العالم تغيّر، حقيقة لا يمكن إنكارها من خلال الاستنجاد برطانة عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي. بل ان إستنجاداً كهذا لهو من بعض أمارات التغيّر الذي حصل طالما ان غرضه التأكيد علي بداهة الحرب التي لم تنته بعد. فالتشديد علي بداهة تصوّر كهذا ليبدو فائضاً علي الحاجة، ما لم يكن التصور المزعوم بعيداً كل البعد عن البداهة المفترضة.
بكلمات اخري فالقول أن الحرب او المعركة ما انفكت قائمة لهو محض زعم يحتاج الي برهان. وكيف لا يكون الأمر كذلك طالما ان إحدي القوتين الجبارتين (الاتحاد السوفياتي) قد إختفي من الوجود، وان بإختفائه، وبإختفائه فحسب، أمكن وقوع حروب، او حسم اخري، ما كانت لتقع او لتحسم لو كان النظام الدولي القديم ما انفك قائماً؟
فإذا ما كان ثمة حرب علي الاطلاق، فإنها حتماً ليست الحرب موضوع اللغة المستنجَد بها، طالما ان العالم لم يعد مقسوماً الي معسكريّ عقود الحرب الباردة. واذا كان ثمة معسكرات الآن متنافسة، فإن وجود هذه ليس مما يجيز استخدام لغة الأيام الخوالي.
صحيح ان لا الشركات العابرة لحدود الدول ولا المرجعية العالمية المتجانسة، المتوخي بلوغها، مما يرقي الي مستوي إرساء اسس عولمة سياسية ايضاً- اي ما يجعل سياسة مثل سياسة التدخل الانساني تلقائية الرخصة شأن ما هو الأمر عليه إقتصادياً وثقافياً - لكن يجب الاّ نُغفل اهمية السابقة التي تنطوي عليها العولمة بصورتها الراهنة: فيه وضعت سيادة دولة الأمة موضع تساؤل جدي. فإذا ما اضحي من المطلوب، بل المرغوب به، تجاوز حدود الدولة علي المستويين الاقتصادي والثقافي، وهما مستويان وثيقا الصلة بالسياسة، وبالتالي بسيادة الدولة، فلماذا لا يُصار الي القفز علي الحدود السياسة ايضاً؟
الي ذلك فإن العوامل التي جعلت العولمة الراهنة ممكنة لهي نفسها العوامل التي تجعل سياسة مثل سياسة التدخل الانساني واردة بل مطلوبة. فحيث ان التطوّر التقنيّ بلغ حداً صار من الممكن معه التغلب علي المسافات الفاصلة ما بين البشر لجهة الحصول علي حاجات وخدمات ومعلومات، امسي الناس قادرين علي معرفة فورية ومباشرة بما يجري في اي مكان من العالم. ولكن حينما يصير الناس علي وعي مباشر، من خلال شاشات التلفزة مثلاً، بما يجري من عمليات قتل جماعيّ او ترحيل وتطهير عرقيين، او ما شابه ذلك من فظاعات تقترفها جماعة قوية ضد اخري ضعيفة، او يرتكبها نظام جائر بحق مواطنيه ورعاياه، يمسي من اليسير ايضاً الحصول علي تأييد لتدخل دولي يرمي الي وضع حدٍ للمأساة المرئية والمسموعة يوماً بيوم وساعة بساعة.
ولعل ما يضمن تأييداً إضافياً ان عواقب التدخل السياسية والعسكرية لم تعد من الخطورة التي كانت عليها في الماضي. فمهما أثار تدخل إنساني من اعتراضات فإنه لن يكون من الخطورة بحيث يخلخل موازين القوي الدولية ويضع العالم علي شفير مواجهة مُهلكة، كما كان الأمر إبان الحرب الباردة. الي ذلك لم يعد الخوف من حجم الخسائر، لا سيما في ارواح القوات المتدخِلة، مما يعيق إرادة التدخل او يحبطها. وعلي ما يتبيّن من كل من حرب الخليج الثانية وحرب كوسوفو، فإن بفضل التطور التقني في مجال التسلّح أضحي من الممكن شن هجمات قاسية ودقيقة تشل قدرات العدو وتعفي القوات المتدخلة من مغبة نيرانه. فلقد بات شبح حرب فيتنام بعيداً من حياة الأميركيين بحيث يقودون معارضة رئيسية ضد سياسة التدخل.
وليس مصادفة ان أصدق الاعتراضات التي توجه الي هذه السياسة وأجداها، هي تلك التي تطاول كيفيّة تطبيق هذه السياسة وليس مشروعيتها المبدأية. فليس التمسك بأولوية سيادة دولة الامة، بما يجعل سياسة التدخل باطلة في اغلب الاحوال، هو ما يجعل الاعتراض مقبولاً علي نطاق واسع وانما إتهام هذه السياسة بالانتقائية، بما يدل علي ان السياسة المعنية محكومة بمصالح الدول التي تنتهجها وتطبقها.
وقد يجد مستخدم بلاغة الماضي في صدق هذا الاعتراض ما يسوّغ اللغة التي يستخدم. فتبعاً للإعتراض المذكور، فإن العالم لم يتغيّر بالقدر الذي يستوجب هجر البلاغة المعهودة إنما التمسك بها. فتزاول احد الجبارين وبخلو الساحة الدولية لقوة عظمي واحدة تتمثل بالولايات المتحدة، ومن يؤازرها ويحالفها من الدول الاوروبية، صار في وسع هذه القوة إتيان من الافعال ما تشاء. وحيث ان هذه القوة هي تعريفاً، تبعاً لأصحاب البلاغة القديمة، قوة إستعمار و إستكبار ، او ما شابه ذلك، فإن سياسة التدخل الذي تتبع لهي دليل علي ان الامبريالية او الاستكبار العالمي ممعنة في سياستها الرامية الي إخضاع مستضعفي العالم والقضاء علي ادني مقاومة تبدر عنهم. فهل ثمة دليلاً انصع علي ان المعركة لم تنته بعد ، بل انها إزدادت عرياً وشراسة ومباشرة؟
ولا شك في ان صاحب الرطانة القديمة، بما ينسي ويستبعد ويسكت عنه، يفلح في تقديم صورة لواقع الحال كهذه. فالعالم بالنسبة إليه ما هو الاّ مجموعة قوي متصارعة صراع الخير مع الشر، والأهم من ذلك ان كل من هذه القوي لهي من التماثل والتماسك الجوهري بما يجعلها ذات وجه واحد وثابت. وقوة هذه اللغة انما تكمن في إصرارها علي تجاهل حقيقة ان البلدان والمجتمعات التي تتمثل بها الامبريالية او الاستكبار العالمي ليست محض قوة متماسكة واحدة وانما هي مجموع قوي سياسية ومجتمعية تحكمها موازين داخلية هي عرضة دائماً للتغير والتأثر بما يجري علي المستوي الدولي بقدر تأثرها بما يجري في الداخل.
فهناك في بلدان ومجتمعات القوة العظمي المفترضة قوي معارضة داخلية لا تنضوي في أطر المؤسسات الحاكمة والراسخة. وهذه المعارضة التي ما برحت تتعاظم منذ عقد الستينات من القرن الماضي لهي الاجدي والاشد فاعلية في معارضة سياسة بلادها الخارجية من اية معارضة، او مقاومة، خارجية. بل ان لا امل لأية معارضة خارجية ما لم تسع الي إكتساب تأييد المعارضة الداخلية وتعزيز موقعها وفاعليتها. وان لفي تغيّر العالم ما يمنح هذه المعارضة الداخلية قوة إضافية في التأثير علي سياسة بلادها الخارجية. فعلي رغم ما لعبته هذه المعارضة من ادوار بالغة الأهمية في معاداتها لحرب فيتنام ولسياسة التسلح النووي والتمييز العنصري إبان الحرب الباردة، الاّ ان وجود معسكر شرقي معادٍ، وإنضواء بلادها في حرب باردة ضده، جعل ولاءها، وبالتالي صدقيتها، موضع شك وريبة.
اما اليوم وقد زال المعسكر المعادي، فلقد سقطت العوائق التي أعاقت المعارضة الغربية الداخلية عن اداء دور فاعل من دون ان يسمها ادني شك وريبة. فحيث لا عدو خارجياً تقوي المعارضة الداخلية وتكتسب صدقية اوسع. وعلي هذه المعارضة وحدها يتوقف الأمل في تقويم اعوجاج سياسة القوة العظمي والسعي للحؤول دون إنتهاجها سياسة مصلحة قومية فحسب. فإذا ما شاءت قوي المعارضة والمقاومة الخارجيتين، أكانت دولاً او جماعات متفرقة، ان تبلغ هدفها او تدنو منه، فإن تهذيب وتطوير لغتها بما يكسبها تعاطف وتأييد المعارضة الغربية الداخلية امر لا مناص منه. اما الذين يصرّون علي التسلح بلغة الأيام المنقضية، بحكاية حرب قوي التحرر الوطنية ضد الامبريالية او حرب المستضعفين ضد الإستكبار العالمي ، فإن ثمة من الدلائل الكثير مما يدل علي ان هذا الكلام لن يصل بهم الاّ حيث أودي بالنظام الايراني والنظام العراقي والنظام الصربي في عهد ميلوشيفيتش.(الحياة اللندنية)