&&
&&&&&&&&&&&&&& &&& حاورته: نجوى بركات

حاز الروائي الفرنسي جان ـ كريستوف روفين جائزة الغونكور الأدبية عن روايته أحمر برازيل الصادرة عن دار غاليمار.
جان كريستوف روفين ونخب الفوز

وجان - كريستوف روفين الطبيب الذي كان أحد الأعضاء المؤسسين لجمعية أطباء من دون حدود والذي اضطلع بمهمات رسمية عدة من الحكومة الفرنسية في مجال المساعدات الإنسانية، جاء إلي الكتابة الروائية قبل خمس سنوات حين نشر روايته الأولي التي حملت عنوان الحبشي وجعلته يحوز جائزتي غونكور القراء و ميديترانيه للعام 1997. ثم تبعتها روايتا إنقاذ أصفهان و القضايا الخاسرة والأخيرة نالت جائزة أنترألييه للعام 1999. تروي أحمر برازيل واقعة تاريخية حقيقية حصلت في العام 1555 حين قاد فيلغانيون الفرنسي، وهو أحد فرسان مالطا، حملة تتجه لاحتلال البرازيل التي كانت مستعمرة برتغالية آنذاك. تصل السفن الفرنسية الي خليج غوانبرا حيث تستقر في إحدي الجزر ليبدأ هناك صراع ضار بين الكاثوليك والبروتستانت ينتهي الي تدمير المستعمرة وإلي طرد البرتغاليين فلول الفرنسـيين.
وإضافة الي الوقائع التاريخية التي تضج بالمؤامرات والجواسيس والخلافات الدينية، تحكي الرواية قصة المراهقة كولومب والمراهق جوست (13 و51 عاماً) اللذين رافقا الحملة بحثاً عن والدهـما، وهما سيكتشفان في النهاية أن الأمـر كله خـدعة قضـت بإبعادهما كوارثين واستخدامهما كمترجمين، إذ ان العادة كانت تقضي باصطحاب الأولاد خلال الحملات الاستعـمارية، ذلك أن صـغر سـنهم يسـاعدهم علي تعلّم لغة البلدان المستعمَرة بسهولة وبسرعة.
في نهاية الأمر، تتشرذم المستعمرة الفرنسية ويهرب الولدان لكي يعيشا مع قبائل الهنود التي تحيا في الغابات وتمارس أكل اللحوم البشرية...
هنا حوار مع الروائي - الطبيب:
أبدأ بسؤال بديهي: أنت طبيب تحب مهنتك ومتمسك بها، فما الذي أخذك الي الكتابة ؟
- في الواقع، أنا لا أجد أي تعارض بين مهنتي الطب والكتابة. عندما اخترت الطب كنت شاباً وكنت أراه فناً يمارس في المجال الإنساني تحديداً، وخصوصاً أنني كنت محاطاً بأطباء قدامي كانوا في معظمهم من المثقفين ومحبي الأدب، لذلك، لم تكن الكتابة بالنسبة إلي أمراً متعارضاً مع ممارسة الطب، بل علي العكس. في ما بعد، انقطعت عن الأدب في شكل عام بسبب الدراسة وممارسة المهنة اللتين تتطلبان الكثير من الوقت. وهذا ما يستدعي ربما ضرورة شرح سبب عودتي الي الكتابة. أنا لم أختر مهنة الطب ضد الكتابة، اخترت مهنة تضعني في علاقة مباشرة مع الحياة ومع الناس، ويبدو في أن الأدب ينتمي الي المفهوم نفسه.
كيف أثرت خبرتك كطبيب وكأحد الأعضاء المؤسسين لجمعية أطباء من دون حدود ، علي رؤيتك الأدبية وعملك في الكتابة؟
- ببساطة، ساعدني ذلك علي الانفتاح علي العالم. أنا نشأت في قرية وسط فرنسا وكنت شبه معزول عما يجري في العالم من حولي. لا شيء في طفولتي أو في محيطي كان يحملني علي التعرّف إلي العالم. هي الظروف ربما وإمكان الحركة التي جعلتني علي صلة ببلدان العالم كله. الفضل كله هو لمهنة الطب.
بالنسبة إليك، هل توجد حدود فاصلة وواضحة بين معايشة حدث ما وعملية تناوله أدبياً؟
- عندما بدأت الكتابة، نشرت أعمالاً هي اقرب الي البحث منها الي العمل الأدبي. في الوقت نفسه، كنت مهتماً جداً بالشكل الأدبي للبحث السياسي الذي عرف مثلاً مع كتاب كبار أمثال توكفيل وماكيافيللي. غير أنني أصبت بنوع من الخيبة لدي نشر هذه الأعمال، لأن القراء لم يهتموا إلا بالأفكار السياسية علي حساب الأسلوب واللغة والبناء. هذا ما دفعني للاتجاه نحو الرواية حيث من الممكن ممارسة رغبة الكتابة ضمن فضاء أدبي حقيقي يتم بناؤه وحيث يحتل التعبير الأدبي والأسلوب مكانة مهمة. أنا شخصياً اخترت الشكل الروائي الكلاسيكي في شكل إرادي كي أنتمي الي تقليد أدبي كلاسيكي تكون كتابتي استمراراً له. وبعيداً من الخوض في نقاش أدبي معـمّق عن الأشـكال الروائــية الأخري، اخترت الروايــة الكلاسيكية لأنها ذات شكل فاعل وبسيط. حذوت حذو الكتاب الأميركيين أو البريطانيين أو الأميركيين الجـنوبيـين الذين لم يطرح خيارهم هذا أي إشكاليـة، وهم حين يتحدثون عن مراجعهم الأدبية يذكرون بكل فخر فيكتور هوغو و بلزاك مثلاً. في فرنسا، يبدو هذا الخيار نوعاً من العار أو مدعاة للخجل، لا أدري لماذا.
ومع هذا، نلت جائزة الغونكور وهي أكبر جائزة أدبية فرنسية.
- أجل، طبعاً... أسعدتني الجائزة لهذا السبب بالضبط...
وهي نوع من الاعتراف والتكريس الرسمي لخيارك الأدبي.
- أجل، لكن الاعتراف جاء قبلاً من القراء عندما نلت غونكور القراء عن روايتي الحبشي ، وهي جائزة أثبتت أن القراء معجبون بخياري الأدبي. عندما يأتي الاعتراف من القراء، يبدو الأمر مشبوهاً إذ يشاع أن العمل الأدبي تجاري وسهل ورخيص، لكنه في النهاية يمتلك دلالة مهمة وخصوصاً أن جائزة الغونكور تبعته لكي تشكل نوعاً من الاعتراف الإضافي المختلف بما أنه صادر عن جهات أدبية رسمية. لكن الأمر لا يتجاوز ذلك بكثير، إذ يبقي الحذر قائماً علي مستوي النقد الأدبي الفرنسي إزاء هذا الخيار الروائي الكلاسيكي...
لكنني طالعت كل ما كتب عن روايتك، وهو في مجمله إيجابي جداً. ما عدا مقالة سلبية واحدة ظهرت في صحيفة ليبراسيون غداة الإعلان عن الجائزة وقارنت روايتك بالمسلسلات التلفزيونية الرديئة. هل قرأت المقالة؟
أجل، تعرفين صحيفة ليبراسيون وموقفها من الرواية موقف إيديولوجي...
- أنا أوافقك الرأي بأن هناك قواعد معينة ينبغي اتباعها لدي كتابة الرواية. وهذا ما عمد التقليد الأدبي الفرنسي إلي ضربه تماماً مع تيار الرواية الجديدة مثلاً. ولكن، ألا ترى أنه يمكن استعادة تقليد روائي لا يتضمن أدني تحوّل متصل بعصرنا الحالي. أعني ألا تعتقد أن بلزاك أو هوغو كانا سيكتبان رواية كلاسيكية مختلفة لو عاشا اليوم ؟
- هذا مؤكد. ولكن يوجد خلط بين التحديث الشكلي والقصة. كما لو كانت هناك عودة قوية للرؤية الهيغلية للتاريخ إذ ينبغي للرواية أن تنطلق من شكل بدائي أولي كرواية الأميرة دو كليف لكي تصل الي شكل متقدّم هو روب غرييه مثلاً...
أجل، لكنني أتحدث عن موضوع آخر. لنأخذ مثلاً رواية اسم الوردة للإيطالي أمبرتو إيكو. من البديهي القول إنها تنتمي الي تقليد روائي كلاسيكي. ومع ذلك، فهي حديثة وعصرية جداً في تكامل بنائها وغني الأسلوب وعمق الموضوع وثراء الشخصيات. وفي ما يتعلق بروايتك الأخيرة أحمر برازيل ، ألا ترى أن تبسيط الشكل الروائي إلي هذا الحد، هو نوع من الخيار...
- السهل ؟!
أجل، بمعني ما.
- في روايتي القضايا الخاسرة التي نالت جائزة أنترألييه ، كان البناء الروائي مختلفاً تماماً. فيها اعتمدت شكل اليوميات التي يكتبها شيخ أرمني أفريقي وفيها يروي قصة معقدة ومحكمة التركيب إلي حد منعني من إجراء أي تعديل قبيل الانتهاء من الكتابة. كان بناؤها مترابطاً ومعقداً ومشغولاً في شكل كبير. أعني أنني عملت علي هذا النوع من الكتابة الروائية في أعمال سابقة لأن الموضوع كان يفرض ذلك... كنت مدعواً أخيراً الي المشاركة في معرض للكتب وهناك التقيت كاتباً صديقاً لي أخبرني كيف سقطت عليه صورته المعلّقة فوق رأسه فيما كان يوقّع كتبه وتسببت بجرحه. ذكرتني هذه القصة بما يحدث لي حالياً مع جائزة الغونكور. فأنا وكأنني من وقعت عليه صورته وآذته. أنا لا أدعي انني كتبت تحفة فنية. إنني كتبت قصة كنت أرغب بروايتها بكل بساطة. جاءت الرواية علي هذا الشكل من دون أن يعني هذا أنني أرفع لواء تيار أو مدرسة أدبية معينة.
في معظم المقابلات التي أجريت معك، قلت إنك لست كاتباً؟
- أجل قلت ذلك لكي أحمي نفسي ربما ولئلا أبدو ...
ولئلا تبدو كمن يأخذ نفسه علي محمل الجد؟
- لئلا أبدو كمن يعطي دروساً للآخرين. يصعب شرح هذا. أنا جئت الي الرواية قبل خمس سنوات، وهي مدة قصيرة بالفعل حدثت خلالها أشياء غريبة ككثرة الجوائز والضجة الإعلامية... هل أزعجك قولي إنني لست كاتباً؟
بل علي العكس، أعجبني ذلك. لكنني أحاول أن أفهم ما يعنيه روائي حصل علي جوائز أدبية مهمة حين يقول إنه ليس كاتباً. أنا أري في ذلك رغبة في الابتعاد من حيز رسمي مكرس والتمسّك بحرية الهامش...
- سأحاول الإجابة ببساطة، ربما قلت ذلك لأنني أكتب بطبيعية كبري، أعني أن الأولوية بالنسبة إلي هي سعادة الكتابة. من هنا، لا أري نفسي كاتباً بحسب التعريف الذي أعطيه للكاتب. الكاتب شخص مستغرق كلياً في عمله. أنا لا أجيء من هم أدبي بحت، بمعني أنني حين قررت الكتابة، لم أطرح علي ذاتي الأسئلة التي يطرحها الكاتب علي نفسه عادة من ناحية الشكل والبنية وسواها من التفاصيل. أنا استوليت علي أداة الكتابة من دون أن أطرح علي نفسي الأسئلة التي تتعلق بحيثيات استخدامها.
لنتناول موضوع رواية أحمر برازيل وهو موضوع تتناوله أيضاً في أعمالك الأخري. قصة الصدام بين حضارتين - وبالتحديد الحضارة الأوروبية حين تلتقي مع حضارات أخري - مع التركيز علي اللحظة الأولي التي يتم فيها هذا اللقاء أو تلك المواجهة. اللحظة الأولي هذه لحظة غنية، حاسمة وعالية الزخم بالنسبة إليك.
- في ما يتعلّق بالبرازيل، كان هناك جانب جديد ومختلف بالنسبة الي الفرنسي أو الأوروبي الذي أمثله. في شكل عام وبحسب الرؤية الأوروبية الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، هنالك من جانب، هنود متطورون جداً أنتجوا حضارة مهمة، في المكسيك، وقاوموا وخسروا لكنهم قاوموا. وهنالك من جانب آخر هنود بدائيون لم يقاوموا فاختفوا وزالوا.
هكذا نفهم كيف بقيت آثار من حضارة الأزتيك مثلاً وكيف اختفي كل أثر في البرازيل لحضارة كانت في أساسها حضارة أناس عاشوا في الغابات. عندما نعود الي المراجع التاريخية التي تصف تلك الحقبة في البرازيل، نجد الأوروبيين من ناحية وفي المقابل لا أحد. أو بالأحري هناك شيء بدائي أكثر تعقيداً وحساسية من أن يستوعبه الأوروبيون. في الحقيقة، كانت حضارة هنود البرازيل أكثر حياة من تلك التي بقيت آثارها في المكسيك مثلاً. لماذا ؟ لأن أحد أهم ملامحها كان أكل لحوم البشر، أي امتصاص الآخر. في النهاية انتهي اللقاء معها حين تمّ التهام الحضارة الأوروبية. نصف أعضاء البعثة التي ذهبت لاستعمار البرازيل، بقيت لتعيش مع الهنود، لا مع البرتغاليين، فاندمجت معهم وشكلت المهد الأول لما سيصبح في ما بعد المجتمع البرازيلي.
بالطبع، تبنيت في الرواية وجهة نظر الأوروبيين أولاً لأنني منهم وثانياً لأنه لم يبق هنود من سكان تلك المنطقة الذين يقتصر أثرهم علي الشهادات التي وصلتنا من بحارة ذلك العصر. كان علي أن أختلق حياة أولئك الهنود من مخيلتي فأذهب الي أقصي ما أستطيع في وصف ذلك الصدام أو ذلك اللقاء بين هاتين الحضارتين.
من الجلي أن موضوع الرواية يشكل صدى ولو بعيداً لما جري ويجري من حروب وصدامات وأحداث في عصرنا الحالي. فهل ترى أنه من الممكن يوماً أن يتم لقاء بين حضارتين لا ينتج اقتتالاً وصداماً ويؤدي الي تطويع أو التهام الواحدة للأخري؛ وهل قدّم التاريخ الإنساني مثالاً أو نموذجاً عن لقاء من هذا النوع؟
- النماذج التي اخترتها هي للقاء حضارات لم يؤد بالضرورة إلي خسارة الواحدة علي حساب الأخري، أكان ذلك في رواية الحبشي حيث عادت الحبشة وانغلقت علي ذاتها خلال 150 عاماً، أو في أحمر برازيل حيث انتهت الحملة إلي تدمير الفرنسيين لأنفسهم. الحقيقة ما يهمني ليس الصراع كمشهد رياضي يؤدي الي ربح أو خسارة...
هذا واضح، لكنني أحاول أن أفهم رؤيتك الذاتية الي الأمور، خصوصاً أنك من خلال عملك في منظمات المساعدات الإنسانية، كنت علي علاقة يومية وميدانية بواقع شبيه بذاك الذي تتحدث عنه في رواياتك...
- أجل، لكنني لا أعرف كيف أختصر ما يقرب 600 صفحة وأصوغها في جمل قصيرة.

في الرواية تتخذ موقفاً حين تنحاز الي الشخصيات التي تتبني موقفاً إنسانياً وسياسياً وحضارياً واضحاً يقوم في خيار العيش الي جانب الهنود والاندماج معهم. ما أرغب في الخوض فيه معك هو الآتي: إذا نقلنا الموضوع الي عالمنا الحالي، المثال الأقرب لما كان يقوم به الغرب عبر التاريخ حين كان يرسل حملاته الصليبية أو بعثات التبشير لمساعدة أو تنوير أو تحضير من كان يراهم برابرة ومتوحشين، هو الحروب التي تحصل في عالمنا اليوم. أنت رافقت هذه الحروب كطبيب يعمل في المساعدات الإنسانية وأحياناً كمبعوث سري مكلّف من الحكومة الفرنسية.
- من الممكن القيام بقراءة لروايتي علي مستويات عدة. هناك بالطبع موضوع لقاء الحضارات وهناك موضوع الدين أو التطرف الديني الذي يكتسب أهمية إضافية علي ضوء الأحداث الحالية. اليوم، يرتبط مفهوم التطرف الديني بالإسلام تحديداً، لكن لو عدنا الي الوراء، لرأينا أن التطرف كان لصيقاً بمختلف الأديان التوحيدية ومنها الدين المسيحي.
وهي المرحلة التي أتحدث عنها في روايتي التي كانت نذيراً للحروب الدينية التي ستشتعل في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت. بهذا المعني، تطرح الرواية تساؤلاً حول العلاقة الملتبسة التي توجد بين الديني والمقدس في كل الأديان علي اختلافها، وهو تساؤل يشكل صدي لما تطرحه علينا الأحداث الحالية من تساؤلات. قرأت أخيراً كتاباً لكاتب إيراني أقدره كثيراً عاد ليستقر في طهران. عنوان الكتاب النور يأتي من الغرب . أذكره هنا لأنني أؤيد رؤيته الفلسفية لهذا الموضوع. الفكرة هي أن هناك عدداً من القيم التي لا تنتمي الي مكان محدد حتي ولو ولدت فيه.
فالخطاب القائل مثلاً إن حقوق الإنسان هي من إنتاج الأوروبيين، خطاب لا يملك أي شرعية في نظري إذ لا يجوز لجهة ان تحتكر مثل هذه القيم، كما لا يجوز لجهة أخري أن تحتمي بها بحجة أنها كانت وراء ابتداعها. علي مستوي العمل في ميدان المساعدات الإنسانية بالتحديد، لا ريب في أن فرنسا تمارس دوراً كبيراً ومهماً في هذا المجال، لكنني أذكّر دائماً بأننا خلال 150 عاماً وبالتحديد حتي الستينات، كنا نحن الفرنسيين من يتلقي المساعدات بسبب الثورات والحروب والمجاعات التي ألمت بنا. أنا لا أملك موقفاً يقول إننا نحن الأغنياء نساعد الفقراء، خصوصاً أننا في فرنسا عشنا خلال قرن ونصف القرن علي مساعدات منظمات إنسانية كمنظمة كير مثلاً. إنني أعارض تماماً الفكرة التي تجعل من حقوق الإنسان ومن المساعدات الإنسانية فرعاً من الثقافة الغربية. هذه القيم ليست غربية، إنها لصيقة بالمجتمع الإنساني أياً كان انتماؤه، جنسه أو ثقافــته.
لكن، ماذا لو أردنا تحديد مفهوم العمل الإنساني اليوم. في البداية كان هدف الجمعيات الإنسانية ومن بينها أطباء من دون حدود أن تحافظ علي استقلاليتها فتضع حدوداً تفصل بينها وبين السياسي. ألا تشعر بأنها اليوم تنزلق إلي منطقة خطرة وملتبسة بعد أن استولي عليها السياسي؟
- تحاول القوي السياسية استيعاب عمل المنظمات الإنسانية، لذلك أري أن من حق هذه الأخيرة أن تدافع عن نفسها فتقوم بوضع المسافة الكافية التــي تحفظ مبادئها الأصلية. أنا لست ساذجاً لكي أري في العمل الإنساني مهمة بسيطة أو فاعلة. في المقابل، لست سلبياً أيضاً. يجب أن نعترف بأن شعوراً بالرحمة والتعاضد يسود المجتمعات الديموقراطية التي بلغت مستوي معيشياً واقتصادياً مرتفعاً وأن الرغبة المقاسمة والشعور بالتعاضد موجودة فعـلاً. المسألة مرتبطة أساساً بضرورة التحرك ضمن حد أدني من الوعــي السياسي. أما الســؤال الأخير فيبقي: ما هو البديل؟
بعد اضطلاعك بمهمات رسمية في مجال العمل الإنساني، ألا تخشي أن يصيبك ما أصاب بطليك المراهقين حين رافقا البعثة الي البرازيل بحثاً عن والدهما فاكتشفا أن الأمر خدعة هدفها إبعادهما واستغلالهما لمصالح معينة؟
- في روايتي القضايا الخاسرة أقول إن الحياد أمر جيد ولكن الحنين الي الالتزام يبقي حياً فينا. أنا أنتمي الي جيل اتجه نحو العمل الإنساني بسبب شعور بالنقص أدت إليه نهاية الإيديولوجيات، لكنه في الوقت نفسه، سعي الي الحفاظ علي شكل معين من الالتزام من دون أن يتمكن فعلياً من تحديد الخندق الذي ينتمي إليه. طبعاً نحن ننحاز في عملنا الي جانب الضحية أكان ذلك في البوسنة، أفغانستان أو سواها... بهذا المعني، ربما كنت وسواي نشبه الشخصيتين اللتين ذكرت... لا أعرف، ربما...
سؤال أخير، هل...
- يربكني مثل هذا السؤال، أعني أن هذه المسألة تشغلني باستمرار...
ربما لأنه سؤال أبدي مطروح علينا جميعاً: هل يمكن تغيير الأمور من الداخل من دون أن نقع في الفخ ومن دون أن نضفي شرعية ما علي سياسة نري بوضوح أنها إنما تستغلنا لمصالحها الذاتية ؟ أنا إنما أطرح عليك هذا السؤال كروائي يملك حرية الخيار بعدما خاض تجربة الكتابة وعرف الشهرة والنجاح.
- إذا كنا مؤمنين فعلاً بإمكان التحرّك نتحرك. وهذا ما فعلته. أنا لا أقول إن الكتابة تشكّل ملجأ لي. ولكن لو لم يقدني العمل الإنساني نحو أفق مسدود، لما كنت ألجأ الي الكتابة ربما. لا أدعي أن الكتابة لا تؤدي إلي آفاق مسدودة من نوع آخر، ولكنني كنت من بين الأوائل الذين وعوا حدود العمل الإنساني وقاموا بأنشطة استفزت منظمات المساعدات الإنسانية نفسها.
بهذا المعني، هل تشكل الكتابة بالنسبة إليك شكلاً آخر من النضال الذي يتيح هامشاً أكبر من الحرية؟
- أنت مصرة علي أن تصنعي مني مناضلاً!
لا أبداً، لكنك قلت إنك اكتشفت حدود العمل الإنساني وأن الكتابة...
- أجل الكتابة نوع من الالتزام، لكنني لا أنتمي بالضرورة إلي التيار القائل بضرورة التعبير عن واقع سياسي بطريقة مباشرة وأفقية.
لكنك ستستمر بالكتابة؟
- أجل ولكن ربما بطريقة مختلفة. سوف أعمل في شكل أكبر علي البنية الروائية من الآن فصاعداً! (عن "الحياة")
&
نجوى بركات كاتبة وسينمائية لبنانية تقيم في باريس