&
إيلاف- نبيل شرف الدين: بين المخابرات والسياسة صلة تاريخية، وكثيراً ما تفضي الأولى إلى الثانية، وبتتبع حركة صعود السياسيين وتبوئهم للمناصب القيادية في أهم دول العالم سنلحظ ظاهرة متكررة منذ ما يقرب من ربع قرن, هي ان المخابرات باتت الباب الأوسع للعبور إلى السياسة والوصول إلى أعلى مراتبها، ليس فقط على مستوى الأشخاص بل صعيد رسم سياسات الدول وصناعة التحالفات والعداوات والحروب والفضائح والبطولات.
وكثيرون هم ضباط المخابرات الذين اصبحوا رؤساء ورؤساء حكومات ووزراء مكافأة لهم على خدمة أوطانهم الذين حق لهم الانتقال من العمل السري في المخابرات إلى العمل تحت الأضواء السياسية ولكن بعد قضاء زهرة شبابهم واثبات رجولتهم في الظل. الاتحاد السوفييتي السابق, ومن بعده وريثته روسيا, النموذج الأوضح في الانتقال من عالم المخابرات إلى السياسة. وموسكو تحديدا اكثر العواصم التي اصبح مديرو مخابراتها رؤساء ووزراء. وهناك قائمة طويلة بأسماء السياسيين الذين كانوا جواسيس او ضباط مخابرات في الأساس، أهمهم الآن فلاديمير بوتين الذي كان مديرا للمخابرات الروسية قبل ان يوليه الرئيس بوريس يلتسين رئاسة الحكومة في 9 أغسطس 1999 ويرشحه أيضا لخلافته في الكرملين، وقبل بوتين، كان هناك يفجيني بريماكوف، الذي كان ضابط مخابرات محترفاً لفترة طويلة, صال وجال في منطقة الشرق الأوسط من خلال عمله تحت ستار الصحافة مراسلاً لصحيفة برافدا ثم أصبح مديرا لجهاز المخابرات (كي. جي. بي) فوزيرا للخارجية فرئيسا للوزراء، كما عين بريماكوف ـ قبل سقوط الاتحاد السوفييتي ـ عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، أعلى سلطة في البلاد، ومع خبرته السياسية اصبح مؤهلا للصعود إلى القمة.. وقد بدأ صعود نجمه في الشئون الخارجية كمستشار لجورباتشوف الذي ارسله الى صدام حسين خلال ازمة الخليج لإقناعه بالانسحاب من الكويت، وحاول بريماكوف إقناع صدام بأن الدنيا تغيرت والحرب الباردة انتهت، وان العالم جاد في محاصرته وتجويع شعبه.. لكن الرئيس العراقي كان لا يزال أسير حقبة الديناصورات المنقرضة.. فكان ما كان.
وفي ذلك الوقت كان يسيطر على الخارجية السوفييتية وزير لا يرى في الدنيا سوى عيون واشنطن هو كوزيريف الذي وصف ـ لشدة انحيازه للسياسة الامريكية ـ بأنه مساعد وزير الخارجية الامريكية في الكرملين.. وهو ما أدى الى انهيار السياسة الخارجية السوفييتية ومعه كوزيريف شخصياً، وزيادة الأعباء على بريماكوف الذي وجد في نفسه مسئولا عن المخابرات الخارجية بعد انفصالها عن جهاز المخابرات.. المعروف بـ (K.G.B).. وفي عام 1996 اصبح بريماكوف وزيرا للخارجية، وبريماكوف خليط من الصحفي والباحث والسياسي والشاعر والمعلم ورجل المخابرات.. ورجل المهام الخاصة والسرية.. ولعل ذلك ما جعله شخصية فريدة تجيد لعبة حلول الوسط.. وارضاء جميع الاطراف.. او على الاقل اقناعهم بذلك وهي ذات الصفات المطلوبة في أي سياسي ناجح& رغم انحسار الأضواء عنه الآن.
وقبل بوتين وبريماكوف بفترة طويلة قفز يوري اندروبوف رئيس الاتحاد السوفييتي الراحل الى الكرملين من الـ (كي. جي. بي) ليتولى الرئاسة بعد ليونيد بريجنيف, لكن القدر لم يمهله طويلا للبقاء في منصبه الذي وصل اليه في شيخوخته، وربما لو وصل لمنصبه مبكراً لتغير التاريخ، على انه يمكن القول إن الظاهرة ليست حكرا على الخندق الشرقي فقط، بل امتدت إلى الغرب أيضاً، وابرز الامثلة على ذلك في المعسكر الليبرالي الرئيس الامريكي الأسبق جورج بوش (الأب) الذي كان مديرا لجهاز المخابرات الامريكية (سي. أي. ايه) فترة طويلة من الزمن تحول بعدها الى العمل السياسي كنائب للرئيس الجمهوري رونالد ريجان ثم رئيسا للولايات المتحدة، وفي اسرائيل يكاد يكون جهاز المخابرات بأفرعه المختلفة مفرخة مثالية للسياسيين , فايهود باراك رئيس الحكومة السابق , كان مديرا للمخابرات العسكرية, قبل أن يتقلد عدة مناصب سياسية وعسكرية. أيضا اسحاق شامير كان رئيسا للموساد, ثم وزيرا, فرئيسا للوزراء.
وفي عالمنا العربي لهذه الظاهرة وجودها المعروف، فهناك عشرات النماذج قفزت من كواليس الحياة السياسية الى مقدمتها. وفي عصر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كان كثير من الوزراء الذين تولوا مسئوليات سياسية من مدرسة المخابرات التي فرخت كوادر سياسية مؤهلة لتولي المناصب القيادية. وحتى بعد عبد الناصر وفي حقبة السادات حدث الشيء نفسه, فأصبح مدير للمخابرات المصرية مثل كمال حسن علي وزيرا للخارجية، أيضا الوزير امين هويدي الذي كان هو الاخر مديرا للمخابرات, وفي السودان هناك عبد الوهاب ابراهيم الذي كان يتولى رئاسة جهاز الامن قبل ان يظهر الى العلن ويصبح وزيرا للداخلية في عهد جعفر نميري، كذلك علي نميري فقد كان رئيسا للمخابرات السودانية ثم سفيرا في السلك الدبلوماسي. وفي الاردن تمكن اثنان من مديري المخابرات هما مضر بدران واحمد عبيدات من تولي رئاسة الحكومة في فترتين من اهم فترات التاريخ السياسي للاردن. واخر من كوفيء بمنصب سياسي, اللواء سميح البطيخي رئيس المخابرات، الذي لعب دورا في تأمين العرش الهاشمي ابان غياب العاهل الاردني الراحل الملك حسين, في رحلة علاجه الأخيرة إلى الولايات المتحدة.
وفي العراق كان صابر الدوري مستشارا في رئاسة الجمهورية, بعد ان كان مديرا لجهاز المخابرات اما من ابرز مديري الأجهزة فهو رفيق السامرائي مدير جهاز المخابرات العراقي، الذي انقلب على صدام وانضم إلى المعارضة العراقية بعد محاولة فاشلة للإطاحة به.