&
-8-&
الغياب .. أو وجه الحضور الآخر، ربما قفاه. غاب قاسم عن الحياة: روحه، وإن بقيت جثته في الساحة يحرسها شرطيان... وصور في رؤوس الآخرين... أكثرهم وردة وحسيبة، وغاب عبد الواحد في المقبرة، وغاب أحمد في المدينة، وغاب سعدي إلى حيث لم يدر أحد في البداية، ولكن بعض القادمين من العاصمة قالوا أنهم قد رأوه هناك:& في بعض المراقص والمطاعم والفنادق يضحك مع أقرباء "للقائد" يضحكون ويستبدل لهم السيارات... قيل: إنه يعمل معهم وهم يزوّدونه بمختلف البطاقات و الطاقات... قيل: أصبح غنياً وغطّى زاوية رأسه البارزة بالعقال الذي لم يضعه عجيل على رأسه منذ إعدام قاسم، وغاب عن مجلس قهوة القرية و عن الناس معتكفاً في زاويته في غرفة الضيوف ممدداً على ظهره، محدقاً باللوحة التي رسمها قاسم: وطن أحمر وقلب أخضر ونهران بيضاوان... و كفّ عن روي بطولة جده، أو بطولة عبد الواحد، كفّ عـن الحديث، إلا من إشارات طلب الماء أو مساعدته في الذهاب إلى المرحاض، و عمتي تجلس قرب رأسه: ناحلة، مُراقة الدمع طوال الوقت، بادية التغضنات في الوجه والأجفان وجلدة ظهر الكفين، تتناوب مع وردة على مسح خيط الدم النازل من تفاحة آدم في عنق عجيل... ذلك الخيط الذي عاود الظهور بعد أكثر من سبعين عاماً، بعد سماع& الطلقة الأولى على جسد قاسم، صار عجيل يشعر بإبرة القنفذ تؤلمه على غير ما نسي، فهي لـم توجعه هكذا حتى لحظة انغراسها عند لعب الأمس وسط الصبية الدشاديش قبل نظارته الطبية... خيط الدم مُصرّ على النزول / البقاء / الدوام، فكلما مسحته إحداهن، نزفت الإبرة خيطاً آخر على الفور، فكان عجيل يبعد أيديهنّ أحياناً عن مسحه حين يلحظ التعب واليأس يأخذهنّ... وَجَعه يتكرّس كلما أطال النظر إلى الصورة التي يبصر فيها وجه قاسم أحياناً... الولد البكر الذي بشّر مقدمه مسلطاً بسلامة رجولته، إلا أن موته الآن بهذه الفجيعة يضعه على تقاطع الحواف الحادة: بين عبد الواحد و قاسم، أيهما الذي...؟ أسئلة.. أسئلة ولا يعرف ماذا يقول... تستعصي التعابير كعادتها في حنجرته الموخوزة... كلاهما من صلبه، فيعاود النظر إلى الخريطة الحمراء التي أخذتهما معاً... وإلى شكل الأخذ؟؟... النتيجة: أنها أخذتهما.. لا يفهم فتدمع عيناه و يسيل خيط الدم من تفاحة آدم. تمسحه عمتي وتبكي وهي ترى انحدار دمعتي الحاج على جانبي رأسه، وتهم بأن تشكو له حالها.. حال قاسم بعد إعدامه، فتحدّجها وردة بنظرة منها وتعضّ على شفتها السفلى محذرة أمها، ليبقى عجيل وحده من دون كل الناس لا يعرف بترك الجثة وسط الساحة ثلاثة أيام... قال الشرطيان: تقول الحكومة ليصبح عبرة لغيره، وكنا نمرّ& نحن المعتبرين على بعد قليل، نراه أحمر، ملتوياً ومفترشاً بركة دمه المتخثر..ثم الناشف.. ملتصقاً به وذباب أزرق يطنّ حول ثقوبه، يطير ويحطّ عليها ويدخل ولا يبعده الشرطيان، فهـما بالكاد يطردان كلباً يتشممه أو فضول الناس، حتى فاجأهم الملا صالح ظهيرة اليوم الثالث وهو يخلع جبّته ويغطي بها الجثة دون أن ينتبه إلى الشرطيين الواقفين في الظل، فسارعا إلى حمله من ذراعيه وأخفياه ستة أشهر عاد بعدها هزيلاً، راعشاً، مصفرّاً& و مكرساً خطب& صلاة الجمعة للدعاء "للقائد" بطول العمر و الانتصارات كي ينعم الناس والأقارب الذين وجدوا في سعدي أداة لا تكترث، وفي أحمد عناداً أهش من صلابة استناد ظهورهم على دكّة قوة قريبهم "القائد" قالوا له: نحن الذين نصّبناك قاضياً فاحكم بما نأمرك به، قال: والقانون؟ قالوا: دعه جانباً نحن القانون.. ولم يستطع أحمد تخيّل إهمال القانون في الحكم وأرقام المواد... تلك التي حفظها وتشرب بها دمه وضربت في أعماق قناعاته، فتردّد. بعثوا إلى داره امرأة تحمل حقيبة تاجر، فتحتها جوار أقداح الشاي فوق الطاولة وراحت تخرج منها رزم الورق النقدية مفتعلة حاجتها لمساعدته في قضية، وحمل أحمد أكداس الورق ليعيدها إلى الحقيبة منزعجاً رافضاً فالتقطوا له الصور. هجموا على الدار والتقطوه ليرموا به في السجن "مرتشياً " ويرجع أطفاله إلى عمتي المنشغلة بالنواح ومسح خيط الدم النازل من تفاحة آدم. دُفع ثمن الرصاصات، ودُفن قاسم جوار عبد الواحد كما أرادت عمتي التي راحت تجلس بين قبريها صباح كل يوم... تبكي وتضحك وترتب الحصى الأبيض على الارتفاعين، تقبّل الشاهدتين وتعاتبهما على الرحيل المبكر، ثم تسألهما عن أحوالهما، وهل تمّ التلاقي بالجدود؟؟، ثم تنقل لهما الأخبار: أبوكما في الفراش لا يتكلّم، وردة لم تتزوّج، سعدي راح، يقولون: إن حالته جيدة لأنه يعمل مع الحكومة، أحمد في السجن، حسيبة تزرع الحقل وتبكي، شيماء مريضة، إبراهيم منشغل بالغناء، محمود لا أدري، عبود " يا حبة عيني " ازداد عواءه الليلي منذ أن...
...في الساحة يا قاسم، وأصبح صوته يخيف الأطفال، وترتعد من عوائه حتى النساء والكبار لأنـه عالٍ، طويل ، أليم ، كأنه ذئب جائع.. "يا حَبة عين أمـه". وكان بعض الناس قد شكاه فدارت به وردة على الأطباء ولم يسكتوه ثم مع عمتي طفن على السادة والدراويش الذين نصحوهنّ بأن يحفرنّ له حفرة شبيهة بالقبر جوار قبري أخويه ليبيت فيها ليلاً وتغطى بباب من خشب فتحمّس الكثيرون من أهل القرية لنصيحة الدرويش وهبّوا للمساعدة في الحفر ونجارة الباب وراحت وردة تأخذه عند كل غروب شمس بعد أن تطعمه عشاءه، تُنزله هناك ثم تضع الباب على الحفرة وعلى الباب بضع صخرات كي لا ترفعه الكلاب وفي الصباح تُعيده عمتي معها بعد وجبة البكاء بين قبريها.. قبورها.. الثلاثة... وأصبحت وردة طويلة الصمت والشرود، تنظر في داخلها إلى قافلة الغائبين في رحيلهم النهائي منتبهة إلى أنها لم تُكمل حديثها مع قاسم.. ذاك الحديث المقطوع الذي لم تتحدث غيره معه أو مع سواه إلا ما هو إجرائي للعيش وروتيني، وتتأمل أباها الآخذ بالتنازل والانزواء... في مكانه، صار ضئيلاً، هزيلاً ويزداد صغراً مع اللحظات... مثل ثلج يذوب، وحين تراه عن كثب في فراشه، كان يبدو ضئيلاً كأنّك تراه من بعيد... دخلت غرفة الضيوف عائدة من التنور وطبق أرغفة الخبز الساخن على رأسها، وجدته محدّقاً إلى اللوحة... عينان وخيط دم. نظرت إليه ثم إلى الصورة، و قفت بينهما تنقل بصرها... وضعت طبق الخبز عن رأسها على الأرض، و اقتطعت حافة رغيف محترقة، نظرت إلى أبيها الناظر إلى اللوحة واتجهت إليها. كانت عالية، فوضعت وردة تحت قدميها مخدتين وارتفعت على أصابعها، وبحافة الخبزة المحترقة أنزلت سهماً أسوداً اخترق منتصف القلب الأخضر وقلب الوطن الأحمر... أنزلت السهم بعنف ولوعة... تماماً مـثل ذلك الشاب الذي جاء مع فرق وزارة الرعاية الاجتماعية في مطلع صيف بعيد وتذكرت كيف نظر إليها ثم أنزل ذلك السهم الأبيض المسموم الذي قتل بقرة أمها، وسهمها الآن أسود: من فحم الخبز المحترق وما أن وضعت رأسه المدبب حتى سمعت خلفها هتاف والدها: "نعم... نعم... فهمت يا قاسم " التفتت إليه، كان يمد إصبعه باتجاه اللوحة، يرفع رأسه.. كأنه يحاول النهوض، ركضت نحوه لتساعده، لكنه أشار لها بتركه فأعادت رأسه إلى الوسادة ليستقر عليها بارتياح، دليله أثار ابتسامة على شفتين عتيقتين غائرتين في كثافة شيب اللحية والشارب... ازداد بعدها صمته ونزيف إبرته وذوبانه التدريجي يوماً بعد آخر حتى تماهى بعدها في فراشه ومات.. فكان خفيفاً أبيض، كحمامة بيضاء ميته، حين حملوه ليستقرّ بجوار قبور أبنائه.
&