&
-9-

انتهت الحرب التي سبق أن تنبأ إسماعيل بانتهائها فصدق وهو المعروف بأكاذيبه، وغادر محمود البلد متسللاً عبر الشمال. اختفى عبود ليلاً من حفرته/ القبر إلى حيث لا يدري أحد، ولا حتى كيف، انقطع عواؤه الليلي أبداً وتطلعت عمتي إلى حفرته صباحاً عشرات المرّات.. مئات.. ولم يكن فيها.. عواء.. سألت عنه عجيل و قاسم وعبد الواحد الراقدين جواره ولم يخبروها فبكت.. بكت عمتي حتى اهتزّ الماء الأزرق في عينيها وتمنّت وردة لو تعوي لها بدلاً عنه.. ولكنّها.. هي وردة.. كانت غارقة في شرودها وتمزقها الحزين ولـم تعبأ بسطوع نجم أخيها الذي صار يظهر ـ بعد الحرب ـ في التلفزيـون مترئسا رابطة أحباب "القائد"، حاملاً مقصه ليقصّ أشرطة معارض هداياه: صورة.. وسط تصفيقهم، ويقبّل الأطفال الحاملين الورود لاستقباله مغطياً رأسه بالعقال، وعلى وجهه تلك الابتسامة البلهاء والملامح الميّتة... فصول العام لا تعنيه /لا تعنينا / لا تعني أحداً / لا تعني وردة وعمتي.. فالتبدّلات ليست في كون السماء ممطرة أو مشمسة.. التبدّلات هنا.. أشيروا إلى صدوركم، وارسموا حول أنفسكم دائرة تعني الآخرين، وحسيبة خائضة في طين سواقي ري حقلها، كاشفة ذراعها لتبدّلات الفصول.. حتى فقدت بياضها، فلمن تظل بيضاء؟.. ناصعة البياض مادام قاسم قد رحل... وصارت عمتي تجيء إلى قبورها الأربعة كل يوم بعد أن كانت كل خميس ترافقها وردة لتبكي معها أحياناً، وتغيب في شرودها أحايين أخرى وعندما رسمت عمتي ـ بحصاة ـ مستطيلاً بجوارهما، قالت" هذا قبري" ونظرت إلى وردة كي لا تنسى الوصية أو لكي تبادر ـ هي الأخرى ـ إلى رسم قبرها بجوارهم، لكنّ وردة لم تتحرك.. لأنها لا تحب الموت.. ومع أنها ـ مثل الجميع ـ لا تدري أين اختفى عبود وكيف.. إلا أنها تود لو أن موتها ـ حين يحين ـ يكون اختفاءً..غياباً إلى حيث لا تدري ولكنها لا تريده: دفناً.
& مسحت عمتي أسفل شاهدة قبر عجيل برفق وكأنها تواصل مسح خيط الدم النازل من تفاحة آدم وقالت لوردة أو لنفسها "لم أكن أسأله إلا نادراً.. ومن ذلك أذكر أنني سألته عن معنى كلمة: مسامير" التي كررتها أمه ثلاث مرّات قبل أن تلفظ نفسها الأخير..قال: إنها تقصد الحياة: شبيهة بتفاهة ضحك عشيرتها في سهراتهم حين كانوا يحمّون المسامير على النار حتى تحمرّ ثم يسقطونها في إناء ماء بارد فتصدر صوتاً " كش " صوت برود المسمار. كش. ضحك .يضحكون لأجل هذا "الكش"*... قالتها أمه ثلاث مرّات: مسامير.. مسامير..مسامير وماتت " أود لو أقولها وأموت".
بعد ذلك تحدثت عمتي إليهم، نقلت الأخبار، عاتبتهم على الرحيل ومازحت حفرة عبود الخاوية، ذكرته بجماله الأول وضحكته الأولى ثم عاودت بكاءها وناحت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* رواية " دابادا " / حسن مطلك / ص220.
&&&&&&&&&&&&&& جاز الحدود وفات& &دهري وتعدّه
&&وكل التعبنا بيه &&&&&&&&& ماي وتبدّه
&& فسمعها إسماعيل الذي كان يمرّ في الدرب المحاذي للمقبرة، تخط أقدامه الحصى و تثير الغبار فتوقف حتى أتاح لغبار أقدامه الصعود إلى وجهه وانتبه إلى فاجعة عمتي فودّ لو أنه قد حمل ربابته معه ليرتل لها أحزانها وليبث معها أحزانه: يُتم ووحدة وفقد وفقر وتكذيب. كان والده يتنبأ، فيحدث كل ما يتنبأ به ولم يخطئ إلا في توقع يوم القيامة فمات ولم تقم... وإسماعيل أقل من أبيه لكنه توقع نهاية الحرب فانتهت وقبلها توقع الفيضان وزواج عباس ومقتل قاسم وسفر محمود ووصول سعدي. لأنه يصف زمانه بأنه "زمن أصحاب سعدي والراقصات" ويتوقع حرباً أخرى ومن خلال الغبار شاهد وردة محنية الرأس عند حافة حفرة عبود فخرج من غباره و قصدها حتى وقف على القبر الخاوي ـ دون أن يشعرنَ بمقدمه ـ قرفص على حافته قبالة عمتي وأجابها على أشعار نواحها رغم أنه ودّ لو اصطحب ربـابـتـه:
&&&هم وحزن وفراق&&والدنيا والبين
&&يا روحي كلها عليج&&زين وتحملين
فصحت وردة على صوته واحتدّ بكاء عمتي على كلماته فرددت:
&&ها ساعة..ها سنتين&&ها عمري كله
&&جرح ابجرح يا روح&&يا هو الأشلة؟
فبكت وردة وشعرت عمتي بتفريغ أكبر وتلا إسماعيل على إيقاع الحزن عـيـنـه:
&&ترجى اليموت يعود&&روحي مهبولة
&&طبقت عليه الكاع&&ما بعد أنوله.
& فأنّت عمتي غير مبالية بوجع عينيها وارتفع نحيب وردة وانفجر إسماعيل بالبكاء فاستجابت عمتي لاحتفالية الشكوى وأضافت:
&يا رب إلك شكواي&من ذني الجروح
عجّل شفاهن عاد&&لو تاخذ الروح
& بكوا حتى أفرغوا عيونهم ولم تفرغ الصدور ثم هدأوا ومسحوا رشح أنوفهم المحمرة، وسادهم صمت القبور فشعر إسماعيل أن عليه قول شيء ما فقال ـ دون أن يكترث بأنه سيقول تنبؤاً لا يظنه في نفسه ـ "اطمئنوا ستجدون عبوداً... ستجدونه أو سيعود وسيرجع محمود". لم تكن هي الكلمات التي أراد قولها وعرف أنها لم تقع عندهنّ موقع تصديق لأن وردة لم ترفع رأسها وعـمتي واصلت مسح مخاطها بطرف عباءتها فقال: "اطمئنوا سوف أثأر ممن آذاكم.. آذانا جميعاً "، فانتبهت إليه وردة بحدّة وكأنها تكتشف وجوده توّاً.. وكأنها تعرفه أوّل مرّة رجلاً آخر وليس إسماعيل الوحيد، الفقير الساكن في بيت أبيه الطيني في أطراف القرية، عازف الربابة الموسوم بالكذب، وأجاب وردة بنظرات جادّة قائلاً: "عندي خطة..جهنمية" فحدقت إليه وردة لاستنطاقه، ودون أن تسمع عمتي ما قاله،سألته بعد أن أنهت تنشيف وجهها: "من يغسل لك ملابسك يا إسماعيل؟" ثم أضافت: "الله يساعدك... كيف حالك يا ولدي ؟" فأجابها مشيحاً بوجهه عن وردة وزافراً وهو ينهض "حال البين..حال الغراب يا عمّة" وغادرهنّ تشيعه وردة بنظراتها حتى وصل درب الحصى والغبار فنهضت مسرعة وصاحت به: "إسماعيل..& توقف" فتوقف وركضت إليه لتسأله: "أتعني بأنك ستثأر لنا من ذلك الغريب.. البعيد..؟" قال "هو بعينه" قالت: " الذي قتل قاسم وعبد الواحد وفوزي وأبي و...." قاطعها "لم أكره أحداً ككرهي له" قالت: "مثلي". قال: "فتّتنا وسوف أفتته" قالت: "ستحكي لي الخطة؟". قال: "سأحكي لكِ الخطة..لكِ وحدكِ لأن الآخرين يضحكون". قالت: "أ أنت صادق في كرهك له؟". قال: "كصدق دموعنا التي سكبناها الآن". قالت: "أتحلم بالخلاص منه؟". قال: "أكثر من حلمي بالخلاص من الفقر". حدّقت وردة في عينيه بعمق وقالت: ـ أنت رجل تستحق الاحترام.
فارتبك أمام عينيها وهو يبصر الجمال يعاود التفتح في وجهها ويجلي ذبوله فقال: "ولكنني...ولكنني...مشغول بالخطة.."
قالت: "أتتزوّجني؟" فبهره اكتمال تفتّح وجهها فقال موافقاً بمسرّة وعزم: "سأنفذ الخطة." ونادت وردة على عمتي من أجل العودة إلى البيت.
&