوية الغريبة في آخر رأسه وابتسامته البلهاء. صعب علي كثيراً أن أتخيل ما قيل عنه إلى أن وجدت نفسي في فخّه عند قيلولة أهلنا في ظهر يوم تموزي . لم يكن سوانا ـ أنا وهو ـ في مخزن الأشياء التي يركنها أبي للـغبار ـ ويقول للمستقبل ـ كنت أصغر من سعدي وألهاني اللعب معه عن النوم والشمس حتى فاجأني بمد يده إلى خصيتي، فأجفلني الحدث وتراجعت حتى التصق ظهري بزير الماء المهمل في الركن المعتم، بينما ظل وجه سعدي ـ بلا انفعال ـ صورة ثابتة ـ كما هي ـ ابتسامة بلهاء وملامح ميتة ... أخذ يقترب مني ببطء فوددت لو أستطيع الصراخ كي أوقظ أهلي أو أنبّه كلبنا اللاهث في الظل، لكنني كنت أشعر بالاختناق وحين فكرت في رفسه والانقضاض عليه ضرباً ثم الخلاص ... تأكدت لحظتئذ أنه يكبرني كثيراً فقد كان جسده يسدّ مربع ضوء الباب من ورائه. وضع كفه على كتفي فارتعدت، ثم نفضتها عن كتفي حين تذكرت بأنني في بيتنا وليس في بيتهم أو أي مكان آخر ... همس لي : "لا تخف .. أريد أن نلعب لعبة الدجاجة والديك، العروسة والعريس، النعجة والكبش، الكلبة والكلب، الحمارة والحمار... وهكذا مثل كل شيء وسوف تكون أنت الديك والعريس والكبش والكلب والحمار" ووجدتني أطرح عليه التساؤل الذي كان ينتابني حين أسمع عنه: "ولكن أنت حمار وأنا حمار... أقصد أنت ولد وأنا ولد ؟." فأجاب بثقة: "لا عليك سأعرف كيف أكون حمارة." كان صوته دبقاً، شهوانياً، مقززاً وأنفاسه تفعم جو المخزن رطوبة ولزوجة، فهززت رأسي رافضاً . قرّب فمه من أذني / قَرَف / وقال: "ان لم تفعل سأقول لخالتي أمك بأنك تريد أن تفعل بي مثل الحمار والحمارة." فتشنجت جلدة رأسي وهتفت "لا..لا" لأنني لا أعرف ماذا سيحلّ بي لو علمت أمي بشيء كهذا.. أو أبي أو أي إنسان... ولا أدري كيف قرأ سعدي تخوفي فانحنى من فوره أمامي رافعاً أذيال دشداشته حتى لـفّها تحت إبطيه فوجدت نفسي ـ لأول مرة ـ أمام مؤخرة إنسان عارية.. هـالني كبرها وهي تسدّ العالم أمامي. كنت أنظر.. ولا أنظر، حتى سمعت صوته يأمرني.. أو يتوسل من رأس لا أراه: "هيا..هيا" وراح يهتزّ وحده بعد أن وزّع يديه: واحدة هناك.. تحت مع الرأس المتدلي، يهزّ بها شيئاً بنشوة وعذاب، ولفّ اليد الأخرى على ردفه ليسحبه فاتحاً إليته أمامي. صاح "هيا"& فدنوت بخوف ونظرت الى أسته والداخل الأسود المشعّر. فكرت في أن الناس تستر هذه البقعة لقبحها واستغربت أن لا تتعفّن وهي لا ترى الشمس أبداً: ملفوفة ـ هناك ـ تحتهم/ بينهم/ فيهم..تحتنا/ بيننا/ فينا.. على الدوام.. ربما قلت: انه اللحم المتعفّن فينا.. انه مصدر كل عفونتنا، وازداد سعدي اهتزازاً ولهاثاً واحتداماً وهو يأمرني بتقطع : "هيا..بس..ر..عة..ولو..بإ..ص..ب..عك " لقد أسعفني ـ فلا عرق توتر غير أعصاب المفاجأة والارتعاب ـ رفعت كفي بتردد وأفردت إصبعي الوسطى أمام سواد مؤخرته. كانت يدي ترتجف وجسدي يتفصّد عرقاً وسعدي يهتز ثم صاح: "هيا"& فغرست يدي في ظلمته السوداء على عجل، ثم ولّيت نافذاً إلى خارج المخزن. تعثرت عند الباب ولكنني وصلت بساط الشمس. نظرت إلى إصبعي التي كانت ما تزال منفردة فتقلبت أحشائي واجتاحني غثيان كريه حين وجدت إصبعي مغمسة بالغائط حتى منتصفها فتقيأت..هووووووع.. لا أحد يعرف كيف أصبح فيما بعد من أضلاع القيادة. تقيأتُ ورحت أمسـح إصبعي بالتراب وبالحائط ثم زحفت إلى حوض ماء الدجاجات وغسلتها فيه كثيراً كثيراً وخرج سعدي بدشداشة كاملة وابتسامة بلهاء وملامح ميتة، لوح لي برضى وابتعد يحمل زاوية رأسه العجيبة... حرصت بعد ذلك أن أبتعد عنه متحاشياً دون أن يغيّر هو من تعامله معي أو مع غيري، كان يسلك حياته بلا محاذير حتى مع أولئك الذين امتنعوا عن الزواج من وردة بسببه: خشية أن يأتي أبناؤهم كخالهم سعدي أو خشية أن يتغامز الناس من حولهم ويتلامزون... ووردة وحدها دون كل الناس كانت مثلي ـ سابقاً ـ لا تصدق الأمر..بل وتمنع نفسها من سماعه، فتغضب على من يهم بالروي لها...وحين تقدّم فوزي لخطبتها اشترطت عليه أن يحصل على موافقة أخوتها الستة بعد والديها بمن فيهم سعدي وعبّود ففعل فوزي غير آبه بنهي عائلته وأصحابه وتغامز أهل القرية. كان مشدوداً إلى سحر وردة ومدفوعاً بتراكمات صور الأفلام الهندية التي لم تفته مشاهدة أحدها منذ الأفلام المصوّرة بالأسود و الأبيض حتى الحديثة منها إذ يكتشف البطل ـ في آخر الأفلام ـ أن التي كان يحبها هي أخته التي ضاعت في الفيضان أو في مجاري نيودلهي منذ عشرين عاماً وذلك حينما يبصر على كتفها الوشم المماثل للوشم المطبوع على كتفه بعد أن يزيح عنها ثوب العرس. وكان الناس يرقصون ويدبكون في الخارج وتتعالى الزغاريد على صرخات الصبية لتنافس أصوات رصاصات بنادق أبناء عم العريس بينما رفضت وردة الـذهاب معهم إلى بيت عريسها قبل أن تتحدث مع قاسم على انفراد فاستجابوا بلا تساؤل وأوصدت عمتي الباب عليهما بعد أن ذكّرتها بأن تسرع...
& جلس قاسم أمام وردة في ثوب عرسها. كانت أجمل من لوحات عصر النهضة في أوروبا و من نساء قصور القياصرة والملوك.. قمر في ثوب عرس أو كائن من حلم.. فحتى جدّيتها عند التحدث لم تخفف من سلطة جمالها الأخّاذ.
قالت: "قاسم..أخي العزيز.. كيف& يخرّب رجل بعيد غريب علاقتك مع أبيك وأنت فلذة كبده؟ ". نهض قاسم نافخاً زفيره: "آوه يا وردة..ليس هذا بالوقت المناسب لهذا الهراء ".& نهضت ووضعت كفها البيضاء على ذراعه: "لن أذهب قبل أن أعرف" دار قاسم حول نفسه وحولها:" أ أنتِ مجنونة يا وردة.. الناس تنتظرك في الخارج.. دعي الأمر لوقت آخر."
ـ لا..الآن.
ـ الأمر ببساطة هو: أن أبي يصدق التلفزيون ويعتقد أن "القائد" يبني الوطن فيما أرى أنا عكس ذلك.
ـ كيف؟
ـ يا وردة..!
ـ كيف؟؟
ـ أبي يعتقد أن المكان أغلى من الإنسان وأنا أعتقد العكس.و" القائد " يستغل هذا الاختلاف ليضربنا ببعضنا دون أن تهمه أرض أو إنسان... فلا شيء في هذا العالم أهم من الكرسي عنده.
ـ ولكن هو لا يعرفكما..دعوه في كرسيه وتصالح أنت وأبي.. لقد أقلقني منذ تلك الليلة هذا الحضور الطاغي لذلك الغريب البعيد الذي لم أكن أنتبه لوجوده..من هو يا قاسم؟
ـ انه كائن دموي يا وردة.. يعني حنفيش، سيهلكنا إن لم ينقذنا منه رجل آخر.
ـ من ذلك الآخر يا قاسم؟
ـ لا أدري ولكنه حتماً.. سيكون رجلاً يستحق الاحترام.
ـ هل تعتقد بأن فوزي رجلاً يستحق الاحترام؟.
ـ أوهوه... يا وردة ...دعك من هذا الكلام الآن...الناس في الخارج ينتظرون. سنتحدث فيما بعد.
نظرت وردة في عيني أخيها عميقاً فانحنى على جبهتها و قبّلها قائلاً:
ـ مبروك.
دمعت عيناها وتوهّج العرس في الخارج، في حين سارع قاسم مارقاً من تـحت الرصاص لكي يلوذ بشاطئ دجلة، يفكر في رسم لوحة .. وطنية لأبيه ولوردة.
&
&